منذر بالضيافي يكتب عن “تسونامي السابع من أكتوبر” .. و مأزق “اليوم التالي” ؟
منذر بالضيافي
تمر اليوم سنتان على “تسونامي” السابع من أكتوبر 2023، من صدمة المقاومة إلى “الترويع الإسرائيلي”. فقد كانت عملية المقاومة نوعية في جرأتها ودقتها، ولم يكن الرد الإسرائيلي أقل صدمة؛ إذ ولّدت الرغبة في الانتقام “نهرًا من الجنون”، تجلّى في مشاهد التجويع والقتل، صدمة هزّت الإنسانية في انسانيتها، حتى أن أنصار تل أبيب – قبل خصومها – وصفوا ما جرى ويجري بأنه “إبادة” .
وسط هذا الواقع الدموي، خرج الرئيس الأمريكي دولاند ترامب، وبعد “ترقب طويل” ليعلن عن “مبادرة سلام”، مبادرة محاطة بالشكوك، لكنها نالت إشادة واسعة، كأمل ضئيل في إحداث اختراق دبلوماسي يوقف “نهر الجنون” الجاري.
بدأ مارطون المفاوضات، من الدوحة الى مصر، أيام قليلة قبل اعلان نوبل للسلام، الجائزة التي تعد حلم ومراد ساكن البيت الأبيض وربما حافزه الأول لتحريك السلام، ومع ذلك يظل السلام بعيد المنال، وتزداد مسافة إقامة الدولة الفلسطينية بعدا، رغم موجة الاعترافات الرمزية، التي فرضها المد التضامني الإنساني، ذلك المد الذي يرفض الصمت أمام ما أصبح يعتبره جريمة ضد الإنسانية
من يوقف “نهر الجنون” ؟
تمر اليوم 7 أكتوبر 2025 سنتان على الهجوم الاستعراضي للمقاومة الفلسطينية من قطاع غزة ( طوفان الأقصى )، و الرد الاسرائيلي الذي فات المتوقع والمعتاد، والمتمثل في شروع آلة الحرب الإسرائيلية في تنفيذ عقاب جماعي “للقطاع المقاوم” ( حملة السيوف الحديدية )، حملة استمرت بكل الوحشية سنتين كاملتين، حولت القطاع المحاصر و الذي يعج بالسكان، الى مسرح لإبادة بكل ما تحمل الكلمة من دلالة – بإقرار من مساندي الدولة العبرية قبل خصومها-.
لم يقف الانتقام عند حدود القطاع، بل أن تل أبيب بزعامة رئيس الحكومة اليمينية المتطرفة بنيامين ناتينياهو الى توسيع دائرة الحرب، فتم استهداف لبنان بنيران مكثفة طالت اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله، كما وصلت نيران ناتينياهو الى اليمن و العراق و سوريا التي أسقطت “نظامها الأسدي”، وأخيرا ايران التي دخلت في المواجهة المباشرة، بعد سنوات من “الصبر الاستراتيجي”، ليمتد بذلك الصراع الى كامل المنطقة، وهو الهدف الذي سعت له حكومة تل أبيب، برغم تحذير واشنطن والغرب وكل دول الشرق الأوسط، من مخاطر توسع النيران الى حرب شاملة، امتدادها سيأتي على الأخضر و اليابس في المنطقة وخارجها.
اليوم، وبعد مرور سنتين من هجوم المقاومة، ومن ردة فعل اسرائيل، وتداعيات توسع الصراع الذي وضع المنطقة والعالم على فوهة بركان من الحمم النارية المتصاعدة، لتتحول لحظة السابع من أكتوبر 2023، الى اليوم الذي انقلب فيه العالم راسا على عقب، اذ أن تداعيات ما حصل و الرد عليه، طالت كامل أنحاء العالم، و أحدثت شرخا كبيرا في منظومة القيم الكونية، لتجعل بلاد الغرب و الولايات المتحدة، أمام مأزق خسارة ثقافتها القائمة على الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية، ولتخسر أيضا مصداقية القانون و المنظمات الدولية التي قام عليها النظام العالمي منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، في خمسينات القرن الماضي.
هذا “النظام الدولي”، الذي وقف عاجزا عن ايقاف “البلطجة” الاسرائيلية، التي تجاوزت كل الخطوط المتعارف عليها في الصراعات و الحروب الحديثة، لتحول كيان جغرافي معزول الى مسرح لإبادة تنقل مباشرة في الفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ما يفسر تحرك “الشارع الانساني” من برشلونة الى روما الى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن دون جدوى، ودون قدرة على ايقاف الصلف و الجريمة التي تمارسها حكومة ناتينياهو، وهو ما جعل الاستقرار في المنطقة مهددا ومنذرا بحرب شاملة، خاصة بعد انتقال المواجهة من اسرائيل و وكلاء ايران خاصة حزب الله اللبناني، الى مواجهة مباشرة بين تل أبيب و طهران، كانت آخر فصولها حرب الاثني عشر يوما، بين طهران وتل أبيب، التي لا يستبعد أن يتم استئنافها من جديد، ، وتلويح الحكومة اليمينية في تل ابيب بالعودة لا للقتال فط بل لإسقاط نظام الحكم في طهران، الذي قد تكون تكلفته اعلان الحرب في منطقة الشرق الأوسط برمتها، فضلا عن تأخير الحل للصراع في غزة ولبنان، وبالتالي وأد كل حديث عن “اليوم التالي”، وما يعني ذلك من استمرار “لنهر الجنون”.
استعادة الردع .. تحول في عقيدة الحرب
عملية المقاومة ( طوفان الأقصى)، التي استطاعت أن تمس “دولة اسرائيل” في شكوتها المتمثلة في احتكار “قوة الردع” في المنطقة، وهو ما سمح لها بالتحكم في خياري الحرب و السلم، و المس بقوة الردع و التشكيك فيها، هو الذي هي يفسر حالة الجنون التي طبعت الرد الاسرائيلي، سواء في قطاع غزة أو لاحقا في الضاحية الجنوبية لبيروت وطهران واليمن… فالثابت اليوم ان اسرائيل لم تعد تسعى الى “الامن” فقط، بل الى اعادة هندسة الجغرافيا السياسية و الديمغرافية للمنطقة، بموافقة وضوء أخضر أمريكي، وهذا هو جوهر التحول في العقيدة الإسرائيلية، في علاقة بالقضية الفلسطينية و بموقعها في الشرق الأوسط.
أما سياسيا فقد كانت تل أبيب قبيل “لحظة طوفان الأقصى”، في موقع قوة وبدعم أمريكي لفرض مسار تطبيعي في المنطقة يشمل المملكة العربية السعودية ( اتفاقيات أبراهام، موجة التطبيع العربي مع اسرائيل )، أي في سياق اقليمي و دولي يتسم بتمدد موجة التطبيع، بعد السعي لإعلان فشل بل ودفن اتفاق أوسلو للسلام الذي مر عليه أكثر من 30 سنة، والذي أضعف القضية الفلسطينية بل أنه يكاد يصفيها حتى لدى محيطها العربي، وكذلك تجاوز ودفن ايضا اتفاق كامب ديفيد مع مصر و اتفاق وادي عربة مع الأردن، لصالح “اتفاقات أبراهام”.
لكن ما حصل فجر السابع من أكتوبر 2023، من جهة النوعية والحصيلة، أصاب مسار التطبيع المنشود في مقتل، كما أعاد الزخم للقضية الفلسطينية، وأرجعها الى قلب الأحداث الدولية، مغطيا على قضايا أخرى هامة على غرار الحرب الروسية/ الأوكرانية. لذلك لا نبالغ بالذهاب الى القول الى أن “واقعة السابع من أكتوبر” والتي ما تزال جارية، تعد “فارقة”، خاصة في خلط أوراق المشهد الشرق أوسطي، الذي كنا نظن أنه ركن الى “الاستقرار”، كما صبت الزيت على نيران مشهد دولي في حالة تحول.
الطوفان، في سياق دولي متحرك
حصل ما حصل و يحصل الأن، في غزة واسرائيل ثم بقية المنطقة، في سياق دولي متحرك وشديد التوتر، لعل أبرز ما يميزه يتمثل في بروز “مزاج عالمي” جديد، يرفض استمرار الهيمنة القطبية الواحدة، ويبشر بنظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وهو – على حالة الاستحياء فيه ومعه ودون رفع سقف الانتظارات- يمكن أن يسمح للمقاومة الفلسطينية بإحداث اختراق مستفيدة من التناقضات في السياسات والعلاقات الدولية في عالم انتقالي، ومع ذلك فان الوضع يبقى معقدا وفرص التسوية التي يمكن أن يقبل بها الطرفين ( الفلسطيني و الاسرائيلي )، والتي من شأنها أن تخفف من الصراع تبقى فرصا ضئيلة، خاصة في ظل تعنت الحكومة اليمينة العنصرية في تل أبيب.
كما ان كل الاطراف المشاركة في المشهد ( اسرائيل، حماس، السلطة الفلسطينية، الأنظمة العربية و أمريكا و الغرب) عاجزة عن تصور اليوم التالي، لان الجميع يتحرك في فراغ استراتيجي وضمن حسابات قصيرة المدى.
ولعل هذا ما يفسر حالة الاجماع، خارج وداخل اسرائيل نفسها، على أن غزوة “طوفان الأقصى” التي قامت بها المقاومة الفلسطينية من غزة يوم 7 أكتوبر 2023 مثلت “حدث فارق” – وهذا رأينا أيضا – وذلك للاعتبارات التالية:
من جهة اولى: التوقيت، في سياق حراك ودينامية دولية من واشنطن الى القاهرة – في علاقة باستحقاقات انتخابية هامة- مرورا بالرياض التي تستعد لعقد اتفاق تاريخي مع تل ابيب، يوصف امريكيا – الدولة الراعية له- بانه سيكون ” زلزال جيو بوليتيكي”.
من جهة ثانية :المباغتة، التي كشفت عن فشل استخباراتي وامني وايضا فشل في الجهوزية العسكرية لكيان يعيش حالة حرب مع محيطه منذ شهد النور.
من جهة ثالثة: تطور الجاهزية العملياتية للمقاومة، هجوم نوعي متعدد المصادر – بري، جوي وبحري- يكشف عن “حالة ابداعية” في تطوير النضال الوطني الفلسطيني.
اما الجهة الثالثة: فتتمثل في كون ما حدث قد كشف عن ان هناك عقل استراتيجي مقاوم بصدد مراكمة ارث العمل الميداني والاهم بصدد وضع الفعل المقاوم ضمن سياق الدينامية الجيو سياسية في المنطقة وفي العالم، وهو ما جعله يلحق ضربة قوية في مسار التطبيع الذي انطلق قطاره بقوة قبل أن “يفرمله” أو يوقفه “الطوفان”..
وفي ما يلي ملاحظات اولية – قبل أن تضع الحرب أوزارها- لتداعيات يوم 7 اكتوبر الذي دخل بقوة كتاريخ فارق في مسار الصراع الفلسطيني/ الاسرائيلي .
أولا: ما حصل اعاد للقضية الفلسطينية حضورها ومركزيتها في الشارع العربي، التي اضر بها مسار أوسلو للسلام دون ان يحقق مكاسب، فضلا عن كون تداعيات العملية والرد الاسرائيلي الوحشي، قد أحدثا دينامية و حيوية داخل الشارع التضامني الانساني الرافض لما يحدث من افراط غير مسبوق في استعمال القوة العسكرية.
ثانيا: مثل “زلزال ال 7 من أكتوبر” ضربة موجعة لتسونامي التطبيع، الذي انطلق مع اتفاقات ابراهام و وصل قطاره في خطوة جريئة الى المملكة العربية السعودية، التي صرح ولي عهدها في أكثر من مناسبة، بأنه لا مجال للتطبيع الا بعد تمكين الفلسطنيين من دولة مستقلة، وهو موقف مبدئي للرياض لا يمكن ان تتنازل عنه.
ثالثا: كشف “طوفان الأقصى” على أن تطبيع الأنظمة العربية او ما يعرف بالتطبيع الرسمي لا يصنع السلام مع اسرائيل و القبول بها في المنطقة لتبقى جسما مزروعا بالقوة فيها ومنبوذا من قبل الشعوب والنخب العربية.
رابعا: جرأة العملية ونوعيتها وحصيلتها احدثت صدمة في اسرائيل ولدى حلفاءها في واشنطن و جل بقية العواصم الغربية، وهذا قد يكون مقدمة لفرض معادلة جديدة في الصراع او على الاقل مقدمة لإحياء مسار حل الدولتين الذي عمد اليمين الحاكم في تل ابيب الى وأده وفرض دولة عنصرية- أبارتايد-..
خامسا: احياء لجبهة المقاومة داخل فلسطين وخارجها، وعودة متوقعة بقوة للدور الايراني – برغم ما لحقه من ضربات موجعة- الداعم لها والمستفيد من استئنافها ومن توقف او على الاقل تعطل قطار التطبيع، الذي كان يسير بسرعة جنونية متجاوزا كل ” المحرمات” و ” اللاءات” التقليدية المعروفة في علاقة بالصراع العربي الاسرائيلي.
برغم الدعم الرسمي لإسرائيل فان هناك نخب امريكية وغربية بدأت تنقد الابادة الجارية في غزة وتتمسك بحل سلمي وانساني في انسجام مع القيم الكونية التي نهلت منها. وفي هذا الاطار و بمناسبة صدور كتابه الأخير “كم من الوقت سيستغرق الأمر؟، خصص الصحافي “الاقتصادي” والكاتب الفرنسي فرانسوا لانغلي، صحيفة “لوفيغارو” بمقابلة، حلّل فيها مختلف الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية وحتى المناخية التي تتضافر لتعطيل النظام العالمي
وهنا كشف لانغلي عن أزمة الفضاء الغربي، مشيرا الى أن العالم بدأ يَشهد تراجع مجال النفوذ الغربي بعد خمسة قرون من التوسع والهيمنة، وأن الهجوم ضد إسرائيل، الذي نفذته حماس المدعومة من محور طهران- موسكو- بكين، يشكل إشارة لهذا التحول، الذي بحسب قوله، يجبر الغرب على إعادة التفكير في أمور كثيرة، وهنا يكمن مأزق “اليوم التالي” الذي يبقى دون اجابة، بعد سنتين من القتل الشرس ، وبعد أن تحولت جغرافية قطاع غزة الى مسرح جريمة مفتوحة ومجال لإبادة جماعية .
أخيرا يكشف مأزق اليوم التالي – أي لحظة ما بعد الحرب – عن تقاطع عجز اسرائيل عن تحقيق نصر سياسي، مع عجز الفلسطينيين و العرب، عن بلورة بديل تاريخي . فالمأزق هنا ليس عسكريا فحسب، بل هو ايضا ازمة معنى و شرعية اذ يبدوا كل طرف – من المقاومة الى السلطة مرورا بالنظام الرسمي العربي- فاقدا لرؤية واضحة للمستقبل.
ومن هنا فان تحليلنا – المستند لأدوات التحليل السيسيولوجي – ينظر الى حرب غزة كحدث كاشف للبنى العميقة للازمة العربية : ازمة الفاعلية، وغياب المشروع و ضمور السياسة.
Comments