الجديد

هشام الحاجي يكتب عن: العدوان الصهيوني-أطلسي على غزة .. فصل من حروب اللقاطة ضد العراقة

هشام الحاجي

فاجأ “طوفان الأقصى ” أشد المتابعين عن قرب لمجريات النضال الأسطوري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني منذ عقود ضد الكيان الصهيونى. كان التصعيد في ممارسات العنف والتعسف الذي تنتهجه  الحكومة اليمينية المتطرفة بزعامة نتنياهو تشير إلى أنها تقرع طبول الحرب وتبحث عن حرب تغطي بها على مشاكلها الداخلية وتمكنها من تنويم الرأي العام الصهيوني بإعادة إحياء وهم “إسرائيل الكبرى ” الذي تأكد منذ حرب أكتوبر 1973 وخاصة بعد هزيمة مغامرة الحرب على لبنان سنة 2006 أنه ” حلم ” لا يمكن أن ينفتح إلا على هزائم وكوابيس.

هناك أيضا رغبة في تسريع مسار التطبيع مع الدول العربية وإعطاء دفع لمشروع “صفقة القرن ” واستغلال حالة الضعف الفلسطيني والعربي وحاجة الرئيس/المترشح جو بايدن لدعم اللوبي الصهيوني للتعسف على الشعب الفلسطيني ومواصلة انتهاك حقوقه.

المقاومة تأخذ المبادرة وتقلب الطاولة

ولكن أخذ كتائب القسام المبادرة  ليلة السابع من أكتوبر فاجأ الجميع خاصة وأن ذلك تزامن مع قدرة لافتة على الإنجاز وأيضا على امتلاك ناصية الإتصال ومخاطبة الرأي العام. ولا شك أن إختيار شعار ” طوفان الأقصى ” لتوصيف الخطوة التي أقدمت عليها حركة حماس ليس من باب الصدفة أو المبالغة.

بعيدا عن البحث عن دلالات التسمية وأبعادها فإن ” الطوفان ” يخلق وضعية مختلفة بشكل كبير عن الوضعية التي سبقته وهو ما ينطبق بشكل عام على الحروب التي غالبا ما تخلق وضعا بعيدا عن الأهداف التي جاءت للدفاع عنها وعن طوفان الأقصى تحديدا الذي يمثل منعرجا غير مسبوق في تاريخ الصراع بين الشعب الفلسطيني والمحور الصهيو-أطلسي الذي يمتد إلى عقود .

لا شك أن الكتابة عن “طوفان الأقصى ” بقدر ما لا يمكن أن تكون باردة لأن الصراع يعنينا في كل أبعاده ولأن التعبير عن السخط والامتعاض هو أقل ما يمكن أن نواجه به الة التدمير والهمجية الصهيونية، بقدر ما يبدو من الضروري تجنب القراءات الانفعالية والمتسرعة أيضا و بناء الاستنتاجات على معطيات غير دقيقة. ما هو مؤكد أن عددا من أسرار وخفايا الساعات، بل والأشهر التي سبقت إطلاق الشرارة الأولى لطوفان الأقصى لن يقع الكشف عنها هذه الأيام بل يمكن أن يحتاج الأمر إلى سنوات. وقد تنتشر ، في سياق تواصل الحرب بأشكال أخرى، روايات بعيدة عن الحقيقة لأن الخداع هو أحد أهم شروط خوض الحروب والظفر بها. 

ولا شك أن أهمية منعرج “طوفان الأقصى ” تفرض ، إلى جانب الوقوف اجلالا أمام تضحيات أهل غزة والانحناء تحية لأرواح الشهداء من المقاومين والأبرياء، التحلي بالكثير من التواضع وذلك بالتطرق لما بعد الهمجية الصهيو-أطلسية من إعتماد مسلكين وهما المسلك السياسي أساسا المسلك الثقافي الذي يمثل أحد أهم جوانب المعركة التي تخوضها الإنسانية ضد المحور الصهيو-أطلسي الذي تقوده عقلية عنصرية تمثل أسوأ تجليات الرؤية المركزية-الأوروبية والذي يحركه هاجس الربح المادي السعي لاستغلال البشر. 

ملاحظات وتساؤلات

يمكن أن نكتفي في المسلك الأول بإبداء ملاحظات سريعة وطرح تساؤلات سيجيب عنها قادم الأيام ومن أهمها:

– ما هي الصفقة السياسية التي سيقع التوصل إليها في نهاية الحرب على غزة؟ وهل ستكون في مستوى التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني في الأسابيع الأخيرة؟ وكيف سيتقبل الشعب الفلسطيني هذه الصفقة؟

– ما هي انعكاسات وتداعيات ما بعد طوفان الأقصى على تماسك حركة حماس؟ وأيضا على السلطة الفلسطينية خاصة في ظل إشارات حول عدم تنسيق بين الجناح العسكري والجناح السياسي لحركة حماس في ما يتعلق بالإعلان عن ساعة الصفر لطوفان الأقصى وفي ظل الأداء المخجل والمستفز لمحمود عباس. 

– أحسن قادة مختلف الفصائل الفلسطينية الوقوع في فخ تبادل سهام النقد والتفوا وراء كتائب المقاومين والمجاهدين في غزة. هذا ما يمثل بذرة إستعادة، مطلوبة وضرورية، للوحدة الوطنية الفلسطينية. فهل ستكون هناك إعادة التقاء حول مشروع وطني وتجاوز حالة الانقسام التي أضعفت الجسم الفلسطيني؟ 

– أسئلة عديدة تطرح حول مستقبل ” محور المقاومة ” الذي برزت بعض التباينات في تفاعله مع طوفان الأقصى ولا شك أن الأسابيع القادمة ستحمل الإجابات الشافية. 

– طوفان الأقصى أكد أن مصر قد خرجت منذ كامب ديفيد عن معادلة الصراع العربي- الصهيوني وتحولت من لعب دور المكون الفاعل إلى إنتظار لعب دور الوسيط في أفضل الأحوال. يبدو واضحا أن ” زعامة ” العالم العربي تنتقل إلى الخليج العربي وإلى المملكة العربية السعودية تحديدا. فما هي تداعيات ذلك على مستقبل الصراع العربي- الصهيوني. ؟

تورط أمريكا و الغرب في الصراع

لا شك أن مجريات طوفان الأقصى تعيد التذكير بحقائق وما يمكن اعتباره من ” البديهيات ” وتطرح أيضا ، من خلال ظهور مستجدات، مهام جديدة خاصة في المستوى الثقافي. هناك في المستوى السياسي ما يتأكد من أن: 

– الولايات المتحدة الأمريكية هي الطرف الأساسي في الصراع الفلسطيني- الصهيوني وهو ما تأكد بشكل واضح منذ الساعات الأولى لطوفان الأقصى فقد تجندت الإدارة الأمريكية لتقديم كل أشكال الدعم السياسي والعسكري لحكومة الكيان الصهيوني بل أن وزير الخارجية الأمريكية انطوني بلينكن تحول إلى وسيط لحل الخلافات صلب حكومة الكيان حتى تحافظ على تماسكها وتواصل عدوانها الهمجي على غزة.

هذا العدوان الذي لا يتعارض مع ايديولوجيا إبادة الشعوب التي تتبناها النخب الحاكمة في واشنطن منذ إبادة الهنود الحمر إلى اليوم مرورا باستعمال القنبلة الذرية مرتين في اليابان والحرب الكورية وأيضا الفيتنام وأفغانستان والعراق. وكما قال هنري كيسنجر فإن دور واشنطن ليس حل المشاكل بل توظيفها بالطريقة التي تخدم مصلحتها.

وواهم من يعتقد أن للمبادئ دورا في السياسات الأمريكية وهي التي فكرت بعد “تحرير فرنسا ” من النازية في إعادة حليف هتلر الماريشال بيتان إلى السلطة لأنها لم تكن مرتاحة للنزعة الاستقلالية للجنرال شارل ديغول.

ثروات غزة النفطية والعامية تسيل لعاب واشنطن وسعيها لتطويق الصين يجعلها أكثر تمسكا بالحفاظ على الكيان الصهيوني الذي ليس أكثر من كيان وظيفي في استراتيجيات الهيمنة الإمبريالية وهو الذي كانت بريطانيا العظمى، زمن سطوتها وترامي نفوذها الذي لا تغيب عنه الشمس، وراء وعد تأسيسه ثم تحولت مهمة رعايته وحمايته إلى ” زعيمة ” الإمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية وهي الولايات المتحدة الأمريكية. تكفي الإشارة هنا إلى أن واشنطن قد أغدقت على الكيان الصهيوني على امتداد سبعين عاما أكثر من  130 مليار دولار في شكل مساعدات ومنح من أموال دافع الضرائب الأمريكي. 

– أنهى طوفان الأقصى ما بقي من “مشروعية ” لما سمي حل الدولتين وهو الحل الذي قضت عليه منذ سنوات ممارسات التعنت والصلف الصهيوني وسياسات الاستيطان الوحشي التي اعتمدتها حكومات الكيان الصهيوني منذ عقود. وهو ما يفرض التفكير في أفق جديد للشعب الفلسطيني بعيدا عن ملاحقة وهم يردده ساسة غربيون وأمريكيون كشفوا عن تشبعهم بالفكر الصهيوني الذي هو في جوهره فكر عنصري واستعماري أنتجته مخابر الهيمنة على العقول والتلاعب بمصير الشعوب وأكسته، للتعمية والتمويه، بغطاء يهودي .

وإذا كان صمود الشعب الفلسطيني في غزة قد أفشل، لحد الآن، مشروع التهجير الصهيوني فإن الأسابيع القادمة مهمة في ما يتعلق ببلورة ملامح حل مرحلي لا يمثل تراجعا عن الوضع السابق لطوفان الأقصى ويمثل خطوة إضافية على طريق الإستقلال الكامل واستعادة كل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. 

– تأكد تحول النظام الرسمي العربي ومؤسساته إلى عبء على الشعوب العربية وتحول عجزه المزمن إلى ما يشبه الموت السريري تماما كما تحولت مؤسسات ” الشرعية الدولية ” إلى عبء على الإنسانية  . 

– الصهيونية عبء على الإنسانية وعلى اليهود: الهمجية التي أظهرها جيش الاحتلال الصهيوني ليست جديدة بل أن العربدة والهمجية تمثل أهم مكون في الأيديولوجيا الصهيونية التي تعتبر أن أفضل مكان للفلسطيني هو القبر وأن قتل الأطفال الفلسطينيين هو ” قتل لثعابين صغيرة قبل أن تكبر ” حسب عبارة وزيرة صهيونية. قد يكون العنف الذي مارسته حكومة المجرم نتانياهو على غزة هو الأشد منذ نشأة الكيان ولكن هذا هو من ” مكونات ” ايديولوجيا تقوم على العنف والإرهاب.

أبرز العدوان الصهيوني على غزة تعاطفا غير مسبوق مع فلسطين وشعبها وبداية تشكل وعي كوني يدرك أن فلسطين هي الحل للإنسانية لأن استقلال فلسطين يعني القضاء على آخر معاقل الإستعمار والانطلاق الفعلي نحو عالم أكثر توازنا وعدالة وإنسانية وهو من أهم شروط العيش المشترك الإنساني الذي يفرضه تحول الكرة الأرضية إلى قرية كونية يتعين أن تقيد العنف وأن تحتكم فعليا إلى قيم يؤمن بها الجميع وإلى شرعية دولية حقيقية تنهي منطق الكيل بمكيالين وافراغ مؤسسات القانون الدولي من دورها ومن مشروعيتها ويكرس قانون الغاب. 

هناك أيضا تطور في عدد اليهود الذين أخذوا يعبرون بوضوح عن تبرمهم من الصهيونية التي تحولت إلى عبء عليهم لأنها تفرض عليهم حالة عصاب جماعي على حد تعبير فرويد وتسيء إلى الديانة اليهودية ذاتها لأنها تفرض عليها قراءة مسقطة لخدمة أغراض استعمارية وهذا من أهم مكاسب طوفان الأقصى التي يتعين تطويرها خاصة وأن أوروبا الرأسمالية هي التي ابتكرت المسألة اليهودية لطرد اليهود خارج أوروبا والمحرقة النازية هي أيضا من إفرازات الفكر الأوروبي.

ولاشك أن ما عاشته غزة هو محرقة صهيونية لا تقل بشاعة عن المحرقة النازية ومن المهم أن يقع العمل على تطوير الوعي اليهودي بخطورة الصهيونية على الإنسانية وعلى اليهود واليهودية. وفي هذا الإطار يمكن تنزيل الكيفية التي عاملت بها المقاومة في غزة الأسرى الذين وقعوا تحت أياديها يوم 7 أكتوبر الماضي. 

الدروس .. الدروس

دروس طوفان الأقصى عديدة وما يبدو مؤكدا أن مرحلة ما بعد طوفان الأقصى ستكون مهمة لأن الطوفان أتى على كل الأكاذيب و المغالطات التي تأسست عليها الصهيونية وأقام عليها الكيان الصهيوني بناءا اتضح أن الوهن يعتريه لأن الصهاينة سيحاولون الترويج لأكاذيب أخرى وسيظهرون وجها أكثر دموية ووحشية من أجل التغطية على حالة التخبط التي يعيشونها.

وكما فشلوا في ما يسمونه كي الوعي والانتقال من ادعاء أن جيشهم هو جيش دفاع إلى التصريح أنه جيش هجوم فإنهم سيفشلون في تبخير الهوية الفلسطينية لأن الشعب الفلسطيني أثبت أن ما طبق على ألمانيا واليابان زمن الحرب العالمية الثانية من تدمير أدى إلى الاستسلام لا يمكن أن يطبق عليه وهو الذي يقدم التضحيات جيلا بعد جيل وينتج أجيالا يتطور وعيها ولا يتوارث الأطفال الإحباط والاستسلام بل المزيد من الصمود الإصرار والتميز في شتى المجالات. لقد أصبحت فلسطين وغزة أيقونة إنسانية نابذة للعنف ورافضة للعنصرية ومتطلعة إلى عالم أفضل وهذا في حد ذاته مكسب وأيضا مهمة لأن تعميق الوعي الإنساني بأن فلسطين هي الحل للإنسانية ومفتاح تجاوز كل ما يهدد الإنسانية من حروب وأزمات يحتاج إلى عمل دؤوب وإلى تشبيك كبير على جميع المستويات.

خرجت فلسطين من ” لا سمح الله ” التي تعبر عن العجز الرسمي والشعبي العربي إلى وعي كوني يدرك أن الصمت عن المحرقة الصهيونية هو تشجيع للمروق عن القانون والقيم وتشجيع اللقاطة على القضاء على العراقة. التحالف الصهيو-أطلسي الذي يستهدف منذ قرون التاريخ والآثار والقيم والأخلاق يخوض في فلسطين ، ومنذ عقود ، آخر وأشرس معاركه لأن فلسطين هي الأرض التي تجسد فيها التقاء وتعايش الديانات وهي التي تختزل مسيرة الإنسانية نحو التقدم الحقيقي…

وهذه العراقة هي التي تمنح أبناء و بنات فلسطين قدرة لافتة على الصمود و على التميز في جميع المجالات بما في ذلك مواجهة الجيش الصهيوني بإمكانيات بسيطة وكما قال محمود درويش فإن الفدائي يصنع من الجزمة أفقا. 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP