26 جانفي 1978 .. حتى تتعافى الذاكرة
المهدي بنعبد الجواد
اليوم هي ذكرى أحداث 26 جانفي 1978 بمناسبة الإضراب العام الذي شنه اتحاد الشغل. وهي مناسبة تتجدّد فيها المطالبة بضرورة كشف الحقيقة كاملة عمّا جرى. حفظا لذاكرة الضحايا أولا وتكريما للأحياء وحرصًا على ضمان عدم تكرار هذه الوقائع الاليمة.
أعتقد أن “إنعاش الذاكرة” لا يجب أن يكون انتقائيا، ولا يُمكن أن تكون كتابة التاريخ “على المقاس/ المزاج”، فنحن لا نعرف إلا رواية اتحاد الشغل وخاصة المشاركين من النقابيين الذين مازالوا أحياء.
وهي رواية مهمة وثرية لكنها في النهاية رواية تخضع لل”مصالح” النقابية وتُراعي ذاكرة الاتحاد وترفع خاصة من شأن “حبيب عاشور” ورمزيته، مقابل “رجالات” الحزب والدولة.
وتقوم السردية النقابية على تحميل المسؤولية كاملة للجناح المُتشدّد داخل السلطة وخاصة لمحمد الصياح والهادي نويرة وغيرهم، دون أدنى إشارة إلى ما قد يكون من مسؤولية النقابيين وخاصة قيادتهم النقابية في ذلك.
لقد جاءت أحداث 26 جانفي 1978 في ثلاث سياقات مهمة، يجب التوقف عنها:
تأثيرات السياسات اللبرالية
بدأت تظهر نتائج السياسة الليبرالية التي انتهجتها تونس منذ بداية السبعينات، تعويضا عن سياسة التعاضد التي انتهجتها تونس في الستينات. وانضمت إلى “الطبقة” الشغيلة آلاف العمال والعاملات. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تكثفت وتيرة الاضرابات والاحتجاجات، مثلما حصل خاصة في معامل النسيج بالساحل.
لقد نهض “مشروع نويرة” رئيسيا على دمج تونس في الاقتصاد العالمي بجلب الاستثمار الخارجي واغرائه من أجل القدوم إلى تونس عبر “بيع” اليد العاملة الرخيصة. والتعويض ذلك تحمّل صندوق التعويض القسط الأكبر وذلك عبر الابقاء على اسعار السلع والمواد الأساسية والغذائية في متناول العمال.
ومع ارتفاع الأسعار منتصف السبعينات بدأت جحافل الشغالين تعاني من ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية، وهو ما عملت الحكومة على “تطويق” آثاره بالدخول في ما بات يُعرف بالعقد الاجتماعي عبر سياسة الحوار الاجتماعي بين الشركاء وهي السياسة التي أشرف على تركيزها الوزير محمد الناصر، والذي مثلت استقالته عشية الاضراب اعترافا بنهاية سياسة التفاوض والتحاور.
اليسار النقابي… تجذّر المعارضة النقابية
كان لانخراط أعداد كبيرة من اليسار في نقابات اتحاد الشغل دورٌ في تجذير سلوك نقابي متمرّد على العادات والاعراف النقابية التاريخية. إذ ان اتحاد الشغل والحزب الدستوري كانا شريكين في كل شيء، السلبي قبل الايجابي.
فقد دفعت الجامعة التونسية بداية من منتصف السبعينات بأعداد هائلة من “مناضلي” الجامعة الذين تربوا على شعارات حركة فيفري 1972 والهياكل النقابية المؤقته، والتي تدعو إلى القطيعة السياسية والتنظيمية مع السلطة واستقلالية المنظمات على الحزب الحاكم. وهو تيار رفع من نبرة المعارضة في هياكل الاتحاد وجعل من “قضية الاستقلالية” محورا رئيسا في المنظمة، حتى وإن كنت أعتقد أن “الاستقلالية” كانت قميص عثمان، حتى يتسنى لليسار السيطرة على الاتحاد، وهو ما حصل فعليا بعد ذلك.
ان قطاعات هامة في اتحاد الشغل مثل التعليم والصحة والصناديق الاجتماعية وغيرها “ستسقط” في أيدي اليسار “الثوري” وستعمل هذه التيارات على الدفع في اتجاه المواجهة مع السلطة، وليس في 26 جانفي فقط بل في كل المراحل اللاحقة وهو ما سيظهر في أحداث الحوض المنجمي وخاصة في وقائع ثورة 2011.
الحبيب عاشور…الشريك يتمرّد
ثالث الاسباب، وهو الرئيسي في تقديرنا، يتمثل في انخراط الحبيب عاشور في صراع الأجنحة داخل الحزب والدولة على خلافة الزعيم الحبيب بورقيبة. فقد كان الحبيب عاشور، عضو الديوان السياسي، أعلى سلطة سياسية في الدولة والحزب، يعتبر نفسه “شريكا” في الحكم، بل إنه صاحب فضل على بورقيبة وهو الذي كان له الدور الحاسم في تغليب كفة بورقيبة على صالح بن يوسف في مؤتمر صفاقس.
صراع الأجنحة هذا، تخفّى وراء شعارات اجتماعية( ظروف العمل) وسياسية ( استقلالية المنظمة) واستغل الاتحاد والنقابيين لحسمه.
إن الكثير من المعارك التي شهدتها تونس تخفت وراء شعارات كبيرة وهي في جوهرها لا تعدو ان تكون صراعا حول السلطة، أو مطالبة بالمشاركة فيها، ذلك هو جوهر ما عُرف بالتيار الديمقراطي داخل الحزب الدستوري في بداية السبعينات، وهو تيار “بلدي/ حضري” كان في جوهره محاولة لاسترجاع السلطة او ضمان بعض “ريعها” وقد بدأ لوبي الداخل/ الافاقين وخاصة لوبي الساحل يهيمن عليها.
فالحبيب عاشور الزعيم النقابي الأهم، كان مثل غيره يُدافع على شبكة مصالح وأسباب هيمنته على قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية، لأن جوهر المشروع البورقيبي/ الدستوري يقوم في ركن منه على “دور العامل/ الخدام” الذي يمثله الاتحاد إذن الحبيب عاشور. الزعيم عاشور هو الجانب “الاجتماعي” مقابل بورقيبة “السياسي” والأعراف “الثروة” وبدأ هذا التعاقد في الانحلال منذ تلك الفترة.
خاتمة
إن التاريخ ليس بالبساطة التي نعتقدها، فهو مركب جدا ومعقد الأسباب. إذ أن كل صراع مهما كان نوعُه يُخفي صراعا حول السلطة والثروة، والكتابة نفسها هي محاولة للهيمنة على الذاكرة والتاريخ اي على السلطة، فالانتصار لرواية ما هو محاولة لبناء شرعية تضمن البقاء وتُبرّر المشاركة في بناء المستقبل وحتى الهيمنة عليه. ولكل ذلك يجب تنسيب الكثير من الروايات.
فنحن نستمع دوما لأصوات المعارضة “النقابية والسياسية” ولم نستمع بعد لصوت “الدولة” لانه لا أحد يُمثّلها لحد هذه اللحظة. وعلينا في نفس الإطار الحرص على توزيع المسؤوليات في كل ما حصل في تاريخ تونس.
وإذا كانت المسؤولية الأولى يوم 26 جانفي 1978 تتحملها الدولة التي استعملت الرصاص الحي ضد متظاهرين عّزّل، فإن معرفة أسرار وكواليس “المطبخ النقابي” مهم ايضا. فالجميع يتحمّل المسؤولية وإن بأحجام متفاوتة.
نحتاج اليوم إلى كشف الحقيقة عبر اختراق حجُب الروايات المألوفة، لمعرفة صورة صالح بن يوسف الذي لم يكن ملاكا، وحقيقة انقلاب 1962 فضحاياه لم يكونوا أبرياء تماما، ونحتاج لمعرفة حقيقة أحمد بن صالح الذي لم يكن شيطانا تماما مثله مثل مزالي. وعلينا مراجعة تاريخ بن علي وتاريخ معارضيه، وعلينا خاصة كتابة مرحلة “الانتقال الديمقراطي” بطريقة عقلانية لنعرف الحقيقة.
نحتاج كل ذلك وغيره كي تكون لدينا قصة لتونس، وحكاية لماضيها تكون جوهر وحدتها حتى يمضي التونسيون معا نحو المستقبل.
Comments