وثيقة/ كلمة الرئيس الباجي قايد السبسي في الجلسة الافتتاحية للقمة العربية في دورتها الثلاثين
بسم الله الرّحمان الرّحيم
أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ،
معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية،
أصحاب المعالي والسعادة،
السيدات والسادة،
يُسعدني أن أجدّد الترحيب بكم جميعا على أرض تونس، وهي تنال اليوم شرف مسؤولية ترؤس القمة العربية، التي تظل الإطار الأنسب والرابطة الوثقى التي تجمعنا للتداول في شؤون منطقتنا وقضايانا.
كما أتوجّه بأسمى عبارات الشّكر والتّقدير إلى أخي حضرة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، على رئاسته الـمُوّفقة والحكيمة للقمة العربية في دورتها التاسعة والعشرين، وما قامت به المملكة العربية السعودية الشقيقة من جهود ومبادرات مُقَدّرَة لخدمة القضايا العربية في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ أمّتنا.
والشّكر موصول لمعالي السيد أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية، على جهوده الدّؤوبة لتعزيز دور الجامعة ودفع العمل العربي المشترك.
أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ،
يُمثّل البعد العربي أهم الثوابت الأساسية في سياسة تونس الخارجية، وقد أَوْلَيْنَاهُ مَنْــزِلَةً دستوريّة، وحرصنا على تعزيزه في علاقاتنا وتحركاتنا على مختلف الأصعدة.
وتكريسًا لهذا التوجّه، تَتَولّى تونس رئاسة القمّة العربية، إيمانا منها بما لهذه الأمة من مقوّمات النهوض بأوضاعها، وبما قدمته من إسهامات عظيمة في الحضارة الإنسانية. وهي واثقة بأنّ تحسين أوضاع أمتنا والارتقاء بها إلى المكانة التي هي بها جديرة، يظل ممكنا مهما استعصت الأزمات وتعقّدت الأوضاع.
فالوطن العربي، لا تَعُوزُه آليات العمل المشترك، ولا الموارد البشرية والمادية ولا عناصر الوحدة والتكامل. ومع ذلك، ظلّت منطقتنا رهينة أوضاع دقيقة وقضايا لم تجد بعدُ طريقها نحو التسوية، بل ما فتئت تتفاقم لتُثقل كاهل بُلدانِنَا وتُنْــهِـــكَهَا، وتستنزف مقدّرات شعوبنا سياسيا وأمنيا وإنسانيا وتنمويا.
فمن غير المقبول أن يتواصل الوضع على ما هو عليه، وأن تستمرّ المنطقة العربية في صدارة مؤشرات بؤر التوتر واللاجئين والمآسي الإنسانية والإرهاب وتعطّل التنمية.
كما أنّه من غير المقبول أن تُدار قضايانا العربية، المرتبطة مباشرة بأمننا القومي، خارج أُطُر العمل العربي المشترك، وأن تتحول منطقتنا إلى ساحات للصراعات الدولية والإقليمية.
ولذلك، فإنّه علينا العمل على استعادة زمام المبادرة في معالجة أوضاعنا بأيدينا. وهو ما يستدعي في المقام الأول، تجاوز الخلافات، وتنقية الأجواء العربية، وتمتين أواصر التضامن الفعلي بيننا. فالتحديات والتهديدات التي تواجه منطقتنا، أكبر من أن نتصدّى لها فرادى، فلا خيار لنا غير التآزر وتعزيز الثقة والتعاون بيننا. ومن هذا المنطلق نقترح عليكم أن تنعقد قمتنا هذه تحت عنوان “قمة العزم والتضامن”.
ومن هنا كان لا بدّ لنا من وقفة متأنية وحازمة لتحديد أسباب الوهن ومواطن الخلل في عملنا العربي المشترك، بما يُمكّننا من توحيد رؤانا وبلورة تقييم جماعي للمخاطر والتحديات، وإعادة ترتيب الأولويات على قاعدة الأهمّ قبل المهم.
فتخليص المنطقة من جميع الأزمات وبؤر التوتر وما يتهددها من مخاطر، أضحى حاجة ملحة لا تنتظر التأجيل، كما أنّ تأكيد المكانة المركزية للقضية الفلسطينية في عملنا العربي المشترك، وإعادتها إلى دائرة الضوء على الساحة الدولية، بات ضروريا وفي صدارة أولوياتنا. وهو ما يقتضي منا إبلاغ رسالة واضحة إلى كلّ أطراف المجتمع الدولي، مفادها أنّ تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، بل في العالم بأسره، يمرّ حتما عبر إيجاد تسوية عادلة وشاملة لهذه القضية. تسوية تضمن حقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، وتؤدّي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية ومبدأ حلّ الدولتين.
ولتحقيق هذا الهدف لا بدّ من تكثيف تحرّكاتنا وتنسيقها من أجل وضع حدّ للقرارات والممارسات الرامية إلى المسّ بمرجعيات القضية الفلسطينية الأساسية، والتّصدّي لكلّ ما من شأنه المساس بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولا سيما حقه في تقرير المصير، وبالوضع التاريخي والقانوني لمدينة القدس الشريف.
أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ،
لا يزال الوضع في ليبيا، مَبْعَثَ انشغال عميق لنا، باعتبار أنّ أمن ليبيا من أمن تونس، وأنّ تداعيات تأزم الأوضاع في هذا البلد الشقيق لا تطال فحسب دول الجوار، بل الأمن والاستقرار في عموم المنطقة.
وإيمانا منّا بأنّ الحوار والتوافق يظلّان السبيل الأنجع لتجاوز الخلافات وإنهاء الأزمات، تقدّمنا، بالتنسيق مع الشقيقتين الجزائر ومصر، بمبادرة لمساعدة الأشقاء الليبيين على تحقيق تسوية سياسية شاملة، وفق المسار الذي ترعاه الأمم المتحدة وبما يمكّن من إعادة الأمن والاستقرار إلى كافة ربوع ليبيا، وإنهاء معاناة الشعب الليبي الشقيق.
وإذ نُجدّد دعمنا للمساعي الأممية ولكل الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى المساعدة على إنهاء هذه الأزمة، بعيدا عن صراع المصالح والتدخلات في الشؤون الداخلية لليبيا، فإنّنا على ثقة في قدرة الأطراف الليبية على تجاوز الخلافات وتغليب المصلحة العليا لبلدهم في إطار من التوافق والحوار البنّاء.
وحرصا على توطيد مقوّمات الأمن والاستقرار في كل أجزاء منطقتنا، فإنّنا نرى ضرورة تسريع مسار الحل السياسي للأزمة في سوريا باعتبارها جزءا أصيلا من الوطن العربي، ومساعدة الشعب السوري الشقيق على تجاوز محنته، بما يضع حدًّا لمعاناته ويحقق تطلعاته في العيش في أمن وسلام، ويحافظ على وحدة هذا البلد الشقيق واستقلاله وسيادته.
كما أنّ من شأن تسوية هذه الأزمة، الإسهام في تحصين المنطقة من الاختراقات والثغرات التي تتسلل عبرها التنظيمات الإرهابية.
وإزاء التطورات الأخيرة الرامية إلى تثبيت احتلال الجولان السوري وفرض سيادة إسرائيل الكاملة عليه، فإنّنا نُجدّد التأكيد على أنّ هذه الأرض العربية مُحتلّة باعتراف المجتمع الدولي، ونَدعُو بَدَلَ تكريس سياسة الأمر الواقع ومخالفة قرارات الشرعية الدولية وزيادة منسوب التوتّر في المنطقة، إلى ضرورة تضافر الجهود لإنهاء الاحتلال، تحقيقًا للأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي.
وبخصوص الوضع في اليمن، فإنّنا نُجدّد الدعوة إلى مواصلة الجهود الإقليمية والدولية لإعادة الشرعية في هذا البلد الشقيق، وتهيئة الظروف لمواصلة المفاوضات للتوصّل إلى تسوية سياسية، تنهي الأزمة وتضع حدّا للمعاناة الإنسانية للشعب اليمني، وفقا للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل والقرارات الدولية ذات الصلة، وبعيدا عن التدخلات الخارجية، وبما يحفظ استقلال اليمن ووحدَتَهُ ويُعيدَ له ولمنطقة الخليج العربي الأمن والاستقرار. كما نُرحّب باتفاق ستوكهولم وندعو إلى تنفيذ مختلف بنوده.
أمّا فيما يخصّ العراق، فإنّنا نُجدّد تهنئتنا للأشقاء العراقيين على توفّقهم في دحر التنظيمات الإرهابية، مُقدّرين عاليا التضحيات الجسام التي قدّمها الشعب العراقي الأبيّ في الذود عن سيادة بلاده ومناعتها، وآملين أن تكلّل جهوده بالنجاح في إعادة إعمار المناطق المحرّرة وتعزيز تماسك جبهته الداخلية ووحدته الوطنية.
وإذ ندعم ونُقدّر الجهود الإقليمية والدولية الساعية إلى معالجة مختلف هذه الأزمات، فإنّنا ندعو إلى إعادة تفعيل الآليات العربية للوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها، باعتبارها ضمانات للحيلولة دون إطالة أمد الأزمات وتعثّر مسارات حلّها.
وبقدر ما نُجدّد كذلك تأكيدنا على أهمية توحيد مواقفنا وتحرّكاتنا في المحافل الإقليمية والدولية لخدمة القضايا العربية، فإنّنا نُشدّدُ على مواصلة تعزيز العلاقات العربية مع بقية التجمعات والفضاءات الإقليمية، في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، بما يُساهم بشكل فاعل في توسيع دائرة الدّعم والمساندة لقضايانا على الساحة الدولية.
وفي هذا الإطار فإننا نُشيد بما يتحقق من نتائج إيجابية في مختلف منتديات التعاون العربي مع هذه التجمعات. ولا يفوتنا أن نُثمّن مُخْرجات القمّة العربية الأوروبية الأولى المنعقدة مؤخرا بجمهورية مصر العربية، والتي ساهمت في بلورة إدراك أعمق للتحديات المشتركة، وأسّست لمرحلة جديدة من الحوار والتعاون بين هذين الفضاءين.
أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ،
يظل الإرهاب من أكبر المخاطر التي تُهدّد مقوّمات الأمن والاستقرار والتنمية في بلداننا والعالم. وهو ما يتطلّب منّا جميعًا الـمُضيَّ قُدُما في جهودنا لمحاربة هذه الآفة والقضاء على جذورها ومصادر تمويلها، وذلك ضمن استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار كلّ الأبعاد الأمنية والسياسية والثقافية والتنموية المرتبطة بها.
وإذ نُثمّن الجهود المبذولة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية في محاصرة هذا الظاهرة الخطيرة، وما تحققّ من إنجازات في هذا الاتجاه، فإنّنا نُؤكّد على ضرورة السّعي، بنفس العزم والمثابرة، إلى تحصين مجتمعاتنا، وخاصة الشباب، من تأثيرات تيارات العنف والتطرف، وحمايته من مختلف مظاهر الإقصاء والتهميش، وذلك من خلال دفع التنمية الشاملة والمستدامة، وتجذير قيم المواطنة لديه، وتوثيقِ صِلَتِهِ بِمَوْرُوثِهِ الثّقافي والفكري العربي وتمكينه من الأخذ بناصية العلوم والتكنولوجيات الحديثة.
ولمّا كان كسب رهانات التنمية أحد أهم التحدّيات التي تواجهها دولنا، على اختلاف سياساتها التنموية ومواردها الطبيعية والبشرية، فإنّنا مدعوّون إلى تكثيف الجهود من أجل مزيد دفع علاقات التعاون والتكامل الاقتصادي العربي وتطويرها، فعالمنا اليوم هو، دون شكّ، عالم التكتلات الاقتصادية والإقليمية.
ومن المهم في هذا الإطار، أن نحرص على تنفيذ قرارات القمم التنموية الاقتصادية والاجتماعية وآخرها قمة بيروت، والتوظيف الأمثل للإمكانيات والموارد المتوفرة في بلداننا، واستثمار المزايا التكاملية فيما بينها، بما يُمكنّ من إقامة تكتّل اقتصادي عربي قادر على الاندماج الفاعل في المنظومة الاقتصادية العالمية.
كما سيُسهم ذلك في مزيد دفع مسارات التنمية في بلداننا، وفي توفير فرص العمل للشباب العربي ومزيد انخراطه في مسيرة البناء والتنمية، إلى جانب توسيع مجالات تمكين المرأة ومشاركتها في الشأن العام وإدماجها في النشاط الاقتصادي.
أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ،
إنّ بلوغ هذه الأهداف يبقى مرتبطا بشكل كبير، بتعزيز العمل العربي المشترك وتحقيق مصالحة عربية كم نحن في حاجة إليها، قوامُها الثقة المتبادلة، تركّز على ما يجمعنا وهو كثير، وتتجاوز ما يفرّقنا، وتُحافظ على عُرَى الأخُوّة والتّضامن بيننا، التي تبقى أكبر من كلّ أسباب الخلاف والفرقة، وذلك خدمة للمصالح العليا للأمّة وضمانًا لمستقبل الأجيال القادمة.
وإنّ تونس المعتـزّةُ بانتمائها العربي، لتُجدّد اليوم عزمها الراسخ على مواصلة العمل من أجل الارتقاء بعلاقاتها مع شقيقاتها الدول العربية إلى أرفع مستويات التعاون والشراكة.
وهي تحرص على أن تكون هذه القمّة، بتضافر جهودنا جميعا والتقاء إرادتنا، محطة جديدة على درب تعزيز التضامن بيننا وتفعيل العمل العربي المشترك في مختلف أبعاده.
أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ،
أجدّد الترحيب بكم في بلدكم تونس، وأرجو أن نتوفّق في الخروج بقرارات ونتائج في حجم التحديات الماثلة أمامنا وفي مستوى تطلعات شعوبنا، تُساهم في تحقيق ما نصبو إليه من تضامن وتلاحم، حفاظًا على كيان أمتنا العربية.
ويَحْضُرُني، في هذا المقام، ما ورد في خطاب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة خلال القمة العربية المنعقدة بتونس سنة 1979، حيث قال “نأمل أن يوفّقنا الله إلى توحيد آرائنا وتثبيت خُطانا كي نَبْعَثَ مَجْدَ أوائِلِنا ولا نكون أقلّ جدارة بعروبتنا ممّا كان عليه أسلافنا.”
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
Comments