الجديد

“رمضانيات”: يكتبها خالد شوكات:” الشيخ الثعالبي وخرافة الماسونية” /8 من 30/

خالد شوكات

لقد لاحظت في اطروحات بعض الباحثين التونسيين المهتمين بتاريخ الحركة الوطنية خروجاً صارخاً عن القواعد العلمية التي يفترض في كل باحث في علم التاريخ ان يتصف بها، لعل من ابرزها اصرار هؤلاء على ما يشتم منه تصفية حسابات ايديولوجية مع بعض الرموز الوطنية من خلال “الحطّ من شأن بعضهم” (الشيخ عبد العزيز الثعالبي) أو “تمجيد بعضهم” (الزعيم بورقيبة)، وهذا النوع من الكتابة ينسب خطأ للتاريخ، وهو أقرب الممارسة الأيديولوجية والسياسوية منه إلى البحث العلمي النزيه والموضوعي، وهنا بعض الملاحظات لهؤلاء لعلهم يراجعون تصريحاتهم ومقالاتهم:

1- العلاقة بين الشيخ عبد العزيز الثعالبي والزعيم الحبيب بورقيبة، ليست بالشكل الذي تريد تصويره، ففي رأيي لم يكن الزعيم بورقيبة الا امتدادًا لرواد الحركة الوطنية الذين سبقوه وعلى رأسهم الشيخ الثعالبي، فهؤلاء ليسوا سوى نقاطا متتالية لخط الحركة الوطنية الاصلاحية التونسية.

2- لقد غادر الشيخ الثعالبي البلاد التونسية سنة 1923 ولم يكن الزعيم بورقيبة حينها قد ظهر على الساحة، وعندما عاد الشيخ الثعالبي من منفاه في جويلية 1937 كان في مقدمة مستقبليه الزعيم بورقيبة ورفاقه في الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد، وبالتالي فان من الأخطاء الشائعة التي يبدو ان مؤرخا كسي لطفي الشايبي واقع فيها، ان الزعيم بورقيبة قد انشق عن حزب الشيخ الثعالبي، فالزعيم بورقيبة انشق عن اللجنة التنفيذية بزعامة الشيخ محي الدين القليبي، عندما دعا رفاقه الى مؤتمر 2 مارس 1934 في دار ابن عياد في قصر هلال، وقد صدرت اعمال هذا المؤتمر في كتاب كانت اول صفحة فيه مخصصة لصورة الشيخ عبد العزيز الثعالبي مع عبارة “مؤسس الحزب الحر الدستوري ردّ الله غربته”، وهو ما يعني ان الحزب الذي ساهم الزعيم الحبيب بورقيبة في تأسيسه كان يعتبر الشيخ الثعالبي مؤسسا للحزب.

3- إيحاءات البعض من ان حادث الدريبة لسنة 1905، الذي اعتدى فيه بعض الرعاع والدهماء عاى الشيخ الثعالبي ومطالبتهم بمحاكمته، له صلة بانتماء الشيخ الثعالبي “الماسونية” قمة في الافتراء المنسوب ل”العلمية” ول”التاريخ” زيفا وبهتانا، وهو قلب مريع للحقائق التاريخية، فحادث الدريبة هو برأي المؤرخين المنصفين والنزهاء أهم المحطات النضالية التي أبرزت الشخصية “الاصلاحية” للشيخ عبد العزيز، الذي لطالما جمع في نضاله طيلة نصف قرن بين المقاومة الفكرية الداعية الى تحرير المرأة وتجديد الدين وارساء قيم الحرية والمواطنة والحكم الرشيد، والمقاومة السياسية الداعية الى تحرير البلاد من ربقة الاستعمار، وقد دفع الشيخ غاليا فاتورة نضاله الفكري من خلال تهجّم المحافظين والمنغلقين وقوى الرجعية الدينية عليه، كما هو حال الشيخ الطاهر الحداد وسائر المصلحين، كما دفع فاتورة نضاله السياسي عبر تجارب السجن والنفي التي لقيها حتى وفاته رحمه الله سنة 1944.

4- إن من واجب المؤرخ ان لا يبحث الماضي من خلال الاحكام السائدة في الحاضر، وهو ما ينطبق على المعالجة المختلة التي اعتمدها البعض لموضوع “الماسونية”، فالماسونية التي تلاحقها انطباعات سيئة وسلبية اليوم، خصوصا في العالم العربي الاسلامي، جراء علاقتها المشبوهة بالصهيونية، لم تكن صورتها هكذا خلال القرن التاسع عشر او النصف الاول من القرن العشرين. لقد كانت الماسونية حينها (انظر مثلا كتاب الحرب والسلام للأديب الروسي الكبير ايو تولستوي) حركة تحررية أممية تدعو الى الحرية والسلام وحوار الأديان والمساواة بين البشر، ومن هنا تمكنها من استقطاب عدد من الشخصيات الفكرية والسياسية في مختلف أنحاء البلاد العربية الى محافلها، ومن هؤلاء الشيخ جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده وغيرهم، وقد يكون الشيخ الثعالبي تواصل مع بعض النشطاء الماسونيين من مسيحيين ويهود من هذا المدخل، فقد كان من دعاة الحوار، وكان له مجلس للحوار الأدبي والفكري ذائع الصيت في بغداد عندما حط رحاله هناك بدعوة من الملك فيصل الاول خلال النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، حتى قيل انه ثاني اهم مجلس في العاصمة العراقية بعد مجلس العلامة الالوسي (انظر مقالة الكاتب حول رحلة الشيخ الثعالبي البغدادية).

5- وما ادعو اليه كل من يرغب في البحث عن الحقيقة، لا ليّ عنقها خدمة لاهداف ايديولوجية حينية، ان يتعمّق في دراسة الحركة الماسونية بطريقة علمية، ومن مباحثها المهمة موقفها من الحركات القومية والوطنية، اذ لا اظن الزعيم بورقيبة ناصبها العداء – ان كان ناصبها فعلاً- من منطلق تهديدها للقومية التونسية، الامر الذي يتناقض أصلا مع شبهة تعاطفها المزعوم مع “الصهيونية” التي هي بلا ريب حركة قومية بامتياز. اما عن الصلات التي اقامها الثعالبي مع بعض الفرنسيين، او بعض التونسيين اليهود المتفرنسين من قبيل سيزار وغيره، وهو امر ميّز سير جميع الزعماء الوطنيين على اختلاف اتجاهاتهم دون القدح في ذممهم او وطنيتهم، فقد كان للزعيم بورقيبة رحمه الله أوثق الصلات مع كثير من الشخصيات الفرنسية، من بينهم من اشتهر بدعمه لقضايا التحرر الوطني وتقديمه تضحيات في سبيل ذلك.

6- واما الإشارة الى ان الشيخ الثعالبي لم يحصل على شهادة ” التطويع” من جامع الزيتونة المعمور، فأمر – ان ثبت دائما- فلا ينقص من قيمة الشيخ شيئا، فمن جهة لم تكن مسألة الشهادات العلمية مطروحة كما هي الان، فاغلب زعماء الحركة الوطنية ( الحامي، حشّاد، …) لم يكونوا من حملة الشهادات، ومن جهة ثانية فقد جرى التعامل مع الشيخ الثعالبي الذي لم تكن مناقبه في الكتابة والخطابة خفيّة على احد، باعتباره ليس فقط رمزا من رموز الامة التونسية، بل هو احد رموز الامة العربية والإسلامية، وقد دعي الى العراق من قبل ملكها ليكون اهم مدرسي جامعة آل البيت (1926-1931)، كما دعاه مفتي القدس الحاج امين الحسيني ليكون احد ابرز منظمي المؤتمر الاسلامي الاول (1931)، واما الهمز من جهة انه لا يتقن الفرنسية فهذه ليست بالنقطة التي تثلب مسيرة الرجل الذي كان كغالبية التونسيين متحدثا بلغته الوطنية والقومية، حتى قالت العرب ان الامة لم تنجب خطيباً بلغتها كما كان الشيخ الثعالبي طيّب الله ثراه.

7- واخيرا أقول ان المنهج التاريخي الصواب إنما يقتضي اقحام العلم في مشاريع تشويه زعماء الحركة الوطنية، فهم اليوم في ذمة الله والتاريخ، رحمهم الله جميعاً، كانوا بشرا يخطئون ويصيبون، نقدّر عطاءهم للوطن، ونستفيد من تجاربهم جميعا، ونترك خلافاتهم للماضي، ونأخذ من أثرهم الطيب للحاضر والمستقبل، وننظر في انفسنا وحالنا ما قدمنا وما سنقدم، وفيما أخطأنا وفيما أصبنا، ونترحم على شهداء أمتنا على مرور الأجيال.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP