مفاوضات شرم الشيخ: تركيا تعود إلى المسرح الإقليمي من بوابة غزة وتستثمر في التراجع الايراني /تحليل اخباري /
تونس- التونسيون- تحليل اخباري
عودة تركيا إلى مشهد مفاوضات غزة ليست مجرد خطوة دبلوماسية، بل مؤشر على تحوّل في خرائط القوة الإقليمية. أنقرة، التي تقرأ تغير موازين النفوذ بين طهران والعواصم الخليجية، عودة هدفها تهيأ أنقرة لتكون أحد مهندسي “اليوم التالي” في الشرق الأوسط.
تُعد مشاركة تركيا إلى جانب كل من قطر ومصر في مفاوضات شرم الشيخ حول غزة – بعد مبادرة الرئيس دولاند ترامب – تطورًا لافتًا في مشهد التفاعلات الإقليمية حول غزة، وتحديدًا في ما يتعلق بصياغة ما يُعرف بـ”اليوم التالي” للحرب.
فالحضور التركي، الذي مثّله رئيس جهاز المخابرات إبراهيم قالن، أحد أقرب المقربين من الرئيس رجب طيب أردوغان، يكشف عن تحول نوعي في مقاربة أنقرة للملف الفلسطيني، من موقع الدعم الخطابي المناور إلى الانخراط المباشر في صناعة القرار السياسي.
تركيا، محاولة استعادة موقعها في الاقليم
يأتي هذا التطور في لحظة دقيقة تتقاطع فيها مصالح الإقليم والعالم. فتركيا تدرك أن مستقبل غزة لن يُرسم في الميدان وحده، بل على طاولات التفاوض، حيث تتقاطع حسابات واشنطن وتل أبيب والقاهرة والدوحة.
ومن هنا يمكن فهم حضورها باعتباره محاولة لاستعادة موقعها المركزي في النظام الإقليمي، بعد تراجع دورها النسبي في مرحلة ما بعد “الربيع العربي” وما رافقه من توتر مع مصر و العواصم الخليجية الكبرى.
لكن الأهم أن الدور التركي الجديد لا يمكن فصله عن الصراع الأوسع بين المحاور الإقليمية: محور الرياض وأبوظبي من جهة، ومحور الدوحة وأنقرة من جهة أخرى. فبينما تتحرك السعودية والإمارات ضمن رؤية تقوم على “تطبيع مضبوط” مع إسرائيل ومقاربة براغماتية للأمن الإقليمي، تسعى قطر وتركيا إلى نفس الهدف – التطبيع – لكن في اطار الجمع بين الخطاب الداعم للمقاومة والانخراط في وساطات إنسانية وسياسية تُكسبهما شرعية معنوية في الرأي العام العربي والإسلامي.
مشاركة إبراهيم قالن – مدير المخابرات التركية و رجل أردوغان- إلى جانب نظرائه من القاهرة والدوحة تعكس رغبة أنقرة في لعب دور الوسيط المقبول لدى جميع الأطراف. فهي تُحافظ على علاقات عملية مع إسرائيل في مجالات الأمن والطاقة، لكنها في الوقت ذاته تُقدّم نفسها كصوتٍ متفهمٍ لحركة حماس وللمزاج الشعبي العربي. هذا الموقع الوسيط يمنحها هامش مناورة واسعًا لا تملكه عواصم أخرى أكثر التزامًا بمحاورها السياسية.
استثمار الفراغ الإيراني
وفي هذا السياق، الذي تروم من خلاله انقرة استعادة دورها في المنطقة، نشير الى أنها بصدد الاستفادة من تراجع الحضور الإيراني المباشر في الملف الفلسطيني خلال العامين الأخيرين.
فطهران، المثقلة بأزماتها الداخلية والميدانية، تراجعت إلى موقع المتابع أكثر من الفاعل، خاصة بعد أن أصبحت أهدافًا متكررة للردع الإسرائيلي في لبنان وسوريا. هذا التراجع أفسح المجال أمام تركيا لتملأ جزءًا من الفراغ، ولكن بأسلوب مختلف: فهي لا تعرض سلاحًا أو دعمًا عسكريًا، بل تُقدّم نفسها كوسيط شرعي وفعّال قادر على التواصل مع جميع الأطراف دون أن يفقد صورته الداعمة للقضية الفلسطينية.
بهذه المقاربة، استطاعت أنقرة أن تجمع بين الرمزية الإسلامية – القومية التي تخاطب وجدان الشارع، والبراغماتية الدبلوماسية التي تمنحها قبولًا لدى الغرب. إنها تحاول أن تُقدّم نموذجًا بديلًا عن “المحور الإيراني”، قائمًا على إسلام سياسي مهادن للدولة الحديثة، يراهن على الدبلوماسية بدل المواجهة المباشرة.
توازنات ما بعد الحرب
في المقابل، تُتابع الرياض وأبوظبي هذا الحراك التركي – القطري بحذر. فالمشهد يُعيد إلى الأذهان الانقسام الإقليمي القديم الذي رافق أحداث العقد الماضي، حين تنافست القوى العربية على قيادة المنطقة بين رؤيتين: واحدة محافظة تُقدّم الاستقرار على التغيير، وأخرى إصلاحية – إسلامية تراهن على إعادة تشكيل التوازنات الاجتماعية والسياسية.
إن عودة تركيا إلى واجهة الملف الفلسطيني تعبّر عن طموح مزدوج: سياسي وإيديولوجي. فهي تسعى من جهة إلى استعادة مكانتها الإقليمية، ومن جهة أخرى إلى تفعيل حضورها الرمزي في الفضاء العربي والإسلامي، عبر خطاب يتقاطع مع وجدان الشارع ومع حسابات المصالح في آن واحد.
وفي المحصلة، يمكن القول إن محادثات شرم الشيخ تمثل أكثر من مجرد منصة تفاوضية حول غزة؛ إنها اختبار لموازين القوى الجديدة في الإقليم، حيث تسعى العواصم الكبري – الرياض، الدوحة، أبوظبي، مصر وأنقرة – إلى تثبيت مواقعها في مشهد ما بعد الحرب، في سباق صامت على النفوذ، قد يُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط لعقد قادم على الأقل.
Comments