رضا الكزدغلي يكتب ل “التونسيون” حول حوار هشام المشيشي “بين الحدث و اللا حدث الإعلامي”
رضا الكزدغلي*
هل تتأكد في كل الحالات المقولة الشعبية بأن “الخط على أوله” خاصة في العمل السياسي؟ ربما يكون ذلك صحيحا عندما يكون الفاعل السياسي متمرسا خبيرا و داهية في قومه، أما إذا كان الحال في حال رئيس الحكومة هشام المشيشي بعد شهر أو أكثر بقليل من تمكنه مقاليد الحكم في الجهاز التنفيذي للدولة فذاك أمر يحتاج لتمعن و تقدير.
رذيس الحكومة قدم للدولة كما نعلم بدون سند من قبل من اختاره الشخصية الأقدر الثانية بعد فشل الأولي و بحزام سياسي برلماني لا ينتمي إليه و ليست له معه تاريخية علاقة و تنسيق سابق و قد أتبت خلال الفترة المنقضية من توليه الحكم مهارة ملحوظة في التعامل مع الأطراف السياسية المعاملة معه في اللقاءات الثنائية و فى مجموعات مع الأحزاب و الفاعلين السياسيين و فى اللقاءات القليلة مع رئيس الجمهورية.
جميع هذا الحراك السياسي للرجل تم في إطار غير معلن و فى شبه عزلة عن الرأي العام سوى ما تنشره بصفة مختزلة مستشارته الإعلامية القادمة اليه من قطاع الصحافة السمعية بصرية و المتعودة أساسا بالعلاقة المباشرة مع الرأي العام عبر المصدح و الكاميرا.
في سياق كل هذا يتم الإعلان بصفة غير منتظرة عن حوار إعلامي لرئيس الحكومة هو الأول في موقعه الوظيفي بل ربما هو الأول في سياق الوظائف السابقة له كوزير للداخلية و كمستشار لدى رئيس الجمهورية.
يأتي الحوار بعد خروج إعلامي مقتضب سابق في كلمة للرأي العام بثماني دقائق حول الوضع الصحي في البلاد قبل أسبوعين مضت.
فكيف كان هذا الحوار و هل كان مغامرة إعلامية أم كان ضربة بداية و لكل أمر بدايات مهما كانت نتائجها في الحين.
في قراءة فنية للجانب الشكلي في حوار رئيس الحكومة نلاحظ بروز نقاط قوة فيه ليست بالهينة في إطار ما ذكرناه سابقا لكنها تبقى نسبية رغم ذلك لغلبة نقاط الضعف أهمية و عددا .
نقاط القوة :
1) قدرة طبيعية في شخصية الرجل على تمرير أريحية مع المتلقي فيها الشعور بالصدق و عدم المناورة و “تلعيب الأعين و اللسان” كما برع في ذلك الشاهد.
2) حضور ذهني و استعداد للجواب بما هو متاح أو ما تم التحضير له بدون تلعثم أو همهمة أو سكون طويل عن الكلام.
تواضع مبالغ فيه أحيانا.
3) ثراء في المضامين و تشبع بها (و ان لم تتضمن قرارات و إجراءات ينتظرها الجميع) لكنها شملت كلمات مفتاحية لتكريس مفهوم الدولة في ممارستها للسلطة.
نقاط الضعف :
1) عدم القدرة على أخذ بزمام المقابلة الصحفية و تركها للصحفي الذي أمعن في تمطيط الأسئلة في البداية (صار أكثر إيجازا لاحقا)
2) التنقيص من الأثر الاتصالي في التفاعل اللفظي مع المتلقي بالحديث باللغة الدراجة و ذلك باقحامه الفرنسية الإدارية التي قد لا يفهمها عامة الناس (و الحوار لعامة الناس أيضا و ليس فقط للنخبة).
3) نبرة الصوت و تغير طبقته غابت أو لم تكن متناسبة مع عديد المواقف التي عبر عنها حول مختلف محاور المقابلة و عند تقديم التعازي مما جعلها لا تمر بقوة الموقع القيادي السامي لرئيس الجهاز التنفيذي.
4) كان في علاقة انسيابية عالية منسوب الشخصنة مع الصحفي و هي غير مطلوبة في سياق الموقف و الإطار حيث أكثر من استعمال كلمة “سي فلان” و ركّز بصره عليه كامل الحوار (المخرج لم يعطه فرصة توجيه البصر مباشرة للمشاهد (plan de face).
5) طريقة وضع الرجل على الرجل لم تكن مناسبة لإخفاء منسوب التوتر الذي ظهر على رئيس الحكومة خاصة من خلال حركة القدم اليمني بصورة ملفتة للانتباه.
6) لون القفلة في الحوار كان باهتا كما كان لون البداية.
7) لم يستفد كثيرا من ليونة الصحفي المحاور معه عموما (ربما كان غير مهيأ لذلك لنقص التجربة)
8) انكشاف لنمط شخصية الرجل من صنف الإداري الانطوائي بذكاء تحليلي يستوجب منه سريعا الانتقال إلى نمط الشخصية القيادية الانفتاحية المؤثرة المدعومة بطبيعة الحال بالذكاء التحليلي و الذكاء الوجداني intelligence emotionnelle.
أما الجانب المضموني من الحوار فقد تركز بالأساس على عنصرين:
1) استعادة و سرد للمعطيات و المعلومات ذات العلاقة بكل محور تمت إثارته في الحوار سواء منها ما وقع تداوله لدى الرأي العام كقضايا مستجدة أو ما يتوفر لدى جهاز الحكومة من تقدير علمي و فني و سياسي و إداري.
2) تمرير مواقف و مفاهيم و رمزيات تتعلق بالدولة و طرق تسييرها و تدبير شؤونها في إطار ما يتيحه الدستور و تمليه نواميس العمل الحكومي و السيادي.
و قد غاب عنصر ثالث عن هذا المضمون لا يقل أهمية و هو عنصر القرارات و الإجراءات سوى طبعا القرار المتعلق بتكفل الدولة بعلاج المواطن المصاب بالكوفيد 19في المصحات الخاصة اذا لم يجد له مكانا في مؤسسات القطاع العام. . و أظنه كان قرار ا ارتجاليا غير مدروس فى كلفته و سبل تنفيذه.
و حول كلا العنصريين الأول و الثاني توفق رئيس الحكومة في إبلاغ ما أراد إبلاغه بضعف في الشكل لكن بإلحاح في التذكير و التشديد و التنويه في كل مرة تتاح له الفرصة خاصة أن الصحفي المُحاوِر لم يساعده كثيرا و قطع عليه في كثير من المرات خيط الأفكار بالمقاطعة غير المدروسة.
و لعل أهم المفاهيم و الرسائل التي سربها رئيس الحكومة بذكاء و دهاء الشخصية الانطوائية بإلحاح هي قوة القانون و قوة الدولة و المسؤولية التضامنية و احترام الصلاحيات.
هذا بالإضافة ل :
- بيان الموقف السياسي لحكومته المستقبلي كحكومة تنتقل من شكل حكومة التكنوقراط الي حكومة سياسية للوحدة الوطنية عبر التمسك بمرجعيّة الدستور والصلاحيّات التي يضبطها للرئاسات الثلاث وخاصّة داخل السلطة التنفيذيّة من جهة و عبر الانفتاح على البرلمان.
- التذكير بطبيعة العلاقة مع مؤسسة رئاسة الجمهورية من منظور مؤسساتي لا يخضع للأهواء و الانطباعات .
- الإشارة لقابلية الحكومة للتفاعل مع المتغيّرات و المستجدات و تفاعلات الأزمة الاقتصاديّة و الصحيّة.
- التعبير عن الانحياز الضمني إلى تحوير المرسوم 116 من خلال إشارته إلى ضرورة تحرير قطاع الاعلام
و لئن كان مضمون الحوار طيعا نسبيا في يد السيد هشام المشيشي مع قدرة على الاستدراك فيه بسهولة الا أنه بقى مضمونا خاليا من حزمة من الإجراءات و القرارات التي ينتظرها المواطن و لو بنزر قليل.
خلاصة القول أن الخروج الإعلامي الأول لرئيس الحكومة في حوار دام قرابة الساعة و النصف لم يحدث ربما الرجة الكبرى في بحيرة الرأي العام بما يتبعها من موجات ارتدادية سريعة لكنه كان حوارا يستدعي السكون عنده للتأمل و رسم الخطط للتفاعل مع مضمونه مستقبلا و نتوقع ذلك أساسا من مؤسسة الرئاسة و من البرلمان و من المتنفذين في القطاع الإعلامي هياكل نقابية و تجمعات فكرية و أصحاب مصالح فئوية.
-
رضا الكزدغلي، خبير اتصالي
Comments