الجديد

من البعد المادي إلى البعد الروحي

سنية البوغانمي

لعقود طويلة ظل الانسان حبيسا لفكرة مفادها أن جسده الوحيد هو جسمه المادي. ففسر كل شيء من خلاله؛ وظن أن الوسائل التي ستترجم له كل ما يحدث حوله هي حواسه المادية؛ من عينين و أذنين و يدين و شفتين الخ الخ.. فاتكل كثيرا على جسمه و أوكل غالبية أعماله إليه.

ثم و من خلال تعلمه لأشياء جديدة و دراسته لعلوم لم يكن يعلمها، أدرك أن هنالك كيانا آخر داخله يمكنه الاتكال عليه، و أنه يمكن ان يوفر عليه الكثير من الجهد و الطاقة. وانتقل بذلك من جسده المادي إلى جسده الفكري.. و بهذا الانتقال بدأ عصر الاستكشاف و الاختراع ليسهل بذلك حياة الملايين حول العالم.

وانتقل الانسان من جزأه الحيواني إلى عقله، و ساهم هذا الانتقال في تطوره و في حصوله على رفاهية أكبر. ومع هذا التطور الكبير الذي انتقل بالبشرية من أناس يصطادون الحيوانات و يعيشون فقط لاشباع غرائزهم من صيد و أكل و تكاثر، إلى انسان يفكر و يحلل و يتساءل ويخترع،  ليكون هذا الانتقال بمثابة ثورة حقيقية.

لكن هذا الانتقال و التطور لم يكن كافيا فلطالما أدرك الانسان أن بداخله عوالم كثيرة لم تكتشف بعد و كنوز عظيمة لاتزال مطمورة. و باجتهاده انتقل لجسده العاطفي و بدأ يلون الحياة بمشاعر و عواطف جميلة و عميقة و بات يتفنن في الرسومات و الأشكال ليضع بصمته المختلفة في كل مكان.

ومن هذه البذرة تولد ملايين الأزهار مختلفة الألوان و الرائحة، لتنبأ ببداية عصر جديد لتشرق شمس الابداع ، لتخلق الفنون . وعرف الانسان أبعادا أخرى مزدهرة و بدأ بالاستمتاع و ترجم مشاعره بالفنون من غناء و رقص ورسم و موسيقي ، قادرة على السفر به لكل مكان و الوصول لأعماقه و دغدغة مشاعره، و لتمكنك الذات الانسانية  من تعلم لغة جديدة ، لن تحرك بها لسانك لتبدأ حوارا شيقا و عميقا يربط أي روحين متصلين.

كل هذا التطور و الازدهار ساهم في انتقال البشرية لبعد مبهج كله ألوان مبدعة و ثراء. و مع كل هذا الزخم من الفنون و الابداع أدرك الانسان أن هنالك المزيد و المزيد و أن عليه بذل الجهد للانتقال لابعاد أخرى أكثر تشويقا.

و بالاطلاع على الحضارات و تاريخها و على العلوم وأسرارها و ربط الخيوط ببعضها و التأمل العميق.. و بارجاع الأمور لأصولها أمكن للكثيرين الاتصال أخيرا و الوصول لبعد جديد مغاير لكل ما سبق؛ لا يخضع لا للمنطق أو العقل و لا حتى للمشاعر..

بعد عميق جدا و قريب في نفس الوقت،  و باتصاله بهذا البعد أمكنه أن يتجاوز المكان و الزمان.. لكنه لن يستطيع الولوج هناك ما لم يتخلى على “الإيقو”؛ على الأنانية؛ على الكره و على غروره.

سيكون عليه شفاء نفسه بنفسه أولا و أن ينزع عنه كبريائه، وان يتقبل ظلامه قبل نوره.. عليه أن يدرك أنه في لعبة لن يبدأ في الاستمتاع بها ما لم يسلم لخارجه و يدرك أنه قد يصنع التاريخ لكنه في نفس الوقت قد يعجز حتى على جريان الدم في وريده.

و بدخول الانسان لهذا البعد تتغير كل قوانين اللعبة ليكسر كل الحدود؛ فمن اليوم لن يحده شيء إلا ما حدده هو في داخله.

في هذا البعد أنت متصل بكل خلاياك بكل شيء في عالمك.. أنت تتقن لغة التخاطر؛ ربما تطلع على النوايا؛ أنت تحقق أهدافك بيسر و استمتاع.. أنت تبدأ بالاستمتاع بالرحلة و تنسى الوصول.. و تدرك أن الحياة هبة كبيرة لتتخلى على البهرج.. أنت الآن يصعب إغرائك لانك تمتلك حريتك.. أنت تنظر للب الأمور و تبحث فقط عن اناس حقيقيين يشاركونك هذه المتعة..

و حتى ان لم تجد أنت مكتفي بنفسك فانت تملك كل احتياجاتك ، أنت الآن تتبع شغفك و تعطي من أعماق قلبك لينعكس داخلك خارجك و يتجلى بكمال.

كان من المفروض انتقال الجميع لهذا البعد؛ فكل العوامل الخارجية كانت تدفع بنا للوصول هناك. لكن للأسف الشديد نجد الكثيرين مازالوا محبوسين في أجسادهم المادية.. لا يزالون في المربع الأول.. يِؤكلون كل مهامهم لاجسادهم المادية و يترجمون كل الأحداث من خلال حواسهم.. هؤلاء يعملون باجسادهم و يتقاضون مبالغ مادية بخسة بالكاد تكفيهم لقمة العيش.. فيعانون دائما من الفقر و التهميش و يتقنون لعب دور الضحية.. يشتكون دائما.. حياتهم تشابه الجحيم باحداثها و لخبطتها.

هؤلاء لا يدركون أن الحياة ليست قاسية معهم بل هي بمثابة المعلم الصارم الذي يلقنهم الدروس باسلوب خشن علهم يستيقظون و ينتقلون لجسدهم الفكري على الأقل لتخفيف الضغط عليهم.

في هذا البعد نجد أكثر من50% من العرب إن لم يكن أكثر يقبعون هناك.. هناك نجد الفقر ممزوجا بالكره ليشكل قنابل موقوتة يمكن لها الانفجار في أي لحظة. في البعد الثاني نجد فئة أخرى.. فئة تجاوزت البعد المادي و انتقلت لاعمال العقل و التفكير.. هؤلاء يقدمون خدمات قيمة للآخرين فنجد الأطباء و المحامين و الأساتذة الخ الخ

نقطة ضعف هؤلاء هي ارجاع كل شيء للمنطق و العلم.. ناسين أن العقل يعجز عن الكثير و له حدود مهما تعمق و قرأ من الكتب.. ان عدو هؤلاء الرئيسي هو “الايقو” و الغرور. و أما البعد الثالث فهو البعد العاطفي هناك نجد زبدة المجتمع المزاجيين الذين يستعملون جزأهم الايمن من الدماغ و يدخلون عواطفهم و مشاعرهم في كل اعمالهم ليبدعوا و يزيدوا  حياتنا بهجة و يمتعونا بفنهم و رقيهم.

و أما البعد الأعمق و الأقوى فهو البعد الروحي إنه بعد لا يخضع للقوانين يتجاوز كل شيء و هو يلامس ايضا كل شيء.. أنت فيه متصل بكل ذرة.. نحن ان اردنا الانتقال لهذا البعد المتجذر في كل واحد منا علينا بذل الجهد.. بل الكثير من الجهد.

علينا اسكات جسدنا ثم اسكات ضجيج عقلنا و تحييد عواطفنا لملامسة حقيقتنا و الاجابة على كل أسألتنا و ذلك بالتأمل و التفكر.  و بدون الصدق لن يمكنك عبور الجسر… أنت ايضا ستحتاج قوة كبيرة و جرأة و شجاعة لتقبل الحقيقة.

الآن و هنا و الآن الكل بمقدوره الولوج لهذا البعد الروحي؛ علينا فقط الاستيقاظ وتغيير الوجهة من الخارج إلى الداخل و اكتشاف هذه العوالم الخفية الشيقة و المثيرة.

أنت فقط محتاج للتخلي عن الوهم و بذل الجهد الكافي لاستكشاف دواخلك و الانتباه لقدراتك. فانت تجلس على جبل مليء بالذهب و المجوهرات النفيسة. مهمتك نفظ الغبار و ترسبات الزمن و إعادة برمجتك.

أنت تحمل في داخلك كل الإجابات بالفطرة.. فقط انتبه.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP