مسار يحتضر .. نحو المجهول!
منذر بالضيافي
الخطابات والتصريحات السياسية، التي يتم تداولها من قبل الفاعلين السياسيين، يبدوا أنها غير واعية ومدركة بحجم “المأساة” التي الت اليها أوضاع البلاد، خاصة المتمثلة في انهيار اقتصادي غير مسبوق، ستكون له تداعيات على الوضع الاجتماعي، اذ من المتوقع أن تكون تونس مقدمة على “تسونامي اجتماعي” في الحريف المقبل، بالنظر الى وقع “تكلفة” الأزمة الاقتصادية، التي تشير كل التوقعات، الى أنه ستكون كارثية ، في علاقة باتساع نسبة الفقر، وتسريح مئات الألاف من العاطلين عن العمل.
برغم “هول” ما ينتظرنا في المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فان “حكام البلاد” ما زال لهم من “الترف” للانشغال ب “عنترياتهم” السياسية، وهو ما يكشف عنه خطابهم المغرق في “السياسوية” والبعيد عن الواقع، خطاب هيمنت عليه العناصر الثلاثة التالية:
1/ منحى “التهديد”، عبر تجديد التلويح بحل البرلمان ( كلمة رئيس الجمهورية خلال استقباله اليوم الغنوشي ونائبيه في رئاسة البرلمان)، الذي يواصل تجنب الخوض في البعد السياسي في “ازمة سياسية” بامتياز، والاستعاضة عن ذلك ب “تهويمات” قانونية ودستورية، تبقى شكلانية على اهميتها، خطاب انشائي أصبح لا يجد له من ينصت له، وهو المطالب بتقديم الحلول، وكذلك حماية البلاد من الانزلاق نحو كل ما يهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي، مثلما ينص الدستور.
و يكون ذلك على الأقل بإقرار مبادرة وطنية، ولعب دور الحكم بعيدا عن كل ما من شأنه أن يفهم منه أنه قد اختار الاصطفاف وراء هذا الطرف أو ذاك، وهذا ما كنا نأمله منه في الأزمة السياسية التي فجرتها الاتهامات الموجهة لرئيس الحكومة حول شبهة “تضارب المصالح”، اذ تأخرت استقالة الفخفاخ، واعتبرها البعض أنها جاءت بعد مرور حزب النهضة لسحب الثقة من رئيس الحكومة، بما يعني أن الرئيس برز كما لو أنه رمى بحبل النجاة ل “حكومة الرئيس”.
مع استقالة الفخفاخ، فان الرئيس قيس سعيد يجد نفسه أمام اختبار مهم – وليس من حقه الخطأ – في اختيار “الشخصية الأقدر”، ليكلفها بتشكيل حكومة في أوضاع تمر فيها البلاد بأزمة شاملة ومعقدة، لابد من اختيار شخصية جامعة ذات كفاءة مشهود بها، ولها معرفة بالمجتمع التونسي، ولها علاقات دولية واسعة، حتى يقود حكومة للإنقاذ الوطني ولا يخضع لا لابتزاز قرطاج او باردو، وان تكون له مطلق الحرية في اختيار فريقه.
2/ كما كرس خطاب الأحزاب السياسية الرئيسية، حالة من اتساع لمنسوب ازمة الثقة، التي هي بمثابة مقدمة لإحداث القطيعة بين القوى السياسية، بعد خيبة حكومة الفخفاخ، التي علقت عليها امال كثيرة وهي التي نسبت نفسها لما يسمى ب “الخط الثوري” و سردية “مقاومة الفساد”، فكان السقوط مدويا اختلط فيه الفشل السياسي بالسقوط الأخلاقي، لتترك ورائها غبار معارك سترمي بظلالها على المشهد القادم، وهو ما برز من خلال تصريحات قيادات التيار الديمقراطي وحركة الشعب التي اعلنت القطيعة مع النهضة، ولوحت بالذهاب نحو تحالفات غايتها البقاء في السلطة لا غير، من ذلك التعبير عن التحالف مع من كانوا يتهمونه بالفساد ( قلب تونس)، والاستفادة من منح الثقة للحكومة الموعودة بمن كانوا يحسبونهم على نظام “الاستبداد” ( الدستوري الحر) للتصويت لحكومتهم المقبلة التي يخططون لتشكيلها .. انه العبث السياسي والانهيار الأخلاقي الذي لا علاقة له بإنقاذ بلد مكلوم.
3/ كما لا حظنا أن “العنتريات السياسية” سقطت في “ترذيل” السياسة والأخطر في تعطيل مؤسسات الدولة ونعني البرلمان ( الحزب الدستوري الحر )، ازمة لا نرى افقا لحلها في ظل “تمترس “كل من الخصمين ( النهضة و الدستوري الحر) وراء مواقفهما، بعد أن تحولت قاعات البرلمان وساحاته الى “منازلات” و “عراك” .
كل ما تقدم يؤشر الى ما يشبه استحالة ” التعايش” بين الفرقاء السياسيين، وبين مؤسسات الحكم الثلاث التي تخيم عليها حالة قطيعة بين باردو والقصبة و “حرب باردة” بين قرطاج وباردو، في خلاف وتعارض جوهري مع أسس الممارسة السياسية ، التي تشدد على حسن ادارة العيش المشترك والقبول بالأخر.
و فضلا عن “متاعب” الداخل فان مشاكل الاقليم الامنية هي ايضا عنصر محدد في تشكيل تطورات المشهد الداخلي القادم والمقصود هنا الازمة الليبية،
في المحصلة نلاحظ ان تونس دخلت زمن ازمة حكم غير مسبوقة، بسقف مخاطر عالية يطغى عليها الذهاب نحو سيناريو الذهاب نحو المجهول.
يجري هذا في سياق دولي و اقليمي رماله متحركة، و لا ينظر بعين الرضا لتجربة تونس خلال العشر سنوات الاخيرة.
هذه التجربة التي اصبحت غير ” محصنة” من الداخل، بسبب الشرخ الحاصل في العلاقة بين الفاعلين السياسيين وتباين اطروحاتهم.
ولغياب ما يمكن ان نطلق عليه ” الحاضنة الشعبية” للانتقال الديمقراطي، نظرا لضعف منجزه الاقتصادي والاجتماعي، و لحالة ” الترذيل” التي سقطت فيها الممارسة السياسية، وضعف الأداء الحكومي وسقوطه الأخلاقي. التي تغذت من عودة الاستقطاب السياسي والايديولوجي بين الاسلاميين وخصومهم، وتراجع مقولة “التوافق” او ” ادماج” الحركة الاسلامية في الحقل السياسي.
وذلك بعد عودة الاتهامات الموجهة لها ( الحركة الاسلامية – النهضة) سواء بتخطيطها للهيمنة او التمكين لمشروعها، او بسبب فشلها في الحكم. وهي التي كانت حاضرة طيلة عشرية كاملة فيه، دون ان ننسى طبعا اتهامها بحشر تونس في سياسة محاور اقليمية ودولية.
فهل اصبحت تجربة الانتقال الديمقراطي وراء ظهورنا ؟ وهل ان كل ما حصل ويحصل منذ اعلان نتائج الاستحقاقات الانتخابية الاخيرة وما تلاها مقدمة لتصفية هذا المسار بوعي او دونه ؟ وان تونس مقدمة على مرحلة اخرى بلا افق واضح غير المجهول ؟
Comments