الجديد

عالم الاجتماع رضا بوكراع يكتب عن: “اللحظة الشعبويّة واللحظة الديمقراطية في عالمنا اليوم” /3 من3/

رضا بوكراع

ما يميز اللحظة الديمقراطية، أنها ترفض كليا نظام الديمقراطية التمثيلية والطبقة السياسية الحاكمة، ورفضها للديمقراطية التمثيلية يؤدي حتما إلى رفض الآلية التمثيلية، فالحراك الذي يبرز في اللحظة الديمقراطية يرفض أن يكون له ممثلون أو قيادات تُفاوض باسمه لأن التمثيلية، تحمل دائما إمكانية المساومة والتبادل والمناورة، إذا إمكانية الخيانة والالتفاف والتحيل، ومسرح هذه اللحظة الديمقراطية هي الشارع والساحة، وهي تحاصر البرلمان مسرح التمثيلية السياسية، غير الممثل للشعب بل ممثل لمصالحها الطبقية والطائفية، بما فيها اللوبيات المالية والاقتصادية.

وهذا الرفض للتمثيلية يؤدي إلى انسداد الأفق السياسي العام ، واللحظة الديمقراطية تصبح تعبيرية وجودية أكثر منها سياسية وبرغماتية ، وهي تحرك قوى تضامنية كانت دفينة ومغمورة، في ظلّ هيمنة الطبقة الحاكمة وفي إطار اقتصادي ليبيرالي ذرر وفُتّت العلاقات الاجتماعية، فكأنما ذاك المجتمع الذي خيل لهم أنه دفن واندثر يبعث من جديد.

والعلاقة الاجتماعية في الحراك أصبحت تخترق الحدود الأممية والقارّات لتنسج علاقات تضامنية تربط بين إيران وHong Kong  وChili والجزائر ولبنان والسودان.

المجتمع المذرّرّ يتحول هكذا إلى مجتمع ملتحم ودولي، يطالب برحيل النظام السياسي العالمي الذي ارتبط عضويا بالنظام الاقتصادي المتأزم، والذي أدى إلى البطالة والتفاوت الاجتماعي المجحف، وتدهور المحيط الطبيعي وانتشار الفقر والخصاصة.

ومن خاصية اللحظة الديمقراطية في الحراك، أنها رافضة للمنظومة السياسية والاقتصادية ، ولكن انعدم فيها البديل والرؤية المستقبلية، فهي مطالبة بالحق في الوجود والتعبير ولا تقدم برنامج اقتصادي.

ولعل من أسباب انسداد الأفق السياسي في المستوى العالمي، يرجع إلى الهيمنة الكلية للفكر النيولبرالي واندثار الفكر اليساري، الذي كان يشكل البديل ، فالحراك يصبح بذلك يتيما من إطار إيديولوجي يجدول الطّاقة الثورية الموجودة فيه ويفتح لها آفاق جديدة.

إذا اللحظة الديمقراطية، تتميز بالهبة الشعبية لأن الشعب يكون فيها ملتحما غير مقسم، فاعلاً لا تَخترقه قوى خارجية ولا تندس فيه قوى انتهازية، وهو يشكل في هذه اللحظة وحدة منصهرة في أنا جماعي، موحد يفعّل العلاقة الاجتماعية واللحمة الاجتماعية، التي تدمج الأفراد من جديد وتوفر لهم شروط الانتماء.

والحراك يمكن أن يكون المفجر له سَبَبٌ اقتصادي كغلاء النقل في الشيلي، أو ارتفاع ثمن الخبز في السودان، أو سن ضرائب جديدة على الاتصال في لبنان، أو الفساد في التصرف في المحروقات في Haïti ، أو ضريبة الكربون في فرنسا ، ولكن سرعان ما يتحول الحراك إلى احتجاج شعبي، ضد النظام السياسي رفضا للطبقة الحاكمة ومطالبا بتغيير المؤسسات السياسية.

ويمكن للحراك أن يكون المفجر له مطلب سياسي بالأساس كما هو الحال في الجزائر حيث طالب الحراك بعدم تجديد العهد لرئيس الجمهورية وتحول إلى رفض نظام الحكم بكليته، وفي Hong Kong كان المفجر للحراك سن قانون تسليم المواطنين إلى بيكين والذي تحول إلى صدام مع الأقلية الحاكمة ومطالبة بإبقاء النظام الديمقراطي.

واللّحظة الديمقراطية تعني أيضا غلبة المجتمعي على السياسي. الذي أصبح عاجزا على تلبية رغبات المجتمع، وأصبح همه الوحيد البقاء في الحكم تحت حماية فريبة ومشددة.

ففي لبنان تحوّل البرلمان إلى “بونكر” يقاد إليه النّواب تحت الحراسة الأمنية لمنح الثّقة لحكومة لم تنل ثقة الشعب، وفي الجزائر يتواصل الحراك بطلب رحيل ما تبقى من النظام السابق، وهو يرفض نتائج الانتخابات الأخيرة التي يعتبرها مزورة ولا تعبر عن إرادة الشعب وسيادته.

وفي العراق تتواصل أيضا الاحتجاجات ضد الطبقة السياسية وشبهات الفساد التي تحوم حولها ولا تقبل بالتغييرات الحكومية المقترحة عليها. وما يميّز الحراك في العراق أنه شيعي لا يُشارك فيه لا السنيون ولا الأكراد ولم يمنع ذلك من تعرض الحراك إلى هجومات التنظيمات الشيعية المتحالفة مع السلطة القائمة.

وإن اندلع الحراك في الشيلي Chili يسبب ارتفاع تذكره الميترو فقد تَحوّل إلى مطلب سياسي وهو تغيير الدستور الذي اعتبره الحراك سببا في سلعنة المجتمع والسياسة في البلاد. فالسياسي أصبح مقاولا يتاجر في السياسة والمتدين أصبح مقاولا يتاجر بالدين وكلّ منهما يستحوذ على الطاقة المجتمعية لصالحه كحزب أو كفئة اجتماعية تُسخّر المرافق العامة إلى منطق مصالحها الخاصة .

انطلقت في شيلي Chili  تجربة ديمقراطية مباشرة تمثلت في انتشار  مجالس شعبية موازية لمحاولات الحوار التي تقدمت بها السلطة والتي انتهت في آخر الأمر إلى قبول مبدأ ضرورة تغيير الدستور.

والحراك الآخر الذي توصل إلى نتيجة مرضية وإن كانت هشة هو حراك السودان الذي اندلع إثر ارتفاع ثمن الخبز والذي كانت له تمثيلية في نقابة موازية وفي نفس الوقت دعمٌ من قسم من الجيش تحالف معه لينقلب على حكم البشير.

وحراك السترات  الصفر في فرنسا الذي اندلع نتيجة ارتفاع ضريبة الكربون يمثل انتفاضة الطبقة المتوسطة الدنيا المهمشة في تخوم المدن الكبرى والذي تجاهلها ماكرون، وقد حاول الحراك بناء  ديمقراطية أفقية مباشرة معتمدة على المبادرة الاستفتائية، ولكنَ رَفض الحراك أن يمثّل أو أن يكون له قائد ولم يجدول طاقاته في أشكال تنظيمية مهيكلة، ورغم حصول الحراك على دعم مالي ومؤسساتي من السلطة فغضب الشريحة الاجتماعية المنتفضة مازال قائما ومتأججا وإن تلاشى الحراك شيئا فشيئا وغاب تدريجيا عن الساحات في الشوارع وعوضته الاحتجاجات النقابية المناهضة لمشروع إصلاح نظام التقاعد.

هذه النماذج من اللحظة الديمقراطية تشترك في خاصيّة مميزة لها وهي تعطل وانحباس اللعبة السياسية وظهور شرخ عميق بين الشعب والطبقة السياسية يستحيل معه الاتصال في الوقت الذي يتكثّف الاتصال بين أفراد الحراك عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي وباستحالة الاتصال بين الطبقة السياسية الحاكمة والحراك يستحيل الوصول إلى حل والاهتداء إلى مخرج للأزمة.

ولعلّ السبب الرئيسي في ذلك هو أن الحراك يحمل فكرة المستحيل الممكن، فالحراك الجزائري يطالب بتنحي الجيش عن الحكم وقيام حكم مدني يعبر عن إرادة الشعب، والحراك اللبناني يطالب بالقضاء على النظام الطائفي الذي يقسم الشعب وقيام مجتمع موحد متجانس مبني على المواطنة، وكذلك الحال بالنسبة للعراق الذي يُطالب بالتنمية وبتعويض النظام البرلماني الطائفي الفاسد بنظام رئاسي يعتني بمصالح الشعب.

فالهبّة الشعبية تستمد طاقتها من ذاتها وتنتعش من طاقة رفضها فشباب Hong Kong يعرف أنه سيجرد من ديمقراطيته في العشريات القادمة وأنه سيقضي كهولته في نظام شيوعي. فالانتفاضة محكوم  عليها بالفشل لا محالة ولكنه يرى أن نجاح الحراك يتمثل في قيامه، وقيام الحراك يمكن الشباب من الوجود والتعبير.

دخلت الإنسانية الحداثة ولم تكن الإنسانية واعية بدخولها للحداثة، فهل خرجت الإنسانية من الحداثة بدون أن تكون واعية بخروجها من الحداثة ؟

والحداثة تميزت بارتباط الديمقراطية بالرأسمالية، وعندما تفشل الديمقراطية في ترشيد الرأسمالية، فإنها تولّد الفاشية ، بين الحرْبين وأزمة النيولبرالية المتحوّلة إلى مركنتيلية أنتجت اليوم الشعبويّة وشوّهت الديمقراطية، التي جردت من قيمها التنويرية الداعية للحريات الفردية والجماعية والناهضة بالإنسانية فكريا وعلميا وحضاريا.

 فهل الإنسانية ستخرج أو أنها خرجت من الديمقراطية إلى نظام جديد يمكن تسميته الشعبقراطية تحدده التقنيات الجديدة للاتصال والأشكال الجديدة للذكاء الاصطناعي ؟
يقول بورقيبة في إحدى خطبه :

الديمقراطية مجازفة كبرى لأن الدولة والقانون ينبعان من الشعب والشعب يمكن أن ينقسم وتخترقه قوى الترهيب والترعيب فتضعف الديمقراطية وتتحول إلى فوضى ويكون الاستبداد أخف الضررين، هذه المجازفة عرفتها الإنسانية عندما أصبح مصدر السلطة سيادة الشعب تعويضا للسيادة الإلهية وأدى ذلك إلى أشكال متعددة من الحكم في التاريخ.

واليوم نلاحظ بروز أشكالا جديدة من الحكم لا يمكن تصنيفها لا في خانة الفوضى ولا في خانة الاستبداد ، فهي تنبئ بمسخٍ للديمقراطية وبمخاض لأشكال من الحكم غير معروفة.

ولعل الحركات غير النمطية التي نشاهدها اليوم والتي ترفض النمط الديمقراطي المتواطئ مع الرأسمالية الفاسدة والمؤدي إلى سلعنة المجتمع والسياسة لفائدة أقلية ثريّة، تطمح وترنو إلى أشكال جديدة من الحكم لا يمكن الآن رسم ملامحها ولا يمكن للباحث تسميتها. ولعل الإنسانية دخلت مجازفة كبرى جديدة عواقبها غير محددة.

يقول الفيلسوف الايطالي غرامشي Gamsci عندما تعيش الإنسانية عهدا فيه القديم لم يمت والجديد لم يولد، تظهر في المجتمع وفي السياسة أعراضا مرضية. لا يمكن التنبؤ لما سيتمخض عنها ولعل ذلك من مميزات عصرنا، حيث الإنسان يعجز على التنبؤ بمستقبله وتحديد مصيره، وأصبح يُطلب منه قدرات جديدة تتمثل في التصرف في اللاّيقين والتهيؤ بوميّا لمجابهة المفاجئات.

واللايقين Incertitude أصبح من معضلات العصر لأنه حكم على العلوم الإنسانية بالفشل ، وفرض عليها الثورة الأبستمولوجيّة لفهم الواقع المتغير والسيطرة عليه، فالعلوم الاقتصادية لم تتنبأ بأزمة 2008 ، والعلوم الإنسانية لم تنبأ للثورة الاجتماعية، والعلوم السياسية لم تتنبأ لظهور النظم الشعبوية ولتطلعات الجماهير إلى الديمقراطية الحق.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP