منذر بالضيافي يكتب عن غزة: من “الطوفان” الى “الابادة” .. و مأزق اليوم التالي ؟
منذر بالضيافي
تمر اليوم 7 أكتوبر 2024 سنة على الهجوم الاستعراضي للمقاومة الفلسطينية من قطاع غزة ( طوفان الأقصى )، و الرد الاسرائيلي الذي فات المتوقع والمعتاد، والمتمثل في شروع آلة الحرب الإسرائيلية في تنفيذ عقاب جماعي “للقطاع المقاوم” ( حملة السيوف الحديدية )، استمر طيلة سنة كاملة وحول القطاع المحاصر الى مسرح لإبادة بكل ما تحمل الكلمة من دلالة.
كما سعت تل أبيب بزعامة رئيس الحكومة اليمينية المتطرفة بنيامين ناتينياهو الى توسيع دائرة الحرب، فتم استهداف لبنان بنيران مكثفة طالت اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله، كما وصلت نيران ناتينياهو الى اليمن و العراق و سوريا ، وأخيرا ايران التي دخلت في المواجهة المباشرة، بعد سنوات من “الصبر الاستراتيجي”، ليمتد بذلك الصراع الى كامل المنطقة، وهو الهدف الذي سعت له حكومة تل أبيب، برغم تحذير واشنطن والغرب وكل دول الشرق الأوسط، من مخاطر توسع النيران الى حرب شاملة.
اليوم، وبعد مرور سنة من هجوم المقاومة، ومن ردة فعل اسرائيل، وتداعيات توسع الصراع الذي وضع المنطقة والعالم على فوهة بركان من الحمم النارية المتصاعدة، لتتحول لحظة السابع من أكتوبر 2023، الى اليوم الذي انقلب فيه العالم راسا على عقب، اذ أن تداعيات ما حصل و الرد عليه، طالت كامل أنحاء العالم، و أحدثت شرخا كبيرا في منظومة القيم الكونية، لتجعل بلاد الغرب و الولايات المتحدة، أمام مأزق خسارة ثقافتها القائمة على الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية، ولتخسر أيضا مصداقية القانون و المنظمات الدولية التي قام عليها النظام العالمي منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، في خمسينات القرن الماضي.
هذا “النظام الدولي”، الذي وقف عاجزا عن ايقاف “البلطجة” الاسرائيلية، التي تجاوزت كل الخطوط المتعارف عليها في الصراعات و الحروب الحديثة، لتحول كيان جغرافي معزول الى مسرح لإبادة تنقل مباشرة في الفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ما يفسر تحرك الشارع الغربي من باريس الى لندن ال جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن دون جدوى، ودون قدرة على ايقاف الصلف و الجريمة التي تمارسها حكومة ناتينياهو، وهو ما جعل الاستقرار في المنطقة مهددا ومنذرا بحرب شاملة، خاصة بعد انتقال المواجهة من اسرائيل و وكلاء ايران خاصة حزب الله اللبناني، الى مواجهة مباشرة بين تل أبيب و طهران، كانت آخر فصولها الضربة الايرانية الموجعة منذ ايام لاسرائيل، وتلويح الحكومة اليمينية في تل ابيب بالرد، الذي قد تكون تكلفته اعلان الحرب في منطقة الشرق الأوسط برمتها، فضلا عن تأخير الحل للصراع في غزة ولبنان، وبالتالي وأد كل حديث عن “اليوم التالي”.
عملية المقاومة ( طوفان الأقصى)، التي استطاعت أن تمس “دولة اسرائيل” في شكوتها المتمثلة في احتكار “قوة الردع” في المنطقة، وهو ما سمح لها بالتحكم في خياري الحرب و السلم، و المس بقوة الردع و التشكيك فيها، هو الذي هي يفسر حالة الجنون التي طبعت الرد الاسرائيلي، سواء في قطاع غزة أو لاحقا في الضاحية الجنوبية لبيروت، أما سياسيا فقد كانت تل أبيب قبيل “لحظة طوفان الأقصى”، في موقع قوة وبدعم أمريكي لفرض مسار تطبيعي في المنطقة يشمل المملكة العربية السعودية ( اتفاقيات أبراهام، موجة التطبيع العربي مع اسرائيل )، أي في سياق اقليمي و دولي يتسم بتمدد موجة التطبيع، بعد السعي لإعلان فشل بل ودفن اتفاق أوسلو للسلام الذي مر عليه 30 سنة، والذي أضعف القضية الفلسطينية بل أنه يكاد يصفيها حتى لدى محيطها العربي، وكذلك تجاوز ودفن ايضا اتفاق كامب ديفيد مع مصر و اتفاق وادي عربة مع الأردن، لصالح “اتفاقات أبراهام”.
لكن ما حصل فجر السابع من أكتوبر 2023، من جهة النوعية والحصيلة، أصاب مسار التطبيع المنشود في مقتل، كما أعاد الزخم للقضية الفلسطينية، وأرجعها الى قلب الأحداث الدولية، مغطيا على قضايا أخرى هامة على غرار الحرب الروسية/ الأوكرانية. لذلك لا نبالغ بالذهاب الى القول الى أن “واقعة غزة” والتي ما تزال جارية، تعد “فارقة”، خاصة في خلط أوراق المشهد الشرق أوسطي، الذي كنا نظن أنه ركن الى “الاستقرار”، كما صبت الزيت على نيران مشهد دولي في حالة تحول.
حصل ما حصل و يحصل للأن في غزة واسرائيل ثم بقية المنطقة، في سياق دولي متحرك وشديد التوتر، لعل أبرز ما يميزه يتمثل في بروز “مزاج عالمي” جديد، يرفض استمرار الهيمنة القطبية الواحدة، ويبشر بنظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وهو ما يمكن أن يسمح للمقاومة الفلسطينية بإحداث اختراق مستفيدة من التناقضات في السياسات والعلاقات الدولية في عالم انتقالي، ومع ذلك فان الوضع يبقى معقدا وفرص التسوية التي يمكن أن يقبل بها الطرفين ( الفلسطيني و الاسرائيلي )، والتي من شأنها أن تخفف من الصراع تبقى فرصا ضئيلة، خاصة في ظل تعنت الحكومة اليمينة العنصرية في تل أبيب.
هناك اجماع خارج وداخل اسرائيل نفسها على أن غزوة “طوفان الأقصى” التي قامت بها المقاومة الفلسطينية من غزة يوم 7 أكتوبر 2023 مثلت “حدث فارق” – وهذا رأينا أيضا – وذلك للاعتبارات التالية:
من جهة اولى: التوقيت، في سياق حراك ودينامية دولية من واشنطن الى القاهرة – في علاقة باستحقاقات انتخابية هامة- مرورا بالرياض التي تستعد لعقد اتفاق تاريخي مع تل ابيب، يوصف امريكيا – الدولة الراعية له- بانه سيكون ” زلزال جيو بوليتيكي”.
من جهة ثانية :المباغتة، التي كشفت عن فشل استخباراتي وامني وايضا فشل في الجهوزية العسكرية لكيان يعيش حالة حرب مع محيطه منذ شهد النور.
من جهة ثالثة: تطور الجاهزية العملياتية للمقاومة، هجوم نوعي متعدد المصادر – بري، جوي وبحري- يكشف عن حالة ابداعية في تطوير النضال الوطني.
اما الجهة الثالثة: فتتمثل في كون ما حدث قد كشف عن ان هناك عقل استراتيجي مقاوم بصدد مراكمة ارث العمل الميداني والاهم بصدد وضع الفعل المقاوم ضمن سياق الدينامية الجيو سياسية في المنطقة وفي العالم، وهو ما جعله يلحق ضربة قوية في مسار التطبيع الذي انطلق قطاره بقوة في الفترة الاخيرة.
وفي ما يلي ملاحظات اولية – قبل أن تضع الحرب أوزارها- لتداعيات يوم 7 اكتوبر الذي دخل بقوة كتاريخ فارق في مسار الصراع الفلسطيني/ الاسرائيلي .
1/ ما حصل اعاد للقضية الفلسطينية حضورها ومركزيتها في الشارع العربي، التي اضر بها مسار أوسلو للسلام دون ان يحقق مكاسب، كما يتوقع ان تعيد هذه الدينامية ايضا حيوية لهذا الشارع العربي و في دول المنطقة قد تكون مقدمة لحراك احتجاجي – كرة الثلج-..
2/ ضربة موجعة لتسونامي التطبيع الذي انطلق مع اتفاقات ابراهام و وصل قطاره في خطوة جريئة الى المملكة العربية السعودية التي صرح ولي عهدها في أكثر من مناسبة، بأنه لا مجال للتطبيع الا بعد تمكين الفلسطنيين من دولة مستقلة، وهو موقف مبدئي للرياض لا يمكن ان تتنازل عنه.
3/ كشف “طوفان الأقصى” على أن تطبيع الأنظمة العربية او ما يعرف بالتطبيع الرسمي لا يصنع السلام مع اسرائيل و القبول بها في المنطقة لتبقى جسما مزروعا بالقوة فيها ومنبوذا من قبل الشعوب والنخب العربية.
4/ جرأة العملية ونوعيتها وحصيلتها احدثت صدمة في اسرائيل ولدى حلفاءها في واشنكن و جل بقية العواصم الغربية، وهذا قد يكون مقدمة لفرض معادلة جديدة في الصراع او على الاقل مقدمة لإحياء مسار حل الدولتين الذي عمد اليمين الحاكم في تل ابيب الى وأده وفرض دولة عنصرية- أبارتايد-.
5/ احياء لجبهة المقاومة داخل فلسطين وخارجها وعودة متوقعة بقوة للدور الايراني الداعم لها والمستفيد من استئنافها ومن توقف او على الاقل تعطل قطار التطبيع، الذي كان يسير بسرعة جنونية متجاوزا كل ” المحرمات” و ” اللاءات” التقليدية المعروفة في علاقة بالصراع العربي الاسرائيلي.
برغم الدعم الرسمي لإسرائيل فان هناك نخب امريكية وغربية بدأت تنقد الابادة الجارية في غزة وتتمسك بحل سلمي وانساني في انسجام مع القيم الكونية التي نهلت منها.
وفي هذا الاطار و بمناسبة صدور كتابه الأخير “كم من الوقت سيستغرق الأمر؟، خصص الصحافي “الاقتصادي” والكاتب الفرنسي فرانسوا لانغلي، صحيفة “لوفيغارو” بمقابلة، حلّل فيها مختلف الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية وحتى المناخية التي تتضافر لتعطيل النظام العالمي
وهنا أضاف لانغلي، بأن العالم يَشهد تراجع مجال النفوذ الغربي بعد خمسة قرون من التوسع والهيمنة، وأن الهجوم ضد إسرائيل، الذي نفذته حماس المدعومة من محور طهران- موسكو- بكين، يشكل الإشارة الأخيرة لهذا التحول، الذي بحسب قوله، يجبر الغرب على إعادة التفكير في أمور كثيرة، وهنا يكمن مأزق “اليوم التالي” الذي يبقى دون اجابة، بعد سنة من القتل وبعد تحول جغرافية قطاع غزة الى مسرح جريمة مفتوحة ومجال لإبادة جماعية على الهواء و أمام الملأ.
Comments