مكافحة الفساد في تونس .. تسمع جعجعة ولا ترى طحينا !
خالد شوكات
اشتدّت الحملات على وزير الدولة المكلف بمكافحة الفساد محمد عبّو متّهمة إيّاه بالعجز عن تحقيق وعوده والفشل في تنفيذ برنامجه، رغم انه لم تمض على تسلّمه لمهامه سوى أسابيع قليلة ومن المبكر وغير الموضوعي إثبات هذا العجز والفشل، فالأمر الذي تصدَّى له الرجل أمر جلل يحتاج عمل الحكومة برمّتها، كما يحتاج فسحة من الزمن وتصميما وعنادا ومثابرة نرجو ان يتوفّر عليهم الرجل، فلا يسارع الى الاستقالة كما فعل في المرّة الأولى.
في واقع الامر، كنت في غاية السرور عندما التحق الاستاذ محمد عبّو بشكل مباشر بالحكومة، والأستاذة سامية عبّو بشكل غير مباشر، تماما كغبطتي بانتخاب الاستاذ مخلوف واخوانه ليصبحوا نوّابا في البرلمان، فخير علاج في رأيي للسرديات الطهورية (الشعبوية) وخير وسيلة لعقلنة الخطابات السياسية الراديكالية ودفعها نحو الهدوء والواقعية، هي المشاركة في الحكم، سواء في مؤسسات الحكومة أو مؤسسة المعارضة، ولا شك عندي في أن الواقع سيسقط في الماء خلال السنوات القليلة القادمة الكثير من العنتريات والجعجعات والمزايدات والاحتكارات غير المبررة، وسيمنح الخطابات العقلانية والوسطية والواقعية فرصة لإعادة البلاد إلى طريق الاعتدال والعمل المشترك.
وقولي هذا لا يعني البتّة دعوة للتخلي عن هذه المعارك الحقيقية الكبرى التي لا نختلف مع أصدقائنا المشار إليهم أعلاه، في ضرورة خوضها، ولكننا لا نرى أن الطريق إلى ربحها يمكن ان يتحقق بهذه السيرة القائمة على تنزيه الذات وترذيل الاخر، وعلى تقسيم التونسيين الى ثنائيات غالبا ما تضعف القضية، من قبيل معسكر الطهر ضد معسكر الفساد، وجماعة الثورة ضد جماعة الأزلام.
في موضوع مكافحة الفساد، لدي من منطلق خبرة عملية كعضو سابق في اول حكومات الجمهورية الثانية، وملاحظة نظرية كباحث وكاتب وناشط مهتم بالشأن العام، جملة من الأفكار والمعطيات أود سردها في شكل نقاط:
أوّلاً:
مكافحة الفساد تقتضي وضع الحكومة استراتيجية واضحة بأهداف مركّزة ووسائل محددة، والى حد الان لم اجد شخصيا غير تصريحات ونوايا طيبة وخطوات معزولة مرتجلة، لا نشكك فيها ولكننا لا نرى انها كافية. –
ثانيا:
مكافحة الفساد ليست حالة مزاجية ولا تصفية حسابات سياسية ولا حملات دعائية واعلامية، بقدر ما يجب ان تكون حزمة من التحقيقات والاجراءات القانونية والقضائية الصارمة المنضبطة للمبادئ الدستورية والقواعد التشريعية المعمول بها
ثالثا:
لا يمكن مكافحة الفساد دون رسم خريطة للفساد، ولعل من المفارقات ان هذه الخريطة كانت واضحة الملامح في ظل النظام السابق، بينما شهدت مرحلة ما بعد الثورة تميّع هذه الحالة على نحو جعل رسم خريطة الفساد مهمة مستحيلة أو شبه مستحيلة. –
رابعا:
ان الزمن الاتصالي جعل قضية مكافحة الفساد أكثر تعقيداً، فمن جهة أصبحت وسائل الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي لاعبا أساسيا، سواء كجهة ضاغطة لصالح المكافحة أو كجهة مضللة أيضا، بل كجهة مخترقة، فقد اصبح لعصابات المافيا وجماعات الفساد وسائلها ووسائطها وقدرتها على التلاعب بالحقائق، بل قلبها رأساً على عقب في بعض الحالات، ومن جهة أخرى يبدو جزء من المشكل ذو صلة بالثقافة الشعبية السائدة. –
خامسا:
لقد جرى تفويت اللحظة الثورية سنوات 2011 و2012 كعامل زمني مساعد لمكافحة الفساد، وهو ما زود الجماعات والمافيات بفرصة استرجاع الانفاس وتحقيق الاختراق المطلوب لأعمدة النظام الديمقراطي الرئيسية الثلاثة: الاعلام، الأحزاب والمجتمع المدني، ولهذا فقد زادت الامور تعقيدا لصالح المفسدين كلما ابتعدنا عن هذه اللحظة، حيث قوّى هؤلاء مراكز نفوذهم الى حد اصبح معه جزء من مؤسسات الحكم مرتهناً لهم.
في ظل هذه المعطيات اود ان اختم بملاحظات سريعة حول اداء حكومات الجمهورية الثانية الثلاث.
حكومة الحبيب الصيد:
تبنت استراتيجية خاصة في مقاومة الفساد قائمة على النأي بالخطة المرصودة عن البروباغندا ووسائل الاعلام والتوظيف الحزبي والسياسي، ومعتمدة على دراية رئيس الحكومة الجيدة بدواليب الادارة والدولة، وتمنح الاولوية لتجفيف منابع الفساد بحسن مراقبة الصفقات العمومية وتعيين نزهاء على رأس الإدارات ذات الصلة بالمزايدات والمناقصات العامة، انطلاقا من طبيعة المرحلة الانتقالية التي فرضت طابعا ائتلافيا على مؤسسات الحكم مكّن المفسدين من استغلال التناقضات فيما بين مكوّنات الحكم لتحقيق مكاسب معتادة.
وقد ظن الرأي العام جراء عدم التسويق للخطة ان مكافحة الفساد لم تكن اولوية في حكومة الحبيب الصيد وهو عكس الحقيقة تماما، فالصيد بحكم واقعيته المبدئية وعدم ميله للتسويق السياسي منح خصومه وجزء منهم متورط في الفساد، فرصة الاجهاز على حكومته التي عطّلت مصالحهم، خصوصا حصتهم من الصفقات العمومية.
حكومة يوسف الشاهد:
أعلنت حرباً ظاهرية على الفساد، قامت على حملة اتصالية هدفها إيجاد مخرج من أزمة اعتصام الكامور، فلعبت ورقة كبرى واستراتيجية من اجل تحصيل أهداف صغيرة وتكتيكية، وخلافا للشعارات المعلنة في الحملة الاتصالية كانت سيرة هذه الحكومة فرصة لتثبيت مراكز النفوذ كشريك في العملية السياسية، وهو ما اشارت اليه العديد من المصادر بعد خروج الشاهد من رئاسة الحكومة، وسيشار اليه اكثر في قادم الأشهر.
لقد أعاد الشاهد من خلال تعييناته المسترابة عديد الوجوه المشبوهة الى دائرة القرار، وبالمقدور القول بان حقبة الشاهد كانت حقبة تلاعب غير مسبوق بثوابت الدولة واستهانة بأعرافها وتقاليدها، مما يجعل معالجة قضية الفساد في الحقبة الحالية اكثر صعوبة من اي وقت. –
حكومة الفخفاخ:
ورثت هذه الحكومة كما أشير سلفاً حالة شديدة التورّم والفداحة، لاعتبارات عديدة لعل من بينها رفعها من جهة شعارا أساسيا وهدفا أولويا ألا وهو مكافحة الفساد، ولكنها من جهة اخرى لا تبدو مؤهلة للالتزام بهذا الشعار ولا قادرة على المضي عمليا في اي حرب فعلية شاملة على الفساد جراء طبيعة الائتلاف الحكومي الذي يحمل الشيء ونقيضه، من يرفع شعار الحرب على الفساد ومن هو متورط فيه وتابع لمراكز نفوذه.
خلاصة القول، الحرب على الفساد هي حرب اخطر من الحروب المسلحة نفسها، الفساد الاكبر يجري في شرايين الدولة مجرى الدم في شرايين الجسم البشري، وما من حجر من احجار الدولة يمكن ان يرفع الا وسنجد تحته عقربا من عقارب الفساد.
كما ان للفساد خارج الدولة احزاب ومنظمات وجمعيات ووسائل اعلام، وهو أخطبوط أصابعه واذرعته قادرة على ليّ عنق اي شريف ودقّها في الحين، بل ان مراكز الفساد من القوة بحيث تكون قادرة على التلاعب بالرأي العام وقلب الحق باطلا والباطل حقا، وتحويل الشرفاء الى مفسدين والمفسدين الى ابطال.
الرئيس قيس سعيد:
وَمِمَّا يستغرب له ان رجلا كَرئيس الجمهورية أتى به الناس من خارج الطبقة السياسية باعتباره شريفا نظيفا سيحارب المفسدين، لكن الأشهر التي قضاها في الحكم لا تشير الى ما يمكن ان يبعث على التفاؤل في هذا السياق، اذ لم يرسل الرجل اي إشارة جدية توحي بانه مقبل على خوض اي حرب مع اي جهة، سواء في مكافحة الفساد او في نصرة فلسطين او في اي قضية اخرى يظن الناس انه مؤهل لمعالجتها، بما في ذلك دعم اللغة العربية ومساندة الفقراء.
مجرّد حركات في الهوامش وفقاقيع في الأفقِ وخطوة الى الامام تليها خطوات الى الوراء. وهم لن يطول الامر حتى يقف الناس على حقيقته المحبطة لهم. .
Comments