هشام الحاجي يكتب عن جلسة “مساءلة الحقبة الاستعمارية” وتداعياتها الداخلية والخارجية
هشام الحاجي
لا شك أن التقييمات حول الجلسة الأخيرة التي عاشها مجلس نواب الشعب والتي خصصت للنظر في اللائحة التي قدمها ائتلاف الكرامة والتي تطلب من فرنسا الاعتذار عن سنوات استعمارها لتونس وما حصل خلالها من «مناكفات” ستخلف ندوب لا في عمل المجلس فقط بل في المشهد السياسي العام في البلاد الذي يعاني من الانقسام والتفكك وهو ما رمى بظلاله على الحكومة خصوصا وسط تصاعد الدعوات لتوسيع الائتلاف الحاكم وفرض توازنات سياسية وحزبية جديدة داخله.
جلسة فلكلورية لا تاريخية
قد يرى فيها البعض جلسة ” تاريخية ” في حين سيرى البعض الآخر أنها “جلسة فلكلورية ” و لكن ما هو مؤكد أن هذه الجلسة سيكون بعدها ” تاريخ ” و تداعيات على الخارطة السياسية في تونس و أيضا في علاقة تونس بفرنسا و بغيرها من الدول.
ذلك أن وقائع جلسة “مسائلة الحقبة الاستعمارية” قد وضعت عدة أطراف في ” مفترق طرق ” و فرضت عليها التفكير في ضرورة التوقف عن المراوحة و الدوران حول نفس النقطة. أول هذه الأطراف مجلس نواب الشعب ذاته الذي وجد أعضاؤه أنفسهم في عدة مناسبات على شفا حفرة الوقوع فى المحظور و ذلك بالانزلاق إلى تبادل العنف اللفظي.
و كان لافتا في هذا الصدد أن عددا كبيرا من النواب احتكم لصوت العقل و دق ناقوس الإنذار بالإشارة إلى أن انخراط بعض أعضاء مجلس نواب الشعب و الكتل البرلمانية في البحث عن الإثارة و العنف اللفظي لم تعد مثمرة بل عمقت الهوة بين المواطنين و مجلس نواب الشعب و أن هذه الممارسات تمنح للداعين لحل المجلس مشروعية من داخل المجلس ذاته .
ما ساقه النواب المنتقدون في هذا المجال يعبر عن انطباع قطاعات واسعة من المواطنين الذين لم يعد مجلس نواب الشعب في نسخته الحالية يعبر عن تطلعاتهم و لا عن ” أخلاقهم ” و لا عن “ذوقهم” إذ أصبح المجلس – مع تجنب التعميم لوجود أعضاء متميزين – تجسيدا لما يمكن اعتباره ” الحثالوقراطية ” في نسختها التونسية و قد أبرز ما طغى على مداخلات عدد من النواب و خاصة من جانب كتلة ” الائتلاف و الكرامة ” من جهل بالمعطيات و ترويج مغالطات تاريخية.
هذا المنحى بل أن صياغة “لائحة الإعتذار ” كانت ضعيفة و محكومة برؤية تبسيطية و محرفة لتاريخ تونس و هو ما جعلها تتحول من إدانة للاستعمار إلى “محاكمة شعبوية ” للحركة الوطنية و لرموزها و في مقدمتهم الزعيم و الرئيس الحبيب بورقيبة.
هذا الضعف في المضمون و التعليل هو الذي جعل سيف الدين مخلوف و جماعته ينصتون ” مكرهين ” لدروس في التاريخ و السياسة من عدد من النواب كسالم الأبيض و حسونة الناصفي و مصطفى بن أحمد.
“شغب” في “برلمان الثورة”
و ما ساد جلسة مجلس نواب الشعب في جلسته الأخيرة من ضجيج و ” شغب ” لم يعد يكفي الاختفاء وراء عبارات ” ضريبة الديمقراطية ” و “برلمان الثورة ” للتغطية على أنه يكاد يتحول إلى عبء على الثورة و الديمقراطية بل إلى أداة يمكن أن يستغلها ” أعداء الثورة و الديمقراطية ” لكسب أنصار خاصة و أن البرلمانات الديمقراطية تحترم في اشتغالها نواميس تحمي هيبتها و تبحث عن النجاعة و الجدوى أكثر من البحث عن المناكفات و المناوشات.
من ناحية أخرى كشفت جلسة ” إعتذار فرنسا ” عن عمق الفجوة بين قرطاج و باردو خاصة بعد أن أكدت عدة تسريبات أن رئيس الجمهورية قيس سعيد قد رفض إستقبال رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي الذي أراد أن يعرف رأيه من الموضوع لأن السياسة الخارجية من مشمولات رئيس الجمهورية.
هذا الرفض يمكن أن يجد تفسيرين على الأقل، قد يكون قيس سعيد أراد مزيد إحراج مجلس نواب الشعب انسجاما مع موقفه ” المبدئي ” منه و هو الذي يريد إعادة النظر في أسس التمثيلية البرلمانية فلم يرغب في ” التورط ” و إلقاء حبل النجاة للمجلس و لكتلة ” ائتلاف الكرامة ” تحديدا و هي التي ” هددته ” قبل أيام بالتحرك من أجل عزله.
تصفية حسابات بين قيس والغنوشي
كما يمكن تنزيل صمت رئيس الجمهورية في إطار ما أخذ يتجلى منذ دخوله قصر قرطاج من تخل عن “الشعارات ” التي مهدت له طريق الرئاسة كاعتبار التطبيع مع الكيان الصهيوني ” خيانة عظمى ” و حرصه على أن لا يفسد ما شهدته علاقته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حرارة تجسدت في تلقي دعوة لزيارة باريس علاوة على أن علاقته التي أقل ما يقال عنها أنها فاترة مع راشد الغنوشي جعلته يرفض قبول “كرة الإعتذار الحارقة ” و يتركها بين يدي رئيس مجلس نواب الشعب و بدرجة أقل حركة النهضة التي وجدت نفسها مدعوة للاختيار بين اكراهين.
ذلك أن ” ائتلاف الكرامة ” هو نظريا و عمليا حليفها الثابت في العهدة البرلمانية الحالية علاوة على أن خطاب الائتلاف و مواقفه بما في ذلك مطالبة فرنسا بالاعتذار تعبر عن مواقف و آراء قطاعات هامة من إطارات حركة النهضة و منخرطيها و الذين يعتبرون فرنسا داعمة لقوى ” الثورة المضادة” .
أما الإكراه الثاني فيتمثل في ما تفرضه السياسة من أخذ عدة معطيات بعين الاعتبار و من أهمها التأثير الواضح الذي تمارسه فرنسا على بلادنا في مختلف المجالات و إدراك قيادة حركة النهضة لصعوبة التخلص من هذا التأثير و لحساسية مسألة الإعتذار لدى دوائر القرار و النفوذ و الحكم في فرنسا.
النهضة في “قلب الاحراج”
لا شك أن حركة النهضة قد خرجت من هذا ” الإمتحان ” بأخف الأضرار الممكنة حتى و إن كان ” الإحراج المبدئي ” قد حصل و هو ما جعلها تصدر بعد انتهاء الجلسة بيانا هو أقرب إلى إعلان النوايا و إرضاء الأنصار إذ عبرت عن ” رفضها القطعي لكل أشكال الإستعمار ” و عن ” قلقها من طرح مثل هذه المبادرات الهامة و الحساسة دون تنسيق مسبق بين مؤسسات الدولة و دون تحقيق توافقات وطنية واسعة حول تفاصيل بنودها ” و ” تأكيدها ضرورة التنسيق مع رئيس الجمهورية “.
توضيح النهضة يمكن اعتباره تفسيرا و ” صفعة معنوية ” ثانية توجه لائتلاف الكرامة و دليلا على أن شرخا قد أصاب علاقة الطرفين تماما كما أبرز التصويت على لائحة الإعتذار تعمق الشرخ صلب البرلمان بين مكونات التحالف الحكومي إذ صوت ” التيار الديمقراطي ” و ” حركة الشعب ” عكس ما صوتت “حركة النهضة “.
و هو ما يمثل رسالة طمأنة لالياس الفخفاخ بأن حركة النهضة لا تستطيع الإطاحة به من رئاسة الحكومة لأنها لا تستطيع الحصول على أغلبية داخل البرلمان و هو ما يعني في نهاية الأمر أن ” سقوط مجلس نواب الشعب ” قد يكون أيسر من “إسقاط” الحكومة.
ما يعني أن جلسة طلب “الاعتذار الفرنسي” افقدت ضغوط راشد الغنوشي على إلياس الفخفاخ لاستبدال حركة الشعب بحركة قلب تونس الكثير من أسباب القوة و القدرة على أن تكون مثمرة في القريب العاجل.
Comments