الجديد

هل يعيد حراك نداء تونس الزخم لتوحيد الجبهة الدستورية

مختار الدبابي*

العودة إلى “نداء تونس” التاريخي شعار يحرك سواكن القوى المختلفة التي شكلت هوية الحزب في فترة صعوده 2013/2014، لكنها لا تعني شيئا ما لم تضع الهيئة الوقتية التي يرأسها وزير الخارجية التونسي السابق خميس الجهيناوي رؤية تحدد هوية الحزب وعلاقاته داخل الفضاء الدستوري، فضلا عن تحديد واضح للعلاقة مع حركة النهضة يجيب عن تساؤلات كثيرة حول الذين انسحبوا من الحزب.. فهل تنجح الهيئة في تقديم وثيقة استراتيجية إلى المؤتمر القادم للحزب تحدد فيها هوية “النداء” الجديد أم يستمر الغموض.

أعادت مبادرة إحياء حزب “نداء تونس”، بصورته الأولى القائمة على التجميع الواسع لمختلف الروافد، الحيوية إلى مشهد سياسي بات محكوما بفايروس كورونا، وتحوّل الصراع فيه من صراع أيديولوجي محكوم بالتصعيد إلى مجرد تسجيل مواقف بشأن التعاطي مع كورونا خاصة بين الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ).

ومن شأن تأجيل مؤتمر “نداء تونس” وإعلان هيئة سياسية تضم شخصيات ذات مصداقية ومقبولية لدى جمهور النداء التاريخي أن يعيد الزخم إلى مبادرات سابقة سعت إلى توحيد النداء قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية أواخر العام الماضي، والتي خرج فيها النداء أكبر الخاسرين قياسا بمكاسبه في انتخابات 2014 التي مكنت رئيسه المؤسس الراحل الباجي قائد السبسي من رئاسة تونس، والحزب من تصدر الانتخابات وقيادة الحكومة.

كان النداء قد تفتت إلى مجموعات كثيرة بينها “مشروع تونس” بقيادة محسن مرزوق، وكان الرجل الثاني في الحزب بعد الرئيس الراحل قائد السبسي، و”تحيا تونس” الذي يرأسه رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، و”قلب تونس” الذي يرأسه نبيل القروي إحدى القيادات المؤسسة للنداء. والنداء نفسه استقر في آخر الأمر إلى مجموعتين كل واحدة تحتكر الحديث باسمه.

أزمات مشتركة

لكن المثير أن أغلب هذه المجموعات تطالب بتوحيد “الصف الوسطي” أو “الدستوري”، أو “الحداثي”، في تأكيد واضح على أن الخروج من النداء لم يكن بهدف بناء النموذج الفكري والسياسي، ولكنه هروب من أوضاع سيئة كان الحزب يعاني منها، على رأسها معارضة خيار التوريث ومحاولة فرض حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس الراحل، على رأس الحزب وتأهيله في مرحلة لاحقة للعب دور قيادي على مستوى الدولة، وخاصة لخلافة والده الراحل في رئاسة تونس.

حملت تلك المجموعات مقومات التشظي التي كان عليها نداء تونس، فحزب “قلب تونس” يعيش وضعا صعبا أفضى إلى انشقاق 11 نائبا برلمانيا من الكتلة ومن الحزب. وعزوا هذه الخطوة في جانب منها إلى انفراد نبيل القروي بالقرار، فضلا عن خيبة أمل من فشل الحزب في تأمين موقع مؤثر في الحكومة، وهو أمر كان سيحصل عليه في حكومة الحبيب الجملي، وهي حكومة النهضة التي كانت في حاجة إلى دعم كتلة قلب تونس في البرلمان مقابل تقديم مكاسب وامتيازات للحزب الناشئ، والذي خطف الأضواء في الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

وفي “مشروع تونس”، ظهرت بوادر أزمة قوية بين الرجل الأول محسن مرزوق، والقيادي الفاعل حسونة الناصفي الذي خرق قرار الحزب بتصويته لحكومة إلياس الفخفاخ. وعزا الناصفي هذه الخطوة إلى رغبته في القطع مع أسلوب المقاطعة والانسحاب من مجالات التأثير تحت عنوان مقاطعة المجالات المشتركة مع حركة النهضة.

ودافع الناصفي عن قرار المشاركة في الحكومة لأنه كان يهدّد استمرار كتلة الإصلاح الوطني التي يرأسها، وتضم مستقلين وعناصر من كتلة صغيرة نجحت في الصعود إلى البرلمان، وكانت تريد دعم الحكومة، معتبرا أن أداء الكتلة نواة لإعادة توحيد القوى الوسطية القادرة، وفق تقديره، على أن تكون الفاعل الرئيسي في البرلمان وفي المشهد السياسي.

ولا يبتعد “تحيا تونس” كثيرا عن هذا الحراك وسط تسريبات عن غضب داخلي بسبب اقتصار الحزب في تعيين المحيطين برئيسه يوسف الشاهد للوظائف الحكومية، خاصة في حزب نجح في استقطاب أعداد كبيرة من قيادات الدولة بمستويات متعددة، لكنه اكتفى بدور ثانوي في حكومة الفخفاخ لم يكن ليتماشى مع حجمه السياسي كحزب ولد في الحكم وقادر على إنقاذ البلاد لمعرفته بتفاصيل الوضع الاقتصادي، فضلا عن علاقة متميزة مع الشركاء الاقتصاديين الدوليين والصناديق المالية الدولية. ويجري الحديث عن انشقاق وارد لحزب “المبادرة” من “تحيا تونس”، وربما يكون الحزب أول العائدين إلى نداء تونس في سياق الهجرة العكسية إلى الحزب الأم. وهكذا، فإن هذه المجموعات تعيش نفس أمراض نداء تونس بالرغم من خروجها عنه، والسبب المحوري هو قيادة الفرد وغياب المؤسسات.

يقول متابعون لحراك “نداء تونس” إن الخطوة الأولى لإنجاح مبادرة المصالحة وإعادة التوحيد هو تحديد موقع حافظ قائد السبسي من المبادرة، هل هو من يقف وراءها، وهل لديه استعداد للبقاء خارج الحزب، أم هو متمسك بالحفاظ على موقع متقدم فيه. وستكون الإجابة على هذه الأسئلة محددة في مسار المبادرة خاصة أن قيادات كثيرة انشقت عن الحزب بسبب نفوذ المدير التنفيذي السابق على الحزب الذي كان يتهم بأنه ينظر إليه كحزب عائلي وأن قيادته له هي أمر طبيعي، فضلا عن اتهامه بتعطيل محاولات توحيد سابقة و”انقلاب” على فرص تسوية زادت في توسيع الشق داخل الحزب بين شقيْ المنستير والحمامات.

وفي 24 يناير الماضي، أعلن حافظ قائد السبسي عن تفويض لتشكيل هيئة عليا لإعداد وعقد المؤتمر الاستثنائي التوحيدي للحزب.

ونشر المدير التنفيذي تدوينة على فيسبوك أفاد فيها بأن الدعوة لعقد مؤتمر استثنائي وتوحيدي للحركة “تمت بعد التشاور مع قيادات وهياكل الحركة، وبعد الاطلاع على قانونها الأساسي ونظامها الداخلي”، مضيفا أن المؤتمر “سيكون على قاعدة التجميع واستخلاص العبر من أخطاء الماضي وتصحيح المسار، انتصارا للمشروع الوطني الحداثي”.

ويأمل المتابعون أن يكون التفويض الصادر عن قائد السبسي لفائدة الهيئة الوقتية ناجما عن مراجعة لأخطاء الحزب تحت قيادته في العلاقة بخيار المصالحة والتوحيد، وليس فقط محاولة رد الاعتبار والظهور

بمظهر القادر على التحرك من جديد بالرغم من وجوده خارج البلاد هربا من إجراءات قضائية كان يخاف أن تطوله في ذروة خلافه مع الشاهد.

كما أن تنقية الأجواء الداخلية، لا تتطلب فقط انسحاب حافظ قائد السبسي من دائرة القيادة، بل، أيضا وأساسا تنقية الأجواء مع قيادات كانت له معها خلافات قوية وعلى رأس هؤلاء الشاهد، وهي خلافات بأبعاد شخصية وليست سياسية لكون الرجلين صعدا من محيط الرئيس الراحل قائد السبسي، وكانا متحالفين في مرحلة الانشقاقات الأولى في النداء، لكن الصراع على القرار حوّل الصداقة إلى عداوة شديدة.

وتقول أوساط مقربة من نداء تونس إن تنقية الأجواء لا تكتمل دون فصل الممولين عن القرار داخل المؤسسات القيادية، مشيرة إلى أنه في ظل غياب الأفكار والبرامج كان من السهل على أيّ رجل أعمال أن يصعد إلى واجهة القيادة بسهولة مثلما حصل مع شفيق جراية وسليم الرياحي، وأن أي صعود لا بد أن يكون ضمن تقاليد الأحزاب وآلياتها الديمقراطية.

المؤتمر وأسئلة الهوية

سيكون على الهيئة السياسية الجديدة برئاسة خميس الجهيناوي، وزير الخارجية السابق، وبمشاركة فعالة من رضا بلحاج، الإمساك بأسرار نداء تونس في مختلف مراحله، وأن تحسم من البداية مسألة بناء المؤسسات عبر خلق مناخ من الثقة مع مختلف المجموعات المنشقة والشخصيات المستقلة الوازنة فضلا عن جمهور الحزب بأن المؤتمر سيكون مفتوحا أمام الجميع من خلال إشراكهم في الإعداد وتمكين الجميع من الانخراطات ليتم تصعيد الأعضاء من المستويات الدنيا والوسطى بحرية كاملة ويكون ممثلا لمختلف التوازنات والروافد كل حسب حجمه.

لكن الأهم في المؤتمر أن يكون لتوجهاته واللوائح التي سيخرج بها دور مهم في إنجاح خيار المصالحة بين مكونات النداء، وخاصة التأسيس للانفتاح على المكون الدستوري، وهو مكون وازن في البرلمان، كما هو جزء رئيسي من هوية الكتلة الوسطية داخل المجتمع، والتقارب معه قد يفضي إلى تغييرات كبيرة في المشهد السياسي لفائدة القوى التي تتبنى هوية الدولة الوطنية، فضلا عن قدرته على أن يكون جبهة صدّ قوية في مواجهة انفراد حركة النهضة بالمشهد وظهورها محليا وخارجيا بمظهر القوة السياسية الوحيدة التي يمكن الحوار معها.

هل يمكن أن يطلق المؤتمر مبادرة حوار مع الدساترة بهدف التوحيد، أو على الأقل من أجل تحالف استراتيجي داخل البرلمان والمجالس الجهوية والمحلية، التي نجحت حركة النهضة في أن تكون اللاعب المحوري فيها لخلوّ المشهد من جهة وازنة.

هذا السؤال يقود آليا إلى تعديل موقف مكونات “نداء تونس” التاريخي من عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، والتقارب معها بدل التحالف مع خصومها مثلما يظهر في البرلمان ولجانه، وهل يمكن أن يقطع الطرفان خطوات إلى الأمام يتنازل كل من جهته بحثا عن أرضية اتفاق سياسي تستند إلى قاعدة تجميعية أوسع بما في ذلك شق من الدساترة الذين تعمل حركة النهضة على استقطابهم وتحويلهم إلى ورقة لعزل عبير موسي في سياق سياسة فرّق تسد التي نجحت بها إلى حد كبير في ضمان مشهد مفتت خادم لها سواء بين مكونات الدساترة أو بقية المشهد بألوانه اليسارية والقومية.

لكن الأهم في خيار الحوار مع عبير موسي وبقية الدساترة وعلى رأسهم الأمين العام السابق للحزب الحاكم في عهد بن علي، محمد الغرياني، هو القطع مع استراتيجية الاحتواء والتذويب والبحث عن أرضية سياسية مشتركة تحدد العلاقة مع بقية المكونات مثل الروافد النقابية واليسارية والكفاءات المستقلة التي نجح الباجي قائدالسبسي في استيعابهم لبناء “نداء تونس” ولكن دون أرضية مشتركة سوى تكوين جبهة صدّ ضد حركة النهضة ومشروع الإسلام السياسي، وهو خيار فكري وسياسي لا يمكن أن يضمن وحدة أي حزب ما لم يتم تأسيس بناء ديمقراطي داخلي ورؤية مشتركة في الحكم.

العلاقة بالإسلاميين

نجح قائد السبسي الأب، رحمه الله، في بناء نداء تونس على قاعدة إنقاذ تونس من تغوّل حركة النهضة وخطر تمددها داخل مؤسسات الدولة، ونجحت هذه الصرخة في جمع روافد كثيرة حوله بعضها كان على خلاف تاريخي مع الدساترة خلال فترتيْ حكم بورقيبة وبن علي، وهو ما يعني أن بناء أي استراتيجية تجميعية لنداء تونس الموسم الثاني، نداء 2020، يجب أن تناقش العلاقة مع الإسلاميين، وبالذات حركة النهضة، وتضع حدودا بين الاستراتيجي والتكتيكي في التحالف مع النهضة، وهي “الخطيئة” التي سقط فيها أغلب الذين انشقوا من “النداء” احتجاجا على سياسة التوافق مع النهضة التي اعتمدها الرئيس المؤسس للحزب.

وإذا كان المنشقون قد وظفوا ورقة رفض التحالف مع النهضة للانشقاق على الحزب الأم، لتبرير خيار الانسحاب، فإن الورقة الأهم في تحديد الفاصل بين التكتيكي والاستراتجي في العلاقة مع الإسلام السياسي هو الجمهور الانتخابي الذي صوت لنداء تونس في 2014 ومكنه من تبوّؤ المشهد السياسي وقيادة مؤسسات الرئاسة والحكومة ولعب دور محوري في البرلمان، وهذا الجمهور الذي سحب ثقته من النداء و”مشتقاته” في مراحل لاحقة يتبنى خيار معارضة الإسلاميين ومشروعهم الاجتماعي جذريا، وينتصر للقطيعة معهم داخل مؤسسات الدولة، وهو ما عكسته مواقف قيادات فكرية ندائية بعد إعلان انسحابها، فضلا عن عرائض وشعارات خلال التحركات الاحتجاجية ضد العمليات الإرهابية التي شهدتها تونس منذ 2012 وبلغت ذروتها في 2013 واستمرت مع “توافق” النداء وحركة النهضة في الحكم.

والسؤال هنا: كيف تنظر الهيئة السياسية الوقتية إلى هذا الموضوع المفصلي في هوية الحزب، هل تحمل رؤية لتحديد العلاقة مع النهضة تفصل بين التحالف الاضطراري الذي يفرضه الوجود المشترك في مؤسسات الدولة (البرلمان، والحكومة، والمجالس المختلفة جهويا ومحليا) وبين القطيعة كخيار استراتيجي، وما حدود البراغماتية في العلاقة مع الإسلام السياسي، وأي أولوية للحزب؛ الاستمرار في بناء جسور الثقة مع النهضة أم ترميم العلاقة مع الروافد التاريخية للنداء وخاصة النقابيين واليساريين والشخصيات الفكرية والسياسية المستقلة ذات التوجه المدني العلماني، وتضم طيفا مؤثرا من المثقفين والفنانين والإعلاميين ومراكز النفوذ في الإدارة والمجتمع المدني؟

لا شك أن الذهاب إلى المؤتمر بوثيقة استراتيجية تجيب عن سؤال الهوية وتضع الحدود الفاصلة بين التكتيكي والاستراتيجي سيمكن الحزب من تحديد مستقبله ونوعية جمهوره مع القطع مع العقلية التجميعية التي تنجح مرة في خدمة الحزب وتمكينه من صعود كبير للسلطة، لكنها تنفجر بوجهه في أي لحظة ويصعب عليه ترميمها واستعادتها دون هوية واضحة.

 

  • نشر المقال، جريدة العرب الدولية، الرابط الأصلي:
  • https://alarab-co-uk.cdn.ampproject.org/c/s/alarab.co.uk/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D9%86%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%AE%D9%85-%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9?amp&fbclid=IwAR0FD3QLCqddMcw_VEcO5cPZ4Js3-XzSFKp7PN3wLw-JtTQ-Vnyojnjyi24

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP