منذر بالضيافي يكتب عن المشهد التونسي ” الآن وهنا” .. “لا للعودة للوراء” .. شعارا و واقعا !
منذر بالضيافي
في الذكرى 13 لسقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (14 جانفي 2011/ 14 جانفي 2024)، لابد من اعادة التفكير الموضوعي، في ما حصل في تونس خلال 13 سنة الفارطة. واعادة المراجعة و التقييم، بعد اخذ مسافة عما حصل، بعيدا عن الشيطنة او التمجيد، وخاصة بعيدا عن حالة الإنكار، التي تغلب على مواقف الكثير من النخب، و خاصة المشتغلين بالسياسة، بوصفها صراع حول السلطة و سعي لاحتكار القرار، مثلما برز في سنوات ما بعد 14 جانفي 2011، تلك المرحلة التي طويت في الواقع التونسي الراهن، وأصبحت من الماضي. فهل دخلت تونس مرحلة جديدة تقطع نهائيا مع سابقاتها؟
والمهم – ايضا – التعاطي بواقعية مع الشأن الجاري، الذي مفاده ان تونس دخلت مرحلة جديدة – ما تزال معالمها غير واضحة -، لكن الثابت انها قطعت مع المسار السابق، مع المرحلة التي كان يطلق عليها “الانتقال السياسي/الديموقراطي”، كما تروم أيضا القطع مع الحقب التي سبقتها، أي منذ بناء دولة الاستقلال في مارس 1956، ومع ما أطلق عليه الباحثين “أزمة الدولة الوطنية”، وفشل خياراتها السياسية وكذلك التنموية.
في علاقة بالمرحلة السابقة، التي أصبح يطلق عليها خصومها “العشرية السوداء”، في اشارة لغياب أي منجز لها فضلا عن تنامي مؤشرات الفساد في زمنها، وهنا يبرز في الخطاب الرسمي اصرار على القطع معها و “تطهير” البلاد من مخلفاتها، وهي المرحلة التي فشلت و اغلق قوسها مجتمعيا، ومن هنا نفهم المقبولية الشعبية الكبيرة ، وحتى لدى شريحة واسعة من النخب – خاصة تلك البعيدة عن الاشتغال بالممارسة السياسية- لشعار: ” لا للعودة للوراء”.
في الذكرى 13 لسقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ( 14 جانفي 2011 / 14 جانفي 2024 )، ولفهم الشأن الجاري ” الآن وهنا”، وتداعياته و أفقه المستقبلي لابد من الاشارة الى الملاحظات والاستنتاجات التالية:
*** فشل الانتقال السياسي، الذي وضع تحت عنوان “الانتقال الديمقراطي”، بسبب غياب نخب وتنظيمات سياسية و مدنية ديمقراطية.
*** تبين ان المطلب الديموقراطي- على أهميته – لم يكن مطلبا مجتمعيا، بل كان خيارا ” وافد” من الخارج.
*** في علاقة بالديمقراطية، تأكدت أيضا مقولة ” الاستعصاء الديمقراطي “، فالبيئة السياسية و الاقتصادية، فضلا عن ” ارث الاستبداد” الذي ما زال متجذرا ، كلها تعيق بناء ديموقراطية محلية، كنا “نتوهم” ان بلادنا مهيأة لها، فكان سقوط ” وهم الانموذج التونسي مدويا.
*** بعد تجربة انتقال سياسي فاشلة، دخلت تونس ” مرحلة جديدة”، ما تزال “غامضة”، يصعب الحكم لها او عليها، لذلك من الخطأ التسرع بتصنيف شكل و أسلوب حكم النظام الحالي، من ذلك وصفه بالشعبوية – وان كان هناك بعض تمظهراتها – وهو تصنيف يعد بل يرتقي لكسل سياسي و معرفي.
*** فهم اللحظة السياسية التونسية الحالية، لابد من وضعه في سياقين داخلي و خارجي، لا يمكن فهم الأول دون التطرق للثاني، وابراز العلاقة الجدلية بينهما:
اولا: في سياق ما حصل طيلة العشرية السابقة، فان هناك حالة فشل شامل، حتى في علاقة بالمسار السياسي، الذي اطلق عليه ” الانتقال الديمقراطي”، الذي تحول إلى عبث وصراع حول السلطة و القرار، واهمال تام لحياة الناس ومشاكلها الاجتماعية و الاقتصادية، فضلا عن بداية بروز مظاهر تفكك الدولة، وضمن هذا السياق برزت دعوات – حتى من داخل منظومة الحكم- إلى تفعيل الفصل 80 من دستور 2014، وهو ما استجاب له الرئيس سعيد، ليكون ما اقدم عليه مندرج في اطار دستوري.
ثانيا: كما يجب فهم ما حصل ويحصل في بلادنا، ضمن سياق اللحظة الدولية الراهنة، التي تتسم بصعود القوميات و الهويات الرافضة للنظام الدولي الحالي ومؤسساته – بما فيها المالية- ، و الرافض أيضا لأيديولوجية هذا النظام الكوني المعولم – الديمقراطية الليبرالية -، وهو توجه آخذ في التصاعد في كل انحاء العالم.
ويجب ايضا ادراك ان ما حصل في تونس، في 25 جويلية 2021 وما بعده، و الذي وضع تحت شعار: ” لا للعودة للوراء”، على أنه يعبر ويطمح الى احداث قطيعة في أسلوب الحكم السابق، وفي الخيارات الاجتماعية وكذلك الاقتصادية، تم الكشف عنه من خلال نقد الرئيس قيس سعيد للخيارات الاقتصادية السابقة للثورة ( برنامج الاصلاح الهيكلي 1986).
كما يجب التعاطي مع المشهد السياسي الحالي، من غير الاستناد الى المفاهيم و التصورات التي كانت تحكم الحقل السياسي السابق عليه، وخاصة في زمن “العشرية” الأخيرة، وذلك عبر تفسير وتحليل التفاعل مع ما حصل، الذي ما زال يحظى بدعم مجتمعي، ما جعل منه يعبر عن “طلب سياسي” ( الشعب يريد ) لا عن “عرض سياسي” ، وهذا ما يجب ادراكه خاصة من قبل النخب السياسية التقليدية، التي ما تزال متمسكة بخطاب ومفاهيم وطرق عمل من الماضي، والاهم بلا حاضنة مجتمعية.
في علاقة بتفاعل الخارج، نلاحظ أنه أدرك قبل الداخل، بأن تونس دخلت مرحلة جديدة، وبرغم حالة “الغموض”، فان هذا الخارج مدرك جيدا انه لا مجال للعودة للوراء تونسيا، وان هناك واقعا سياسيا ومؤسساتيا ودستوريا ماثل في الواقع، ولا يمكن القفز عليه أو تجاهله، ولا يمكن انكاره او إرباكه، وفي ذلك ضمان لمصالحه – الخارج والجوار – قبل كل شيء-، مثلما هو الحال مع موضوع الهجرة غير النظامية، الذي يعد خير دليل و مثال على صحة ما ذهبنا اليه.
لا يجب ان يغفل المحلل العقلاني، ان التحولات السياسية الدولية، في صالح الخطاب الرسمي التونسي الحالي، المتمسك بالسيادة الوطنية، والساعي لتنويع الشراكات ومجالات التعاون ، والضامن للاستقرار السياسي والاجتماعي، في منطقة مهمة في الجيو بوليتيك الدولي ( الجوار الأوروبي ).
كما ان اللحظة الكونية الحالية، تتسم بتراجع وضمور الديمقراطية الليبرالية، لصالح بروز “القومية” و ” الشعبوية” و ” صراع الهويات ” المرتبط اساسا بظاهرة الهجرة التي تزعج الغرب و أوروبا اساسا، وكلها ستكون حاضرة بقوة في الاستحقاقات الانتخابية الكبرى المبرمجة للسنة الحالية، في كبريات الديمقراطيات الليبرالية، واهمها وأبرزها التي ستتم في الولايات المتحدة الأمريكية، في نوفمبر القادم.
هذا الاستحقاق “الانتخابي الكوني”، الذي سيتجاوز تأثيره بلاد ” العم سام”، إلى تحديد مستقبل الجيو بوليتيك الدولي – النظام العالمي- الآخذ في البروز، والمرتبط بمدى صمود ايديولوجية النظام الدولي الآخذ في الضمور ( الديمقراطية الليبرالية )، دون ان يعني ذلك أنه دخل في الافول .
الثابت في تونس اليوم، “الآن وهنا”، أن خطاب و ممارسة الرئيس قيس سعيد، يقطع مع فترة “الانتقال الديمقراطي” ( العشرية الأخيرة)، ومع الفترات السابقة لها أيضا، وأنه جاري احداث “قطيعة مركبة ومتعددة”، تتمثل في انتقال للسلطة والثروة معا، وهذا ما لم يحصل في سنوات العشرية الأخيرة، وهو ما يجعل خطاب الرئيس سعيد لا يخلوا من مغازلة “لروح الثورة”، المبنية على “القطيعة” لا “التواصل”، وهو ما يجعله يركز على انطلاقة “الحالة الثورية” في ( 17 ديسمبر 2010 ) و التي يريد استئنافها، لا على تاريخ سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي ( 14 جانفي 2011)، الذي يعتبره تاريخ “سطو النخب” على الثورة.
لذاك – ومما تقدم – نقدر أن تونس بعد 25 جويلية 2021 ، دخلت مرحلة جديدة ، بإدارة الرئيس قيس سعيد باعتباره الفاعل الرئيسي فيها، تروم القطع مع فترة “الانتقال الديمقراطي” لدى أنصارها، أو ما تسمى بـ”العشرية السوداء” لدى خصومها، وكذلك أيضا القطع مع الفترات السابقة من حكم تونس، وبهذا فان التونسيين يودعون عالما قديما، وينتظرون عالما جديدا لم تظهر بعد ملامحه النهائية، و في الأثناء يعيشون “مرحلة انتقالية”، تتسم بالكثير من “القلق”.
Comments