الجديد

هل يعود الباجي؟

المهدي عبد الجواد

غالبا ما تفرض ” الكتابة الاحتفالية ” صعوبات إضافية على من يريد التفاعل مع المناسبات المرتبطة بأحداث وطنية أو دولية أو بشخصيات تركت بصمتها في مجال اشتغالها. و لا شك أن الصعوبة تزداد حين يتعلق الأمر بشخصية في حجم و حضور و إسهام المرحوم الباجي قايد السبسي الذي نتأهب لاحياء مرور سنة على وفاته، يوم السبت 25 جويلية الجاري، وبهذه المناسبة نخصص في موقع “التونسيون”، ملف حول الرئيس الراحل والزعيم الوطني، والرجل الذي ارتبط اسمه عضويا بمسار الانتقال الديمقراطي، الذي انطلق بعد ثورة 14 جانفي 2011، وننشر في ما يلي مقال للناشط السياسي والقيادي السابق في “نداء تونس” مهدي عبد الجواد.

تحلّ هذه الأيام الذكرى الأولى لرحيل الباجي قائد السبسي، أول رئيس منتخب بعد الثورة للبلاد التونسية. الباجي قائد السبسي الرجل “المخزني” الذي جاء “من علبة أرشيف” دولة الاستقلال البورقيبية، كان أهم شخصية سياسية في مسار الانتقال الديمقراطي، وهو الذي كان يُردّد أن “الثورة..شاهدتها في بيتي..لم أشارك فيها”. فقد “هدّأ” من اندفاعاتها و دفعها نحو “التمأسُس” سنة2011، و عالج اختلال موازينها في 2013، وأعادها الى طريق التحديث سنة 2014. لقد أنجز الباجي ما عجزت على تصوّره النّخب التونسية المُختلفة، التوفيق بين مطالب الثورة ونواميس الدولة من جهة، والتوافق بين المكونات الحزبية المتجذّر صراعاها والعميق اختلافها.

  • الثورة والدولة

عشية حكومة محمد الغنوشي الثانية، كانت الاندفاعة الثورية في أقصاها. آلاف الشباب والعاطلين عن العمل والعملة والموطفين والطلبة “من كل فجّ عميق” يحتشدون في ساحة القصبة مركز السلطة “المخزنية” معطلين أعمالها، يُناصرهم في ذلك نُظراؤهم في أرياف تونس العميقة والمنسية، ويدعمهم اتحاد الشغل وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان وأحزاب “تُخفي” وجوهها الى حين. مجلس تأسيسي وحل البرلمان كل الهيئات المنبثقة عنه وحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي كانت شعارات يرفعُها الآلاف دون ان يفهم أغلبهم مضمونها وجدواها ولا تبعاتها.

في تلك اللحظة نجم من بين الجموع “شيخ” ثمانيني ليقول لقد قبلت كل ذلك، أنا رئيس الوزراء الجديد الذي سيُنفذ ذلك. مرّ الخطاب سحريا سريعا، و لملم الجميع أدباشهم وانصرفوا. لقد أدرك الباجي بحدسه المُرهف وذكائه الوقّاد وتجربته السياسية العميقة، أن الساعة هي ساعة التغيير العميق، وانه من العبث “المكابرة” والعناد أمامها، وان المطلوب كان مسايرتها ومحاولة تعديلها لضمان حسن تطورها. وذلك ما حصل تماما.

إذ بعد حصص تعارف متعددة، خاطب فيها الباجي التونسيين بأسلوبه “التونسي الساحر” في مزج بين الشعر والأمثال السائرة وآيات القرآن والوقائع والنكات والضحك والصرامة و”الشتيمة” أحيانا، ربط الباجي بينه وبين التونسيين خيطا رفيعا من الثقة. وانطلقت في هدوء نسبي المرحلة الأولى للتأسيس، مراسيم مختلفة بنت الأرضية التي مازالت العملية السياسية كلها قائمة عليها وكان ذلك جوهر التوافق بين الثورة والدولة. أي إدراج المسار الثوري داخل المنظومة القانونية والدستورية للبلاد التونسية، وخاصة إدراج الثورة ضمن سياق تاريخ تونس الإصلاحي. هذه العملية هي من منظور، “العقل الثوري اليساري” التفاف على الثورة وتحويل لوجهتها وهي “حيلة الثورة المضادة” لإيقاف تقدم الثوار نحو السلطة، ولكنها بمنطق الدولة مسألة ضرورية لإنقاذ “الشقف” وضمان تواصل أركان الدولة “أهم مُنجز تونسي على الاطلاق”.

ولكن إنقاذ الدولة كان عند الباجي مسألة أولوية مطلقة، أدركها بعقله وان كانت التنازلات التي قدمها في سبيل ذلك متعارضة مع “وجدانه/قناعاته”. فحلّ التجمع الدستوري الديمقراطي وريث الحزب الاشتراكي الدستوري لم يكن مسألة هيّنة عند الباجي. وهذه المسألة يُمكن ان تُلخّص لنا طبيعة “العقل السياسي العملي” عند الباجي. فليست السياسة مُعاندة ومكابرة بل نتائج. والنتيجة التي يعيشها التونسيون اليوم ان قرار “حلّ التجمع” لا معنى له واقعيا، بل هو مجرّد قرار قضائي، يكاد يُجمع أكثر الناس على “عبثيته”.

ذات مارس سنة2013، سنتين بعد قرار الحل، سيقول الباجي عاليا في قصر هلال “الدساترة ملاكة” ويُعيد إلى جدول النقاش مسألة الإقصاء، نجح في مراجعتها وإبطالها مثلما نجح في الدفع بعشرات “التجمعيين” للعودة للنشاط السياسي في مرحلة أولى ثم للمشاركة في السلطة في مرحلة ثانية.

  • التوافق، فلسفة الباجي

بمثل ما نجح الباجي في “التوافق بين الثورة والدولة” قد نجح في “ترويض” حركة النهضة، الحزب الإسلامي الوافد من “الاحتجاج” ومعاداة الدولة الوطنية. لقد كان لقاء باريس صيف 2013، لقاء تاريخيا لتونس، إذ حقق فيه الباجي النصف الأول من كل الأهداف التي رسمها في رسالته الشهيرة يوم 26 جانفي 2012، والتي عُرفت بــ”مبادرة الباجي”. تحديد موعد للانتخابات وانتخاب هيئة مستقلة للانتخابات وحكومة كفاءات مستقلة تُراجع “بعض” التعيينات حتى تُشرف بشكل نزيه على الانتخابات والمصادقة على دستور يضمن مدنية الدولة والحقوق والحريات ويُكرّس المكتسبات العصرية لتونس ونسائها وشعبها.

تحقّق كل ذلك، و ازداد الخيرُ بفوز الباجي بالانتخابات الرئاسية وحزب النداء بالتشريعية، لتعود “الأمانة الى أهلها” مثلما قال الباجي ساعتها. وعكس كل المطالبات والتخمينات ذهب الباجي في سياسة “التوافق”. وتمسّك بها سبيلا وحيدا لضمان تقدم التجربة الديمقراطية في تونس، رغم انشطار الحزب وضعف الكتلة والهجوم الإعلامي والاتهام بالخيانة ورغم الإغراءات الخارجية والضغوط الإقليمية والدولية.

لقد قدّم الباجي المصلحة العليا للدولة على “مصالحه الذاتية” وعلى مصلحة حزبه و غامر بكلّ شيء، وفرّط في جزء من سلطته حتى يضمن استقرار البلاد واستقرار مؤسسات الدولة. وقد نختلف في تقييم هذه الاختيارات وقد يكون نقدنا للباجي قاسيا ومُبرّرا ولكن “العبرة بالنتائج”، وما تعيشه تونس اليوم من انقسام وتجاذب وتعطيل تام لعمل المؤسسات دليل على ان اختيار “التوافق “كان هو الاختيار الأسلم.

  • عودة الباجي

سنة مرّت على رحيل الباجي. حصلت فيها أمور كثيرة. انتهت الخصومات في حزبه القديم بين أبنائه السياسيين والبيولوجيين بنهاية الجميع، وقريبا سيطال أغلبهم النسيان. لقد فشل “الأبناء” في حفظ أهم منجزات الباجي “ثقافة التوافق” وتقاتلوا عشية الانتخابات وفي الانتخابات حتى خسروا جميعا. وحل محلهم من يُناصبُ الباجي و”فلسفته” العداء. مجلس نيابي مُمزق مللا وشيعا ونحلا لا رابط بينها غير “حكمة الاهية” لا نُدرك كُنهها. صراع يومي وتكفير وسباب وعراك وكلام سوقي وشتائم وهتك للأعراض وتهديد بالعنف، و “خشّ الجميع الخلاء” دون صوت للعقلاء.

تعطّلت أشغال المجلس التشريعي، مع حكومة ساقطة ورئيس يُهدد بالقصف وقد “اعد منصة الصواريخ”.

حالة من الوهن تعيشها المؤسسات و تعطّل لسير المرافق العامة ودواليب الدولة وسط فضائح كبيرة للفساد وتضارب المصالح وأزمة اقتصادية ومالية تاريخية واحتقان اجتماعي وتوقف كل للإنتاج الطاقي بقفصة وتطاوين وقابس. وسط هذا الخضم من البؤس، المُنذر بــ “تسونامي اجتماعي” مثلما حذّر النائب المهدي بنغربية، يجد بعض السياسيين الهواة متسعا من الوقت لمزيد الضغط على الجرح، جرح التباغض و الكراهية والحقد والاستثمار في المآسي. تزداد تونس غرقا ويزدادون عُراكا. يزداد الوضع تعفّنا ويزدادون تباعُدا.

باتت عودة الباجي قائد السبسي اليوم ضرورية، من أجل فسحة من الهدوء، ومساحة من التعقّل والتفكير برأس بارد في حال البلاد والعباد. ويتم ذلك بإعادة الروح لــ”فلسفة التوافق” بين كل الخصوم باستثناء التطرّف الذي لا يؤمن بالدولة مثل الذي لا يؤمن بالدمقراطية، يجب ان نرمي بعيدا الحدّية وثقافة المعاندة والمغالبة لنبني معا ثقافة قائمة على “الهوامش المشتركة” حتى وان كانت ضيقة، فالتعايش والتجربة كفيلان بتوسيع المشتركات.

انقسام حاد يشق “النّخب” التونسية، دون ان يكون ثمة مرجعية وتصورات مشتركة تقود المرحلة من جهة وتُحدد الأهداف من جهة ثانية. ومع ثقافة المُغالبة والرغبات المُلحّة في الإقصاء فإن الحادة إلى الباجي تُصبح ملحّة. إذ تتعالى الكثير من الأصوات التي تدعو لتشكيل اغلبية برلمانية تشارك في حكومة دون النهضة، ورغم ان الأمر سياسيا مشروع و -افتراضيا- ممكن فانه عمليا يبقى مجرد هلوسات داخلة في باب الأمنيات لدى بعض ممن لم يرتق بعد للاقتناع التام بكون هذي البلاد لن تعود مطلقا للاستبداد ولن يتم فيها إقصاء أي كان، لفا إمكانية ولا وجاهة لتشكيل حكومة دون النهضة، وإقصاء النهضة تماما مثل إقصاء قلب تونس في حكومة الفخفاخ أمر لا يتناسب مع الديمقراطية، فهو اقرب للانقلاب على نتائج الانتخابات و يزيد في دفع المواطنين لاحتقار العملية السياسية برمته، كما أنه لا يمكن من جهة “العقل العملية” و النظرة النفعية إقصاء النهضة من المشاركة في الحكم وتركها في المعارضة فان تكون متحملة لجزء من المسؤولية خير من ان تكون على الحكومة بثقلها السياسي والاجتماعي.

وبمثل ما يتوجب على “خصوم النهضة” إدراك لا جدوى “الإقصاء، فان على النهضة ان تدرك انه لا يمكنها الهيمنة على الدولة وعلى مؤسساتها وعلى المجتمع ونخبه، لقد انتهى زمن الحزب الواحد الحاكم بأمره، ودخل الجميع لحظة التشارك في السلطة والقرار والمسؤولية ومازالت المشاركة في الثروة والتنمية

إن اللحظة صعبة و تتطلب جهود الجميع ضمن مشروع مشترك، تساهم فيه كل قوى تونس ولا معنى اليوم لإقصاء أي كان خاصة إذا كان حزبا قانونيا فائزا بالمرتبة الأولى في الانتخابات، أو حزبا مؤمنا بالدولة التونسية وبدستورها ومؤمنا بضرورة ترسيخ تجربتها الديمقراطية وتطويرها.

تونس تعيش منذ عشر سنوات، لحظات متوترة، بطء وتعثر في مسار سياسي، يعرف استقرارا ولكنه مهدد في كل لحظة، نتيجة المغالبة وبطء المراجعات والخوف من المصالحة وقلة الثقة في الآخرين لدى الفاعلين السياسيين وخاصة لدى النّخب وصُنّاع الرأي، ندفع جميعا نتائج سوء التفكير وسوء التدبير وغياب العقل السياسي العملي والاكتفاء بعقل سياسي نظري، هذا إذا كان ثمة عقل أصلا.

لقد عمل الباجي مع التوافق على تكريس مبدأ المصالحة مع كفاءات الإدارة التونسية، ولكن ما نعيشه اليوم من نكوص على ذلك أمر خطير، فمعارضة المصالحة تضمن تواصل حكم الهواة، ونتحمل نخبا وناشطين سياسيين ايضا جزءا مما تعيشه بلادنا بدرجات متفاوته، اقلها أننا كنا جبناء أمام الرداءة والفساد و صامتين على تقدم السيئين التافهين والهواة لتسيير شؤوننا وقيادتنا، ومتساهلين مع التطرّف وخطاباته الخطيرة.

ليس سهلا ان تغادر مربع الايدولوجيا وعوالم الأحقاد والكراهية، وليس سهلا ان تقبل المختلف وانت الذي تربيت في بيئة لا تؤمن به، بيئة الاستبداد والرأي الواحد والحزب الواحد والزعيم الأوحد. ليس متاحا للجميع اقتسام السلطة مع الخصوم، ولكن الديمقراطية باعتبارها مشروعا وفعلا إنسانيا هي مسار وسيرورة هدفها اسعاد الناس وتسهيل حياتهم وضمان امنهم واستقرارهم ومعيشهم، نمضي إليها حتما وان كان الطريق متعرجا……

كان الباجي مُدركا ان الايديولوجيا والاستثمار في العاداوات لا يُفيدان الناس في شيئ لذلك كان عمليا، واضحا ومباشرا. انجز ما كان مُمكنا له في عمره، حمى الدولة وحمى الثورة وضمن تكريس الانتخابات وأسس للتوازن ووضع ملامح الخلاص الكامن في التوافق بين مختلف التيارات والاحزاب في تونس. هذه هي المعادلة التي يجب الاشتغال عليها…..وهي في اعتقادي أفضل المعادلات لتونس اليوم، لانها وصية الباجي الله يرحمه.

 

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP