الجديد

خالد شوكات

في 2 مارس 1934: هل كان بورقيبة في خلاف مع الثعالبي؟

بقلم: خالد شوكات

تابعت مؤخرا حواراً للسيدة عبير موسي مع احدى الإذاعات الباريسية، وهي تحاول جاهدة إثبات ان حزبها “الدستوري الحر” ليس سوى امتدادًا للحزب “الحر الدستوري” الذي ولد سنة 1920، ويحتفل “الدساترة” بمائويته هذا العام، تماما كما يحتفلون بمائوية “النادي الافريقي” ثاني اعرق النوادي الرياضية، والذي يقال ان مؤسسه الحقيقي هو ذات مؤسس الحزب، اي الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي رحمه الله.

عبير التي تجتهد في تلفيق التاريخ، وتسخيره خدمة لأجندة سياسية لا صلة لها بالتاريخ، بل هي وثيقة العلاقة بمعارك الحاضر المحمومة حول الحكم، تستنكف -جهلا بالتاريخ كما اعتقد- من ذكر الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي بدون ذكره لن يستقيم الاحتفال بالمائوية، وتقفز مباشرة الى تاريخ 2 مارس 1934، والى الإتيان على مناقب الزعيم الحبيب بورقيبة مؤسس الحزب الدستوري الجديد، وهو امر لا يتناقض فحسب مع افتخارها المعلن والمفتعل بحزبها الذي تزعم ان عمره ادرك المائة عام، بل يتناقض كذلك مع سيرة التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كانت أمينة عامة مساعدة في قيادته، والذي ولد في اجواء الانقلاب على البورقيبية،

وما أتذكره جيّدًا من تلك الحقبة أواخر الثمانينيّات، ان قيادة التجمع في ذلك الوقت قد تحمّست لرد الاعتبار لشخصية الشيخ عبد العزيز الذي ظلم كثيرا، حيّاً وميّتاً، سواء من خلال اعادة نشر كتبه ك”تونس الشهيدة” و”روح التحرر في القرآن” و”الكلمة الحاسمة” وغيرها، او من خلال إقامة بعض الندوات والمحاضرات حول فكره ونضاله والمحن التي لاقاها حتى ملاقاته وجه رَبِّهِ الكريم سنة 1944.

ثمّةَ أمور كثيرة تجهلها عبير، كما يجهلها أو يتجاهلها كثير من رفاقها وإخوانها ممن يتعاطون مع المسألة “الدستورية” باعتبارها نوعاً من “الحمّية القبلية” أو “العصبية الأيديولوجية”، فالدستوري في نظرها اقرب ما يكون الى “فصيلة دم”، تذهب الى مخبرها فتجري لك تحليلا وتمنحك بحسب النتيجة “صكّا” ترتفع “قيمته الدستورية” بقدر منسوب عنصر “كراهية الخوانجية” في دمك، وليس الدستوري كما يجب ان يكون في الأصل “المؤمن بالفكر الوطني الاصلاحي التونسي” وقيمه ومبادئه ووسطيته واعتداله، كما ثبّتها الروّاد قولا وفعلا عبر قرنين من الكفاح الصادق من اجل تحرير الوطن وتقدّمه.

وأودّ في هذا السياق الذي نخلّد فيه ذكرى تأسيس الحزبين القديم والجديد على السواء، اذ كلاهما تأسس في شهر مارس، ان أذكّر ببعض النقاط التي سبق ان اشرت اليها سابقا في كتابات متفرقة، وتهم العلاقة بين الزعيمين الثعالبي وبورقيبة أساسا، وهي الصلة التي يقدّمها البعض باعتبارها صلة عداوة وخصومة، وهو ما لا يقوم دليل عليه، الا سعي البعض للاستفادة الضيقة من أمر هذا التناقض المفتعل حتماً: –

أوّلاً: ان الانشقاق الذي قاده الزعيم بورقيبة ورفاقه الماطري وقيقة وصفر، لم يكن انشقاقا على حزب الشيخ الثعالبي كما يردّدُ، بل انشقاقا على اللجنة التنفيذية التي كانت تضم شخصيات من قبيل محي الدين القليبي والطاهر الحداد واخرون، فالشيخ لم يكن ساعتها موجودا في تونس، التي غادرها منفيا سنة 1923 ولن يعود إليها الا في جويلية 1937، اي بعد اكثر من ثلاث سنوات ونيف من مؤتمر دار بن عياد في قصر هلال.

ثانيا: ان كتاب اعمال مؤتمر 2 مارس 1934، الذي تضمن وثائق المؤتمر ونقاشاته والخطب التي القاها زعماء الحزب الجديد، تصدرّه صورة الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي مع عبارة “مؤسس الحزب الدستوري رد الله غربته”، وهو ما يثبت انه لم يكن ثمّةَ خلاف بين زعماء الحزب الجدد مع الزعيم المؤسس إنما مع قادة الحزب القدامى، اي مع اعضاء اللجنة التنفيذية، وان كلا الفريقين كان يراهن في ذلك الوقت على انحياز المؤسس لوجهة نظره.

ثالثا: ان الصورة الموثقة لاستقبال الشيخ عبد العزيز الثعالبي عند عودته الى ارض الوطن في بداية جويلية 1937، والتي يظهر فيها قادة الحزب القدامى وعلى رأسهم الشيخ محي الدين والجدد وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة يتوسطهم الزعيم المؤسس العائد، يثبت ان كلا الفريقين كان معترفا بزعامة الشيخ وعلوية مكانته، وان رهان كل منهما على كلمة منه تؤيد موقفه وتمنحه شرعية القيادة. –

رابعا: ان تصوير الخلاف بين الفريقين من الدساترة، باعتباره خلافا بين محافظين يتزعمهم الشيخ الثعالبي وتقدميين يتزعمهم الزعيم بورقيبة، هو تصوير لاحقٌ مردّه تمكّن البورقيبيين من السلطة، فيما تكاد الوثائق التاريخية تثبت ان النزعة التقدّمية والتحررية للشيخ الثعالبي والمقرّبين منه كالطاهر الحداد عضو اللجنة التنفيذية، كانت أوضح وأبين، بل لعل قارئ التاريخ المحايد يكاد يجزم بالعكس فقد كان الثعالبي أجرأ في الدعوة الى تجاوز التقاليد وتحرير المرأة قياسا بالزعيم بورقيبة الذي كان اقرب الى النزعة المحافظة ( انظر مواقفه المدافعة عن الحجاب ومعارضته الشديدة للتجنيس) منه الى النزعة الاصلاحية

خامسا: ان مجال التعايش الزمني المشترك بين الزعيمين الثعالبي وبورقيبة كان محدوداً للغاية، بل لعله لم يكمل العامين (1937-1939)، وهو ما يجعل من خصومتهما متخيّلة ومفتعلة اكثر مما هي حقيقية، خصوصا اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان نصف المدة قد قضاها الشيخ الثعالبي في محاولة توحيد الحزب وتقريب وجهات النظر بين جماعة اللجنة التنفيذية وجماعة الديوان السياسي، قبل ان تتفجر احداث الحرب العالمية الثانية التي ستأخذ الزعيم بورقيبة الى المنافي وستحيل الشيخ الثعالبي الى ما يشبه العزلة الطوعية في بيته حتى وفاته، اما اثارة موضوع الاستقلال كمجال للخلاف بين الرجلين فلا يبدو منطقيا البتّة، ذلك ان هذا الخلاف سيتفجر ابتداء من مطلع الخمسينيات بسن زعماء الحركة الوطنية، وسيكون اكثر حدة بين وجهتي النظر البورقيبية واليوسفية، وليس البورقيبية والثعالبية.

انني مدرك ان السياسة في جزء منها انطباع، وقد انطبع في اذهان الناس ان الشيخ الثعالبي محافظ، فيما هو في واقع الامر تقدّمي تحرري اصلاحي ايضا، ولا شيء يفسر هذا الامر الا كونه شيخا درس في الزيتونة، متناسين انه كاد يعدم سنة 1905 بسبب دعوته لتحرير المرأة، ومتناسين أيضا ان الطاهر الحداد رائد تحرير المرأة كان شيخا زيتونيا ايضا، كما كان الامر بالنسبة لعدد كبير من قادة الحركة الوطنية الاصلاحية الدستورية، كما انني مدرك ان السياسة في جزئها الاخير نتيجة، والنتيجة هي ان الزعيم بورقيبة هو من انتصر سياسيا وتسلم السلطة، ولهذا وجد مجالا لكتابة  تاريخ تونس الحديث والمعاصر وفقا لقراءته الشخصية، وهي قراءة تستحق المراجعة دون ان يكون في ذلك انقاص من مكانته او مس بزعامته، فهو بلا منازع قائد الاستقلال وباني الدولة الوطنية.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP