الجديد

منذر بالضيافي يكتب: العقيدة التدميرية الإسرائيلية .. تتورط في وحل غزة !

منذر بالضيافي

حرب غزة، التي دخلت شهرها الثالث، معقدة وستكون تداعياتها ومآلاتها كذلك، فردة العنف المبالغة في استعمال النار ، من قبل اسرائيل، و بتقنيات حديثة ومبتكرة، ما أوجد “واقع دموي” على الأرض، يرتقي للمحرقة، هو تعبير عن حالة غضب و رعب، و رغبة جامحة في الانتقام و “ترميم” ما كان يعرف ب “قوة الردع”، ردة فعل ترتقي للجنون، على ما وقع في السابع من اكتوبر، ذاك العبور “الاستعراضي” الذي قامت به المقاومة من غزة، والذي أسقط  كل عناصر قوة تل ابيب، وادخل الذعر على الكيان وداعميه أيضا، تمثل في الدعم الكبير اللوجيستكي والسياسي والديبلوماسي، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية و حلفائها، و كأن “دولة اسرائيل” أصبحت مهددة في وجودها.

وهو ما جعل الصراع يأخذ طابعا وجوديا، و لعل هذا ما يفسر الابادة الجارية في القطاع، و التي فسح لها المجال و الوقت فضلا عن العدة والعتاد، من اجل التسريع بالحسم/ الانتصار او الاستسلام/ للمقاومة.

من الضاحية الى غزة .. محرقة تلد أخرى !

لكن برغم الدمار الغير مسبوق، منذ الحرب العالمية الثانية، فان الحسم العسكري ما زال بعيدا، وقد لا يتحقق اصلا، فإسرائيل لا تقبل بغير الانتصار، و المقاومة المسنودة مجتمعيا في الداخل – كما لم يكن قبل الحرب – لن تقبل التراجع والاستسلام، وهنا وجد المأزق في ظل ذهاب جل الخبراء، إلى أن المزيد من النار والتقتيل والتهجير القسري، سوف لن يضعف المقاومة، بل سيقويها ويعطيها شرعية أكبر،  وسيحرج الداعمين واساسا الولايات المتحدة، كما سيدعم الشرخ العالمي fracture mondiale، الذي عبرت عنه الصحافة ومراكز البحث.

نقلت تقارير اعلامية وشهادات موثقة لمسؤولين أمميين، أن الحملة الجوية الإسرائيلية على غزة، تعد  واحدة من أعنف الحملات في التاريخ المعاصر، فالدمار الكارثي الذي لحق بغزة في أقل من سبعة أسابيع، كان يقارب الدمار الذي سببه القصف الشامل، الذي استمر لسنوات على المدن الألمانية، خلال الحرب العالمية الثانية، مثلما نقلت جريدة “الفانيشيال تايمز” .

فقد أوردت جريدة “فايننشيال تايمز”، تقرير صادم حول “محرقة غزة”، بينت فيه أن الدمار الذي لحق بشمال قطاع غزة في أقل من 7 أسابيع يشبه الدمار الذي تسبب به القصف المستمر لسنوات على المدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية،  وتدمّر ما يقارب 60% من غزة والشمال في أقل من شهرين، في حين أن القصف والدمار الذي سببه الحلفاء لـ61 من المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية بين الأعوام 1943 و 1945 بلغ بما يقدر بنحو 50% وطاولت أعنف حملات القصف في القرن العشرين مدن ألمانية مثل، دريسدن وهامبورغ وكولونيا، واليوم سيتمّ إدراج غزة كمكان حدثت فيه أشرس حملات القصف والدمار من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي، وفقًا المؤرخ العسكري الأميركي روبرت بيب.

بعد الدخول في الشهر الرابع من الحرب، التي تشنها اسرائيل على قطاع غزة المعزول، والذي زادته الحرب عزلة، بعد أن انفردت به الألة العسكرية المدعومة أمريكيا، فان الصورة تسوء ساعة بعد ساعة، والانهيار بدأ، أحياء دمُرت، مئات آلاف المدنيين نزحوا، لا خدمات ولا مياه صالحة للشرب ولا مرافق صحية، ولا إمكان الوصول للطعام بشكل كامل، الحالة الإنسانية مأساوية جداً ومعاناة الناس لا تطاق، ومن لم يمت بالحرب سيموت جوعا ومرضا بعد بداية تفشي الأوبئة.

“عقيدة الضاحية” .. تنهار في غزة

تنفذ إسرائيل ما أبح يعرف ب “عقيدة الضاحية” في غزة، وهي ذات العقيدة التي نجحت في إسكات حزب الله، فالقوة التدميرية حولت بيروت الى خراب، و شلت الحزب وجعلته ينكفئ على ذاته في الداخل، وتصريف ما تبقى من ” مقاومته” في دعم نظام الأسد في سوريا ومنعه من الانهيار، وجعلته يفكر ألف مرة قبل “التورط” في صراع جديد مع تل أبيب، التي هدد رئيس وزرائها بتحويل “الضاحية” وبيروت كلها الى غزة و خان يونس جديدين اذا تدخل نصر الله الذي اكتفي بخطابين وعاد للاختفاء.

كما تجدر الاشارة الى ان هذه “العقيدة التدميرية”، فرضت واقعا مجتمعيا وسياسيا في الداخل اللبناني، التزم به الحزب ، تمثل في تصاعد رفض امتلاك نصر الله لخيار الحرب والسلم، وبالتالي اخذ لبنان رهينة لقراراته وارتباطاته في الخارج.

كما ان مسؤولية “الحزب”، الذي يعد من قبل خصومه خاصة في وضع “المارق عن الدولة”، خلف “تركة” ثقيلة وباهظة، على الوضع اللبناني المعيشي و الاقتصادي اللبناني، تمثل من خلال ارتفاع جنوني في معدلات التضخم وانهيار مالي، دون ان ننسى “تسببه” في جعل بيروت تعيش عزلة دولية، وفي محيطها العربي وخاصة الخليجي، الذي كان داعما و سندا قويا لها.

وبالحصيلة فقدت “باريس الشرق” إشعاعها وبريقها وريادتها، وتحولت إلى رهينة بيد ملالي طهران، اذ ان  حزب الله في الاول الاخير، ليس إلا أداةً او ذراع لطهران، ولعل موقفه المتردد و المتذبذب من معركة “طوفان الأقصى”، خير دليل وشاهد، اذ التزم بقرار طهران بعدم توسيع الصراع، واكتفي بمجرد “مناوشات” على الحدود، تخضع لخطوط الاشتباك المتفق عليها او المسموح بها إسرائيليا.

عمدت حكومة نتينياهو الى  تنفيذ “عقيدة الضاحية” الإسرائيلية  التي انتهجتها في حربها على حزب الله  في لبنان،  في الحرب على غزة، اذ أن حكومة اليمين الديني المتطرف بزعامة نتنياهو، تعمل على اعادة انتاج ما حصل مع حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، صائفة 2006، في غزة.

وبدأت  في تنفيذ ذات السيناريو في القطاع  الذي تحكمه “حماس”، التي ستجد نفسها تواجه ذات الاتهامات،  و سيتم تحميلها ذات المسؤوليات التي حملت لحزب الله في لبنان بعد وقف الحرب،  مسؤوليتها عن الدمار الذي لحق بالقطاع وجعله مدمرا  ومعزولا أكثر مما كان عليه، ولا يملك ادنى شروط استمرار الحياة، من هنا فان دور ومكانة “حماس” ستعرف وضعا و واقعا جديدا بعد الحرب،  وما أصبح يعرف ب “اليوم التالي” في الأدبيات الصحفية، وتصريحات صناع القرار في العالم. القطاع الذي فرضت عليه الالة التدميرية  “نكبة جديدة”، وان لم تكن خارج غزة – لحد الان –  فهي داخليه ( حركة النزوح و التهجير القوية داخل جغرافية القطاع).

لكن بالعودة الى المقارنة بين الحالتين اللبنانية و الغزاوية، في علاقة بلجوء اسرائيل لتطبيق نفس الخيار “التدميري” ( سياسة الأرض المحروقة )، و مدى نجاح هذه السياسة في غزة، فانه من المهم التأكيد على أن الفارق مهم بين حزب متمرد على الدولة، وبين حركة تقاوم مستعمر، وهو ما يعطيها “شرعية المقاومة”،  وبالتالي القبول حتى من خصومها، والاهم يجعل لها مقبولية لدى سكان غزة والفلسطينيين عموما،  الذين خبروا الاستعمار ويدركون ان الهدف هو تصفية القضية وليس هذا الفصيل او ذاك، وبالتالي فان “هوية حماس الاخوانية”، تعد أمرا مؤجلا لحين كسب المعركة وتحرير الأرض، ولا ننسى أن “حماس” نفسها، التي وان كانت “اختطفت” القطاع، وتتحمل قسطا مهما من حالة الانقسام الفلسطيني، فإنها اعتمدت سياسة غير صدامية في علاقة بالعالم العربي ( ولعل المثال المصري أكبر دليل )، وفي زمن الحرب الحالية نجد أنها تحاشت نقد الأنظمة العربية، بل أنها أقرب الى التنسيق معها لإيجاد “حل تفاوضي”.

بعد دخول الحرب في شهرها الثالث، وبعد مشاهدة العالم لحملة حربية وصلت حد المحرقة، فان اسرائيل وحتى مع لجوئها لخيار “عقيدة الضاحية” التدميرية، فإنها لم تتوصل الى تحقيق أهدافها المعلنة، واساسا انهاء “حماس” وفرض واقع أمني جديد في القطاع، ولعل الخسائر المعلنة في العتاد والجنود أساسا، وطول أماد الحرب، يلعب لصالح “حماس” لا اسرائيل، التي بدأت تغرق في مخيمات و أنفاق غزة.

اذ بدأنا نلاحظ تململ في الداخل مصحوب بقرب انتهاء “مهلة القتل” في الخارج، فالولايات المتحدة أصبحت غير قادرة على تحما عبء المزيد من الدمار والقتل في غزة، بعد تصاعد الرفض لدى الرأي العام الأمريكي، وداخل مؤسسات الدولة ( الكونغرس )، فضلا على الحرج الذي خلفته السياسة الأمريكية الداعم لإسرائيل، عن حلفائها في المنطقة والذي قد يهدد مصالحها ومكانتها في المنطقة، خاصة في ظل حضور صيني و روسي منافس، على التموقع في منطقة الشرق الأوسط.

وفي اشارة لسيناريو تورط اسرائيل في غزة، فقد حذر الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان المعروف بقربه الشديد من تل أبيب في مقاله الأسبوعي بجريدة  “نيو يورك تايمز”  اسرائيل من الاستمرار في غزوها البرى لغزة مخافة أن تغوص في وحلها إلى الأبد وأن تصبح كل “علل” القطاع تحت مسؤوليتها وأن تضطر إلى إدارة سكانه الذين يزيد عددهم على مليوني شخص يرزحون تحت وطأة أزمة إنسانية.

والأسوأ في ظل سيناريو من هذا القبيل من وجهة نظر فريدمان أن ذلك سيلطخ سمعة الجيش الإسرائيلي الذي ظل يسعى لاستعادة ثقة الإسرائيليين فيه.

وحث فريدمان في البداية القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية في التأمل بالقول المأثور المنسوب إلى كونفوشيوس “قبل أن تشرع في رحلة الانتقام احفر قبرين أحدهما لعدوك والآخر لنفسك“

وأشار فريدمان في مقاله الأسبوعي بصحيفة نيويورك تايمز إلى أن هدف إسرائيل المعلن من الغزو هو استعادة أسراها المحتجزين وتدمير حركة حماس وبنيتها التحتية بشكل نهائي.

لكن فريدمان قال إن إسرائيل تتصرف بدافع غضب أعمى للوصول لهدف لا يمكن تحقيقه وهو محو حركة حماس من على وجه الأرض وبدون أن يكون لها خطة لما بعد ذلك محذراً من أن التمادي في ذلك قد يعني الغرق في وحل غزة إلى الأبد.

اليوم التالي؟

الواقع على الأرض، والتداعيات الدولية المتصاعدة، والرافضة للاستمرار في “الجنون التدميري” لحكومة اليمين الديني المتطرف في اسرائيل، بعد بداية الشهر الثالث للحرب، يشير الى أن “عقيدة الضاحية” التدميرية في أفول، و أنه من الصعب على نتينياهو وحكومته اعادة انتاج ما حصل في ضاحية بيروت الجنوبية في غزة، و أن أكثر ما يمكن أن تحققه، هو مزيد جعل القطاع المحاصر والمعزول أصلا، يفتقر أكثر للشروط الدنيا للحياة، لكن المقاومة سوف تستمر مع حماس أو غيرها، ورفض اسرائيل في محيطها الجغرافي ومع جوارها العربي، سيكون مضاعفا مما كان عليه قبل 7 أكتوبر الفارط، و أن “التطبيع” الذي حقق اختراق مهما خلال السنوات الأخيرة، أصبح في “خبر كان”.

أما “اليوم التالي”؟ ، فانه لن يكون قطعا كما خططت له حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب، التي أصبح استمرارها يمثل خطرا على “كيان اسرائيل” وعلى حليفها و الداعم لها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.

“اليوم التالي”؟، هو السؤال الذي يشغل الباحثين، وصناع القرار في العواصم المؤثرة ، وهم يعنون به أساسا سيناريوهات وضع القطاع المحاصر بعد نهاية الحرب، ومصير حركة حماس التي تحكم غزة، لكنه يغفل عن التداعيات التي خلفتها حرب غزة خارج أسوار القطاع المحاصر.

في الواقع تداعيات ما حصل ويحصل من محرقة في فلسطين، يتجاوز حدود غزة إلى مستقبل علاقة العرب ببقية العالم، وذلك بالنظر لحالة الشرخ/ الانقسام العالمي fracture mondiale ، بين الغرب وكل بقية دول الجنوب – ليس العالم العربي و الإسلامي فقط-، وما صاحب ذلك من حديث في مراكز الدراسات والصحافة الدولية، حول عودة الجدل عن ” صراع الحضارات”، الذي غذته ونفخت فيه أكثر حرب الابادة الصادمة، و خاصة مواقف الغرب المصطفة وراء إسرائيل، الأمر الذي جعل عتاد الاعتدال من انظمة و مثقفين في بلاد الجنوب في حرج كبير.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP