هل ينجح قيس سعيد في ترتيب مناخ تشكيل الحكومة؟
شعبان العبيدي
كانت كلّ المؤشّرات الانتخابية التّشريعية ثمّ الرّئاسية توحي بصعوبة المرحلة النّيابية الجديدة، وكذلك بصعوبة وصول الكتل النيابية الهشّة بسبب تشتتها وصراعاتها وحساباتها إلى الاتّفاق حول تشكيل حكومة وطنية قادرة على مواجهة الواقع المأزوم أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وحتّى ديبلوماسيا.
وتأكّدت هذه المخاوف في مرحلتين: أولهما إضاعة كثير من الوقت بعد الانتخابات التشريعية والرّئاسيّة دون مبادرة الأحزاب المتحصّلة على تمثيلية أكبر للدّخول في مفاوضات تعمل على تحديد برنامج عمل حكومي ومخطّط إصلاحي وتنموي متكامل باستشارة الخبراء الاقتصاديين.
وثانيهما عودة مجموعة من الأحزاب والجماعات القبيلية اٌلإيديولوجية والإعلامية إلى مربّع الصّراع واللاّءات القديمة وهي رفض المشاركة في حكومة تتزعّمها النّهضة بل ربّما الدّعوة إلى إزاحتها من التّواجد في حكومة جديدة وذلك بتحميلها أسباب فشل الحكومات المتعاقبة.
وإن كانت هذه التّحاليل تستند على قراءة فشل هذه الحكومات في محاربة الفساد وحلّ القضايا الاجتماعية التي تفاقمت و العجز الاقتصادي والمالي والتضّخم خاصّة مع حكومة الشّاهد، و إن كانت حركة النّهضة تتحمّل مسؤولية في وقوفها مع الشّاهد وسياساته و تنكّرها وانقلابها على المرحوم الباجي قائد السبسي ومحاولة عزله في القصر، فإنّ هذه الأحزاب الّتي كانت تشكّل كتلة المعارضة تتحمّل هي كذلك جانبا من هذا الوضع المتردّي الذي وصلته الدّولة ومؤسساتها لأنّها حشرت نفسها في تكرار خطاب انتقادي سياسويّ متشنج، لا محاولة تقديم حلول أو الضغط المباشر من أجل تمرير مشاريع قوانين بقيت عالقة و محاسبة حكومة الشّاهد.
لا شكّ أنّ مرحلة تشكيل الحكومة، والّتي تفرّدت فيها النّهضة بتقديم مرشّح لها هو الحبيب الجملي، ودعوته إلى تشكيل حكومة، أثار حفيظة حركة الشعب والتّيار الذين كانا رافضين لرئيس حكومة من النهضة أو من تكليفها، وكانت قد بدأت تطرح فكرة حكومة الرّئيس، فكرة تعطي صلاحيات لرئيس الجمهورية حسب الدّستور أو حسب قراءة له في تكليف شخصية لرئاسة الحكومة ودعوتها إلى تقديم فريق حكومي.
ونظرا لهذا التباين الشديد، وانعدام الثقة إضافة إلى تعمّق الخلاف بسبب الاتّهامات المتبادلة وثقل الخطاب الأيديولوجي الذي مازال يسكن أذهان هذه الأطراف ووجدانها، والذي يستعيد فترة بدايات الثمانينات، والطبقة السياسية مازالت غير واعية بتغيّر طبيعة الصّراع والجدال اليوم في ظل التّحوّلات العالمية والأزمات الدّولية، وهي تجرّ إرثا خلافيا تأجّل حسمه طيلة مرحلة الاستبداد، وكأنّها أفاقت مع الثورة في مرحلة غير مرحلتها. وطبيعيّ أن يجعل هذا الصّراع أولوياته في خدمة الأفكار بدل من التوجّه نحو إعادة الاعتبار للدّولة ومؤسّساتها والتوجّه نحو مواجهة القضايا الاجتماعية والاقتصادية العالقة.
كان من المنتظر بالنّظر إلى هذه العوائق أن تسقط حكومة الجملي مسبّقا، وكانت ولادتها محكوم عليها بعدم نيل ثقة البرلمان، خاصّة للمنهجية الّتي اتّبعها الرّجل في مشاوراته، وتعنّت حركة النّهضة رغم معرفتها من خلال الأجواء بأنّ مغامرتها غير محمودة العواقب.
وقد تبيّن من خلال المشاورات وتردّد ائتلاف الشعب والتيّار بين القبول ثمّ التّراجع أنّنا لم نجن من هذه المرحلة إلاّ مزيدا من إضاعة الوقت وتعميق الأزمة في ظلّ حكومة متخلّية تقريبا باتت تعمد إلى ممارسات عشوائية.
وكان المشهد البرلماني يوم عرض الحبيب الجملي حكومته لنيل الثقة من عدمها مشهدا مقرفا طفوليا، لم أجد له تعليقا يليق به إلاّ ما عبّر عنه الصّحفي منذر بالضّيافي في تدوينة تبرز حجم الثقل الذي بات يمثّله هذا البرلمان حين قال:
(التونسيون يتابعون مصير حكومة الحبيب الجملي، بعقلية جمهور كرة القدم في ملعب رادس، حيث لاحظنا اليوم في قبة باردو (البرلمان) جمهور فيراج على الميمنة والميسرة وانخرط في هذا “الوعي الكروي”، حتى بعض النخب وبعض الإعلاميين) .
وكان المرور إلى حكومة الرّئيس، الّتي غيّرت من مداخلات رموز الأحزاب السيّاسيّة، إذ عبّرت كلّها على ثقتها في رئيس الجمهورية، وفي حسن اختياره لشخصية وطنية جامعة نسبيا.
لكنّ اتعاض الرجل من المشهد السّابق المتّبع من طرف الحبيب الجملي، جعله يقطع الطريق على الدّخول في حوار مباشر مع الأحزاب، وطلب تقديم اقتراحاتهم بالطريقة الإدارية، و طالعنا ما اقترحته الأحزاب من أسماء، لم تخرج فيها كلّها عن شخصيات متحزّبة وقريبة منها، و هو ما يسقط وهم استقلالية الرّئيس، فالذي ينظر في مرشّحي حركة الشعب و التيّار يدرك بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ التصلّب الحزبي يغلب على المصلحة الوطنية من خلال تقديم أسماء لا علاقة لها بإدارة شؤون الدّولة أو هي أبعد عن تولّي أي منصب فيها.
وتحوّل الخوف لدى الأحزاب من إمكانية أن تكون لدى قيس سعيد رؤية أخرى وشخصية تتماشى مع نظرته في إدارة شؤون البلاد، وتكون في علاقة تنسيق وتكامل بين رأسي السلطة، ولم يخفّف من هذا التخوّف إلاّ مقابلة رئيس الجمهورية للشخصيات الأكثر تداولا في المقترحات.
وهي شخصيات عليها اعتراضات من هذا الشّق أو ذاك. فهل كان اختيار رئيس حكومة وتكليفه بتكوين فريقه محلّ رضى وقبول من جميع الأطراف؟ وهل ينجح الرئيس الجديد في تشكيل حكومة متناغمة تحظى بثقة النّواب والكتل والأحزاب؟ وهل ستكون هذه الحكومة سياسيّة أم حكومة تقنية؟ هل سيعمل الرئيس المكلّف في بناء فريقه بعيدا عن ضغط الأحزاب ومصالحها وهذا أمر مستبعد أم أنّه سيذهب إلى اتّجاه التّرضيات والمحاصصة؟
Comments