الجديد

محاكمة راشد الغنوشي .. تآكل “الجلد الخشن” !

منذر بالضيافي

محاكمة راشد الغنوشي، بتهمة تبييض الاموال، أيا كانت تداعيات مسارها القضائي ( وهذا ليس مجال اهتمامنا في هذه الورقة/المقال)، فان قيمتها بل اهميتها رمزية وسياسية، فهي محاكمة تأتي في سياق تصفية البناء القانوني والدستوري والسياسي، لعشرية  “الانتقال الديموقراطي” عند الفاعلين فيها، و “العشرية  السوداء” عند خصومها، وتحديدا للفاعل الرئيس فيها، حركة “النهضة” الاسلامية ممثلة في رئيسها راشد الغنوشي، واعلان عن أفول “الاسلامية التونسية”، الذي هو أيضا  اعلان عن نهاية هيمنة تيار “الاسلام السياسي” لا في تونس فقط بل و خارجها (العالم العربي)، هذا التيار الذي تمدد زمن سنوات ما عرف “بالربيع العربي”، الذي كان في أبرز عناوينه “ربيع  اسلاموي”، و يعد الغنوشي من أبرز وجوهه وحتى مهندسيه ( الأممية الاخوانية).

 

ضمن، هذا السياق يجب التعاطي مع مثول مرشد “اخوان تونس” امام القضاء، وهو الذي كانت له سطوة على البلاد و “الجماعة” طيلة سنوات ما بعد “الثورة”، ما يجعل من ساعات التحقيق الطويلة، في القطب المخصص لقضايا الارهاب وتبييض الأموال، بتهم كان نتخيل اننا تجاوزناها دون رجعة، محاكمة للحركة الاسلامية، بعد تصدر الحكم عشرية كاملة، وعودة الى التعاطي معها كملف أمني، مثلما كان الامر قبل “ثورة جانفي 2011”.

 

محاكمة “الجماعة” و “العشرية”

 

كما تتجاوز المحاكمة “الجماعة”، الى محاكمة لعشرية الثورة ولمسار ما عرف ب “الربيع العربي”، الذي انطلق من تونس ودفن فيها، بعد زلزال احدثه في المنطقة، ما تزال تداعياته ماثلة في عواصم عربية بارزة مثل القاهرة وطرابلس ودمشق.

رسائل المحاكمة، تكمن أهميتها  في كونها ترتقي الى تصفية لارث حكم تيار الاسلام السياسي، و لديمقراطية كانت تروم اساسا “التمكين للجماعة”، ما جعلها بلا حاضنة شعبية، و عودة لحكم مركزي قوى ، قد يكون اشد من الذي كان قبل الثورة، واستئناف تونس لموقعها ضمن النظام العربي الرسمي، الذي كان أكثر “واقعية سياسية”، ما جعله ينجح في غلق قوس ” الحلم الديموقراطي ” الذي أتت به “ثورات الربيع العربي”، الذي تبين انه يعاني من حالة استعصاء عربي.

وان الديمقراطية، لم تتحول الى مطلب مجتمعي، فالمجتمعات العربية تعاني من التفقير والتهميش و الأمية … وهي تربة غير مناسبة لنبتة الديموقراطية، ليبقى “الحلم الديموقراطي العربي”، ضمن تطلعات النخب، التي هي بدورها في قطيعة مع ما يجري في رحم المجتمع، ولا تملك المفاهيم لفهمه وتحليله، ويبرز ذلك من مقاربتها لظاهرة قيس سعيد، اذ غلب عليها “الشيطنة” و “الذعر” على “الفهم” و “التفسير” وتقديم المقترحات والبدائل، وهو حال الحركة الاسلامية وزعيمها راشد الغنوشي، التي اكتفت باعتبار ما حصل “انقلاب” ، واستمرت في “حالة انكار” للأسباب و لمسؤوليتها عما حصل.

 

“الابن غير الشرعي لبورقيبة”

 

بالعودة لراشد الغنوشي، فقد بينت العشرية الأخيرة، مخاطر تمركز القرار السياسي والمالي والتنظيمي بيد “المرشد” راشد الغنوشي داخل “الجماعة”، و في الوقت الذي يطالب فيه بالديمقراطية في البلاد، كان يكرس ويثبت حكم الفرد داخل “التنظيم”، بالرغم من التظاهر بأن الحركة تخضع في تسييرها لقرار وسلطة المؤسسات، وأبرزها مجلس شورى الجماعة.

أسلوب حكم و ادارة ، حاول “الشيخ” نقله بل اسقاطه على ادارة وتسيير البلاد (تجربة رئاسة البرلمان )، اذ جعل من نفسه محور تدور في فلكه “مناورات الحكم”، وبرز هذا الأسلوب جليا في ادارته للبرلمان، اذ دفع الغالي والنفيس من أجل كرسي “قبة باردو”.

وهو ما سهل اضعافه ثم لاحقا اسقاطه، وليسقط معها وهم “الزعامة” التي أرادها “الشيخ”، أن تكون عابرة “الجماعة” الى “البلاد”، فقد كان المرحوم عبد القادر الزغل أستاذ علم الاجتماع،  يتندر دائما بالقول أن راشد الغنوشي هو “الإبن غير الشرعي لبورقيبة”، وكان الغنوشي يردد ما قاله عبد القادر الزغل، وهما منه أنه بصدد تمثل “الزعامة البورقيبية”.

بدأت متاعب زعيم حركة النهضة ( إخوان تونس)، راشد الغنوشي تنكشف للعموم، منذ قرر الترشح للانتخابات التشريعية 2019 ثم رئاسته للبرلمان، في خطوة اعتبرت داخل وخارج “الجماعة” بمثابة “خطأ جسيم”.

ازداد من منسوب أزمة الثقة المجتمعية  وأيضا داخل النخب في “زعيم حركة النهضة”، وهو ما أكدته كل عمليات سبر الآراء، التي كشفت عن أنه الشخصية السياسية الأبرز، التي لا تحظى بثقة التونسيين، خصوصا في ظل فشل “الشيخ” في إدارة المؤسسة التشريعية، وأيضا تعمده “تحويل وجهتها”، وجعلها سلطة و ”رئاسة” مستقلة بذاتها وذات نفوذ.

مما جعله يدخل في تنافس مبكر مع رئيس الجمهورية، ليدشن بذلك بداية صراع مفتوح مع قصر قرطاج، صراع استطاع من خلاله الرئيس قيس سعيد المستجد على المشهد السياسي، والفاقد لكل سند حزبي وارتباط خارجي، أن يلحق هزيمة بـ”الضربة القاضية” بالشيخ الثمانيني، “الزعيم” صاحب “الجلد الخشن”، كما قال عن نفسه في تصريح منسوب إليه، ردا على منافسة “أخوته” له في قيادة الحركة.

 

25 جويلية .. نهاية “حكم المرشد”

 

بعد قرارات 25 جويلية  2021، التي يبدو أن “الشيخ” لم يتوقعها، ووقف عاجزا عن الرد عليها، بالرغم من تحرك باهت أمام البرلمان، وحملة “دعاية” خارجية، فشلت في إقناع صناع القرار في عواصم الغرب وأمريكا، بوجاهة عودة المسار الدستوري، وفق تصور ورؤية الإخوان.

وبالمناسبة، نقدر أن قرارات الرئيس سعيد التي جمدت وعلقت رئاسة الغنوشي للبرلمان، أحدثت شرخا داخل حزبه، و لا يستبعد أن تنهي “نهضة المرشد” (التي امتدت من سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم)، مثلما أنهت وجود تيار الإسلام السياسي في الحكم، الذي صعد له بعد ثورات “الربيع العربي”.

أقدر أن “الشيخ” راشد الغنوشي هو الخاسر الأكبر من قرارات الرئيس قيس سعيد، استنادا للفصل (80) من دستور 2014، والذي بمقتضاه تم تجميد البرلمان الذي يرأسه الغنوشي، ورفع الحصانة عن كل النواب، والشروع في تتبعات قضائية ضد البعض منهم. وسط تصاعد المطالب الداعية إلى عدم عودة البرلمان للاشتغال، الذي يرون فيه أنه يمثل أسوأ تعبيرات المنظومة السياسية، التي كانت وراء إعلان الرئيس سعيد عن “الخطر الداهم”، بعد أن “باتت الدولة مهددة بالتفجير من الداخل”، فضلا عن حالة العجز الحكومي عن إدارة وتسيير البلاد.

تم تحميل الائتلاف الحكومي الذي كانت تقوده وتتزعمه “النهضة” المسؤولية عن حالة الفشل الكبير الذي تردت إليه الأوضاع في البلاد، وتحديدا الحزب الرئيس الداعم للحكومة: حركة النهضة، التي صمدت في الحكم خلال كامل “عشرية الثورة”،  خاصة من خلال هيمنتها على مجلس نواب الشعب، الذي حوله رئيسها إلى “سلطة”، تنافس السلطة التنفيذية في مهامها ووظائفها، وحتى في تمثيليتها بالخارج وفي العلاقات الدبلوماسية.

وهو ما رفضته كل القوى السياسية، التي رفضت تذرية  و تشتيت السلطة إلى رئاسات ثلاث، التي جاء بها دستور 2014، من خلال نظام سياسي “هجين” جعل السلطة مشتتة، مما حول الدولة إلى مجموعة من الجزر، الأمر الذي جعل البلاد بلا حاكم فعلي مسؤول مباشرة أمام الناس.

نظام سياسي حرصت حركة النهضة على الانتصار له وفرضه، مما جعل الجميع يحملها مسؤولية فشله، وما صاحب مرحلة ما بعد العمل بدستور 2014 من تعدد للأزمات، والفشل الشامل والمركب الذي انزلقت إليه البلاد، والذي كشفته وعرته أزمة وباء (كوفيد 19)، التي حصدت أكثر من (20) ألف تونسي، وحولت تونس من صورة بلد صاعد إلى بلد منكوب، يعيش على الصدقات والإعانات والديون.

لتجد بذلك النهضة ورئيسها نفسيهما الطرف المتضرر رقم واحد مما حصل، وقد خرجت خلافات حركة النهضة للسطح، من خلال تواتر الاستقالات، كما تم في أكثر من مناسبة تسريب نصوص وبيانات، وإن اختلفت في “حدتها” فإنها تلتقي في توجيه نقد لفشل سياسات الحركة، في ظل إدارة الغنوشي ومن حوله، من العائلة ومن المؤلفة قلوبهم.

 

راشد الغنوشي .. تآكل “الجلد الخشن”

 

كما تحولت التناقضات الداخلية، إلى مادة إعلامية في الداخل والخارج، في “تقليد” يتعارض وطبيعة “الجماعة” (التنظيم الإخواني)، التي تحرص على الاحتكام لمقولة أساسية في أدبياتها وهي: “حق الاختلاف وواجب وحدة الصف”

وتجدر الإشارة إلى أن المناخ العام داخل الحركة، أصبح منذ المؤتمر الأخير (ماي 2016)، ينذر بتفكك البناء التنظيمي، وسط رفض كبير وواسع هو بصدد التمدد لهيمنة الغنوشي والمقربين منه وكذلك عائلته، وغياب التسيير الديمقراطي وعدم الشفافية، التي كرست هيمنة راشد الغنوشي والمقربين منه على الحركة، وهو الذي استطاع “تصفية” كل خصومه، مما سمح له بالتربع على “عرش” الحركة، أكثر من نصف قرن.

توجه للغنوشي انتقادات شديدة، تجاوزت البيت الداخلي، لتعلن عن نفسها بشكل علني في وسائل الإعلام، صاحبتها استقالات لرموز هامة في الحركة، على غرار حمادي الجبالي وعبدالحميد الجلاصي، و”انسحاب صامت” للشيخ عبد الفتاح مورو، تزامنت مع إعلان قيادات أخرى “التمرد” على سلطة الغنوشي القانونية –كرئيس برلمان منتخب– والرمزية بوصفه المرشد التاريخي والمؤسس ل “الجماعة”.

برزت هذه التصدعات، في زمن تخضع فيه الحركة إلى ضغط سياسي، فضلا عن كونها تعرف تراجعا في قدراتها “التعبوية” والجماهيرية، كما أنها عجزت عن إيصال مرشحها للرئاسة: عبد الفتاح مورو للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، وهو ما اعتبر نتيجة “مذلة” وأيضا تعبيراً عن عدم تحمس قيادة الحركة، بزعامة الغنوشي لإيجاد منافس له يتبوأ “مكانة” أفضل منه.

وهو ما لا يسمح به “المرشد” ( “الزعيم” صاحب “الجلد الخشن”)، الذي أغوته مناصب الحكم  و”بهرجة” السلطة، من خلال دخوله غمار الانتخابات واعتلائه سدة رئاسة البرلمان، ليكون حاضرا في المشهد و المشارة في صناعة  القرار السياسي في الداخل، وليمارس من تحت “قبة باردو” (البرلمان) دوراً خارجياً، من خلال ما يسمى بالدبلوماسية البرلمانية.

في هذا الصدد كانت تحركاته وارتباطاته واتصالاته الخارجية، محل نقد لا داخل البرلمان فقط بل في المجتمع وفي المشهد السياسي والإعلامي، وصل حد الدعوة لمساءلته ثم المطالبة بسحب “التكليف” منه، زمن رئاسته للبرلمان.

وهنا لابد من الاشارة، الى أنه و من بين الأخطاء التي ميزت فترة رئاسة الغنوشي للحركة، تلك المتصلة بارتباطه الكبير بسياسات المحاور الخارجية، التي أصبحت مكشوفة للعيان، بالرغم من محاولة “تبريرها” مرة تحت لافتة ما يسمى بـ”الدبلوماسية الشعبية”، و أخرى تحت مسمى “الدبلوماسية البرلمانية”.

محاكمة الغنوشي، وخروج حزبه من الحكم، أعاد الحركة الاسلامية، الى المربع الأول، جماعة مطاردة أمنيا وقضائيا، و معزولة سياسيا ونخبويا، ولعل الأهم و اللافت هو تراجع حاضنتها الشعبية، عبر تصاعد كبير لرفض مجتمعي، نراه بالعين المجردة.

 

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP