وزراء في الحكومة .. ضد الحكومة !
المهدي عبد الجواد
دفعت الظروف التي تمر بها البلاد التونسيين الى التجّند لمحاربة فيروس الكورونا، و التخفيف من آثاره السلبية على الحياة الاجتماعية و الاقتصادية. و أسهمت في إعادة شحن عموم التونسيات و التونسيين وراء الحكومة ورئيسها.
و تنامى في البلاد المد التضامني الرسمي و المدني و المؤسساتي. و تم الدفع بمشاكل الاحزاب و تنافسها المحموم بعيدا، و ارتاح التونسيون قليلا من مشاهد الصراع العبثي في جلسات البرلمان، وعادت معاجم التضامن الوطني و الوحدة الوطنية، و التبرع و العمل التطوعي، بل و تنازل البرلمان على بعض سلطاته و فوضها لرئيس الحكومة، حتى يُحسن إدارة الحرب ضد هذا العدو الغامض.
مثلت “الكورونا” فرصة حقيقية للسيد الياس الفخفاخ و حكومته للاستفادة من مرحلة الإمهال من جهة و بالتالي التفرغ ل “إدارة الحرب”، ففي مثل هذه اللحظات التاريخية الكبرى يولدُ الزعماء الكبار، خاصة و قد حظي الظهور الإعلامي الأخير لرئيس الحكومة بتغطية غير مسبوقة، فقد عُرض لقاؤه على خمس قنوات تلفزية و إذاعتين و على الكثير من المواقع الالكترونية كما تم تناقله بشكل ةاسع في نواقع التواصل الاجتماعي.
بعد حصول الحكومة على التفويض اللازم من البرلمان لادارة الحرب، بدأنا نلاحظ – وللأسف – ان الحكومة شرعت في الغرق التدريجي، في حدود فعلها و امكانياتها. إذ تتكاثر المؤشرات لتُعلن ان الفخفاخ و حكومته يتخبطان في ادارة شؤون البلاد، و أن الثقة بدأت تهتزّ، و مرحلة الإمهال بدأت تنفُذ بسرعة.
- وزراء…. يخنقون الحكومة
السيد غازي الشواشي وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية ظهر في مظهر ضد القطاع الخاص سواء بقصد أو دونه، المهم أن الانطباع حصل وتجذر حول الرجل في علاقة بموقف يصنف على كونه “عدائي” تجاه القطاع الخاص ورجال الأعمال ، إذ لا يخلو خروج إعلامي له دون الحديث على “الانتزاع” و “إجبار” رؤوس الأموال على الدفع وحتمية فرض ضريبة على الثروة، و فرض ضرائب جديدة….
لغة لا تتماشى مع ضرورات الحُكم الديمقراطي بقدر ما تنخرط في معجم “ثورجي” ، ينتمي إلى سجلات “ثورات القرن الماضي” التقليدية والتي تجاوزها التاريخ. و لا تزيد هذه التصريحات مناخ الأعمال و الاستثمار الا توترا، و من شأنها دفع رأسمال البلاد الى الحذر من الحكومة، و عدم التعاون معها.
و هو ما لا يُساعدها بتاتا على إدارة ما تبقى من عمر الحرب ضد الكورونا فما بالك بإدارة مرحلة ما بعدها و التي تتطلب استثمارات هائلة و أموالا ضخمة و مشاركة فعالة من رؤوس الأموال في المحافظة على السلم الاجتماعي خاصة و ان ملايين العمال سيتم تسريحهم في مختلف انحاء العالم، و يتوقع أكثر الخبراء حلما بتونس انكماشا اقتصاديا يفوق الــ4%، و ارتفاعا في نسبة البطالة بــ5%.
و في اطار التضامن الحزبي لا الحكومي يُساهم السيد وزير الدولة محمد عبو وزير الوظيفة العمومية ضد الوظيفة العمومية، و يدفع بتصريحاته المتتالية الى صدام حتمي بين الحكومة و قطاع الوظيفة العمومية، و من ورائها اتحاد الشغل.
و بتصريحاته المنعونة ب “الشعبوية” حول قسائم الطعام و السيارات و الغيابات مناخا معاديا للإدارة و يُحفّز رأيا عاما ضدها. و يُحاول محمد عبو الوزير الذي مكنته مذكرة السيد رئيس الحكومة من صلاحيات ان يبتلع الحكومة بابتلاع الوظيفة العمومية و الادارة، معتقدا انه يمكنه ان يتجاوز الصلاحيات الممنوحة لرئيسها.
و ينسى السيد محمد عبو، ان ظروف تقلده الوزارة سنة 2020، تختلف كليا على ظروف توليه لها سنة2011. فقد كان في الفترة الأولى – التي فشل فيها – محمولا بتيار ثوري جارف، شكّلته عمليات “ديغاج” التي تضرر منها العشرات من خيرة إطارات الإدارة التونسية.
كان عبو قويا بالجماهير، و كانت الإدارة خائفة من التحولات واتجاهاتها و من الانتقام بتهمة “العمل مع النظام السابق”.
اليوم تحررت الإدارة، و أعادت بناء نفسها، و خلقت كوادرها، المنخرطة مثل غيرها من النخب التونسية في المرحلة الديمقراطية، و ليس ثمة من معنى ان يُزايد أحد عليها بالثورية و النقاء و الصلاح و لـــ “يرجمها من كان بلا خطيئة”
- وزراء….ضد الحكومة
بدا السيد وزير التجارة محمد مسلميني رجلا مُحترما و طيبا. و لكنه لم يستطع ان يكون وزير “تغذية” في مرحلة حرب خطيرة. فقد اسهمت قرارات السيد الوزير غير المدروسة في غلق أسواق الجملة، و فرض التزويد الدوري في جعل الازمة أكثر خطورة، في تضاعفت أسعار الخضر و الغلال إضافة إلى ندرتها، و اضطر آلاف التونسيين الى التنقل مسافات طويلة بحثا على المؤونة.
أما في الأرياف فإن الوضع كان كارثيا، ففي العديد من القرى النائية و في ولايات كاملة، غاب السميد و الفرينة، و فُقدت الخضر و الغلال تماما. و نشطت المضاربات و الاحتكار و تناقصت الكثير من المواد.
و يتم الآن تدريجيا تجاوز هذه الإشكاليات بعد تراجع الوزير على قرار غلق الأسواق و نشاط أجهزة الأمن و الديوانة في مراقبة مسالك التوزيع الموازية….. و لكن “بعد ايه” كما يقال.
وزير الشؤون الاجتماعية لم يكن افضل من زميله في التجارة، إذ ان وزارة الشؤون الاجتماعية فشلت في تنفيذه الاجراءات المهمة التي اتخذتها الحكومة و اعلن عليها رئيسها، وقاد البلاد الى مظاهر صدمت الجميع.
فنتيجة لسياسة اتصالية فاشلة و ظهور اعلامي غير موفق، تدافع الالاف نحو مكاتب العمد و البريد و المعتمديات، بطريقة خطيرة على الامن الصحي العام، خرقت الحجر الصحي، تجاوزت معايير السلامة الضرورية في مقاومة الوباء و على رأسها “التباعد الاجتماعي”، و يعلم الله ما سينجر على ذلك من مخاطر عدوى ستظهر نتائجها بعد حين.
هؤلاء الوزراء، استهلكوا جزءا غير يسير من الثقة التي توسمها الكثير من التونسيين في رئيسها، لكن الامر ازداد عمقا مع نوع آخر من الوزراء.
- المالية .. وما أدراك
السيد نزار يعيش، وزير الماتلية (الخزانة) يتصرف بنفس طريقة التصرف قبل الكورونا. لا يرى الكورونا و لا يرى أثرها في حكومته. كان عليه التقاط هذه اللحظة و تغيير إستراتيجية الدولة التونسية مع الجهات المانحة، خاصة و ان السيد رئيس الجمهورية دعا المنتظم الأممي إلى عقد شراكة تضامني أنساني جديد، و السيد رئيس الحكومة السابق نشر في جريدة لوموند مقالا حول إلغاء ديون بلدان إفريقيا لمساعدتها على تجاوز الوباء.
يُفاخر السيد وزير المالية بكون دولة الاستقلال لم يسبق لها ان ترددت في سداد ديونها او طلبت اعادة جدولتها، نعم هذا سليم، و لكن الوضع استثنائي. فالجهات المالية الدولية، و مجموعة العشرين، كلها اتخذت اجراءات للتخفيف من عبء المديونية على الدول الاشد فقرا، ودعا الرئيس الالماني الى سياسة عالمية تضامنية و مثله فعلت النرويج التي دعت الى مؤتمر دولي بل ان الرئيس الفرنسي صرح علنا باستعداد فرنسا للتخلي على ديونها نحو الدول الافريقية، ألم يكن من الصالح لتونس و لحكومتها التقاط كل هذه الرسائل و الدفع بتونس للتمتع و لو بالقليل من هذه الاجراءات؟
تصريح مثير لوزير الدفاع
كما لا ننسى التصريح المثير لوزير الدفاع في علاقة بالضوع في ليبيا والذي مثل سابقة في تاريخ هذه الوزارة ، تصريحات فرضت على الرئيس قيس سعيد تعديلها بعد الاتصال برئيس الحكومة الليبية فايز السراج.
أثارت تصريحات وزير الدفاع كما قلنا جدلا واسعا حول الأوضاع في ليبيا أشار فيها بالخصوص الى “أن الوضع في ليبيا متدهور ويبعث على الانشغال”.
كما تطرق الوزير التونسي الى تواصل “تدفق المرتزقة والعناصر الارهابية وانها تعمل بحرية” مشددا على أن الطرف التونسي جاهز و يقوم “بمتابعة استعلاماتية داخل العمق الليبي”. !
كمامات الكورونا .. وزارتين في قفص الاتهام
أشارت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الى أنه وبعد التقصي في شبهات فساد (11 تبليغا) توصلت بها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وبعد سماع مجموعة من الشهود والخبراء، تم الوقوف على مجموعة من القرائن الجدية التي تثبت الاشتباه في فساد صفقتي تصنيع عدد 30مليون كمامة واقية غير طبية و2 مليون كمامة من نفس الصنف لفائدة كل من وزارات الصناعة والصحة والتجارة، وذلك في العديد من الجوانب والمواضع.
وبناء عليه، تولت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بتاريخ 16 أفريل 2020 إحالة الملف بكل مؤيداته الى وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس للتعهد والاذن بإجراء بحث تحقيقي في الموضوع.
كما تولت الهيئة إعلام رئيس الحكومة بالملف بحكم ان الشبهات تتعلق بصفقات عمومية يشتبه في تورط بعض كبار موظفي الدولة فيها الى جانب عدد من رجال الاعمال، وذلك بغاية الاذن بإجراء تدقيق رقابي في الغرض.
هل تصمد حكومة الفخفاخ؟
يبدو ان مرحلة التقييم لن تنتظر انقضاء الكورونا، فقد حانت اللحظة التي يتوجب فيها على السيد رئيس الحكومة تقييم وزرائه، و لجم بعضهم، عن الكلام المسيء له. فالحكومة في النهاية حكومة الفخفاخ و هو الذي سيدفع ثمن فشلها. عليه ان يُعيد بناء تصوراته ليس لفريقه الحكومي على مستوى شخوص الوزراء بل في مستوى الرؤيا عامة، و خاصة الرؤيا الاتصالية.
و اذا كانت هذه اللحظة مهمة لتونس في حربها ضد الوباء و صراعها لتجاوز مخلفاته الصحية و النفسية و الاقتصادية و الاجتماعية، فان المسؤولية تقع على عاتق السيد الياس الفخفاخ، الذي يجد نفسه في لحظة مفصلية. محاصرا بالوباء و الوزراء و قريبا من الخصوم الذين بدأوا في التحرك.
Comments