الجديد

مسرحية “آخر البحر” للتونسي الفاضل الجعايبي: بين “ميديا” الإغريقية و”عاتقة” العربية رحلة في الصمود والمقاومة بعد الموت

تونس (وات) –

مسرحية “آخر البحر” هي العمل الرابع في رصيد المخرج الفاضل الجعايبي بعد الثورة، ويمكن أيضا اعتبارها تتمّة للأعمال الثلاث التي تلت 2011 وهي “تسونامي” (2013) و”العنف” (2015) و”الخوف” (2016) و”مارتير” (2020). وهذه المسرحية الجديدة “آخر البحر” هي من إنتاج المسرح الوطني التونسي بالشراكة مع مركز الفنون بجربة. وتمّ تقديم عرضها الأول مساء أمس الجمعة بقاعة الفن الرابع بالعاصمة بحضور أهل المسرح والثقافة والإعلام.

تدور أحداث مسرحية “آخر البحر” في تونس سنة 2015. وتتمحور حول امرأة ذات أصول يمنية هربت من وطنها مع رجل تونسي إلى تونس طمعا في حياة أفضل من حيث الحقوق والحريات واحترام المرأة ومكتسباتها، لكنها تصطدم بواقع لا يختلف كثيرا عن واقعها في وطنها اليمن أو حتى في أي دولة عربية أخرى. وأمام مقتل طفليها بوحشية، تُنصب لها محاكمة على جريمتها، لكنها ترفض الفرار وتختار مواجهة مصيرها، فتتجنّد لها محامية وناشطة حقوقية للدفاع عنها أمام المؤسسة القضائية وأمام “المحاكم الشعبية” و”محاكم الإعلام” و”منصات التواصل الاجتماعي”.

ويؤدي الأدوار في هذا العمل، الذي دام عرضه نحو 3 ساعات، كل من صالحة نصراوي ومحمد شعبان وريم عياد وسهام عقيل وحمادي البجاوي.

واستمدّ المخرج أحداث مسرحيته من المسرحية اليونانية “ميديا” لكاتبها الشاعر اليوناني “اوربيدس” (480 ق.م – 406 ق.م)، حيث تقرر “ميديا”، قاتلة ابنيها “مغادرة الأرض نحو السّماء على عربة الشّمس تجرّها الأفاعي المجنّحات فرارا من عدالة البشر”. وقد عمل المخرج على إعادة هذه الأحداث وتوظيفها في الواقع التونسي والعربي بشكل عام بما أن المأساة الإنسانية تتكرّر باستمرار الجانب الوحشي في الإنسان مازال مستيقظا بقوة ولم يخمد رغم التطور البشري.

وينقل الفاضل الجعايبي أشدّ أنواع المآسي التي يعرفها الإنسان وهي “القتل الوحشي”، ففي “آخر البحر” تقوم المرأة اليمنية “عاتقة” بالانتقام من زوجها الذي خانها بتخليه عنها واستعداده للزواج من امرأة أخرى، فتقتل خطيبته ثم ولديها، فهذا الزوج الذي لم يعرف الشرف ولا الحب والوفاء كان سببا في أن تملّك الغضب من زوجته التي تخلّت عن وطنها وأبيها وأهلها وضحّت بأخيها بأن طعنته بخنجر ومزقته إلى أشلاء من أجل إنقاذ حبيبها.

لقد هيّأ الجعايبي مجموعة من الدوافع لهذه المرأة من أجل تبرير فعلتها، بما أن الرأي العام لم يستوعب كيف تمتلك أمّ الجرأة لتُقدم على هذا الفعل الشنيع، فكان أهم دافع هو الغضب المحرّك لفعل الانتقام بأي وسيلة كانت، فهذه المرأة التي تخلّت عن كل شيء بدافع الحب أرادت أن تنتقم من زوجها لخيانته لها بعد أن اكتشفت أن حبّه كان مزيّفا وأنه غلّب مصالحه الذاتية الضيقة على المصلحة الجماعية بما أن ما كان يريده هو فقط مخطوط قرآني قديم وثمين.

// البناء الدرامي

واهتمّ المخرج بالخصائص الفنية المميزة للمسرحية للتعبير عن جملة من القضايا المطروحة، فوظف تقنية الفيديو في الجهة الخلفية للركح، وهي المرّة الأولى التي يعتمد فيها تقنية الفيديو في أعماله المسرحية، حيث يُظهر الفيديو شاطئ البحر في تقلّبات مختلفة: تارة هادئ وطورا في وضعية هيجان وفق المواقف والأحداث في المسرحية.

ومن الخصائص الفنية الأخرى المميّزة هذه المسرحية أيضا هو الحبكة الدرامية في صياغة النص وتسلسل الأحداث. وهذه الحبكة الدرامية أظهرها الجعايبي في صياغة المشهد المسرحي الواحد من ناحية وعلى مدى العرض بأكمله من ناحية أخرى، فكان التشويق والانتقال السلس في الأحداث وفي المشاهد المسرحية وكذلك في عناصر المفاجأة من أهم السمات المميزة للحبكة الدرامية في مسرحية “آخر البحر”، فظل المتفرّج مشدودا إلى العرض طيلة الساعات الثلاث دون كلل أو ملل من تتابع الأحداث.

واعتنى المخرج بقاعدة البناء الدرامي للأحداث سواء تعلّق ذلك بالمشهد المسرحي الواحد أو بالعرض المسرحي بشكل عام، فقد استوفى قاعدة البناء الثلاثي في كلّ مشهد من مشاهد المسرحية وفي العرض عموما، إذ لم يقتصر البناء الثلاثي للأحداث على العرض فقط من بداية وتطور للأحداث حتى تصل ذروتها ثم تنتهي، بل تألف كل مشهد من بداية وتطور للأحداث فتصل إلى مرحلة الذروة وتشكّل بما يشبه العقدة التي تمهّد بدورها للمشهد الموالي، وهذا الأسلوب تجّلى في عديد المشاهد مثل استنطاق الزوجة وزوجها من قبل القاضية أو من خلال عرض كلّ منهما على الطبيب النفسي لتشخيص حالتيْهما.

// إيقاع العرض

ولم تكن أحداث مسرحية “آخر البحر” لتسير بالنسق المخطّط له لولا براعة الممثلين في إتقان أدوارهم، فكان التعبير بإحساس باطني عميق أكثر صدقا، فعبّرت كل شخصية عن حالة التمزق الداخلي التي تعيشها وحالة الصراع مع الآخر دون مبالغة أو إفراط في الأداء.

وبنسق تصاعديّ، سارت الأحداث في انسجام تام مع المشاهد التراجيدية للمسرحية، ومن يتتبّع حركة الإيقاع في المسرحية يلاحظ أن المخرج الفاضل الجعايبي وظّف إيقاعا خاصا داخل الإيقاع العام التصاعدي للمسرحية، وهذا الإيقاع الخاص الذي أوجده الجعايبي داخل الإيقاع العام يشبه إلى حدّ ما نسق نبضات القلب أو حركة الزلازل التي تهتزّ وتنحطّ لتشكّل الرجّة الأرضية، وقد وظّفه المخرج لإبراز الحالة النفسية للشخصية البطلة على وجه الخصوص والصراع بين الشخصيات.

وتميّزت مسرحية “آخر البحر” بتكرار المفردات المشتقة من معاجم العنف والقسوة والكراهية، وهذا الأسلوب أي “التكرار” وظّفه المخرج لإبراز حالة التمزّق والتخبّط التي تعيشها الذات البشرية في علاقة الأنا بالآخر. ولعلّ المخرج أراد من خلال تكرار مفردات العنف والقتل لترسيخ صورة هذا الصراع والعنف في ذهن المتلقي، فجعل من هذه المفردات السمة الطاغية على أحداث العرض.

وإلى جانب القضايا الإنسانية المتعلقة بإنسانية الإنسان كالحقوق والحريات والمساواة والعدالة، أثار عديد القضايا الأخرى كفساد الجهاز القضائي القضاء وتسلط العقلية الذكورية وقضايا الهجرة وتجارة الآثار والأسلحة والمخدرات.

وبين “ميديا” المرأة الإغريقية و”عاتقة” المرأة العربية يجعل الفاضل الجعايبي من الموت والمأساة رسالة لمواصلة الصمود والمقاومة من أجل التغيير المنشود لعالم حرّ وعادل تتحقق فيه إنسانية الإنسان.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP