الجديد

فاجعة القيروان .. شبابنا ينتحر !

هشام الحاجي

لا يمكن بكل المقاييس اعتبار وفاة ستة  أشخاص معا (ولاية القيروان)  بسبب تسمم كحولي حدثا عابرا نكتفي بالحديث عنه ضمن “الوقائع المتنوعة ” خاصة إذا ما تنزلت هذه الوفاة ضمن احتفالات عيد الفطر و وقعت في منطقة تعتبرها الأدبيات السياسية الرائجة “منطقة مهمشة” كما أنها جاءت لتكشف عن انسداد الأفق أمام شباب المناطق الداخلية، الذي اختار الانتحار بطرق شتى، من قوارب البحر الى الانضمام للجمعات الارهابية الى “شرب الكحول المسمومة”.

تملك الحادثة في ذاتها و في سياق وقوعها كل الأسباب التي تجعلها تتحول إلى قضية إجتماعية بل قضية راي عام بامتياز – دون مزايدة أو تهويل – بدءا من تعارضها كحادث مؤلم مع ما يدعو اليه الإحتفال بعيد الفطر من فرح وصولا إلى الوضع الإجتماعي لابطالها الذين تحولوا إلى ضحايا .

هذا دون أن ننسى ما فيها من الناحية الانطولوجية من تعارض بين مبدأ اللذة الذي تجسده ممارسة شرب الخمر و المسكرات و ما تهدف إليه من بحث عن لذة و لو مؤقتة و بين مبدأ الموت الذي كانت له الكلمة الأخيرة في واقعة الحال.

و في تقديري فإنه من المهم تنسيب التعاطي مع الحادثة و والابتعاد عن ربطها بالظرف الذي تعيشه تونس في السنوات الأخيرة لأن شرب الكحول المعد لاستعمالات أخرى غير الشراب له جذوره و هو ممارسة قديمة إذ لا يكاد يخلو حي سكني من”زبراط ” دفعه إلى هذه الممارسة في الغالب سببان و هما قلة ذات اليد أو البحث عن ” المتعة القصوى ” لأن الدخول في حالة سكر و ابتعاد ظرفي عن الواقع غالبا ما يرتبط بدرجة تركيز الكحول في الخمر أو المشروبات الروحية.

و “التزبريط” ممارسة محفوفة دائما بالمخاطر و هي شكل من أشكال “الاحتراق ” الذي يصيب أعضاء الجسم و يمكن إدراجه في جدول الاحتراق الأخرى التي يعاني منها شبابنا كالحرقة التي يجتاز من خلالها الحدود خلسة أو الانتحار حرقا .

لا يمكن إنكار العوامل الإجتماعية و التي لم تتحسن للأسف و ظلت على حالها في أغلب المناطق إن لم تكن قد تدهورت.

كما تحيل الحادثة بالضرورة إلى علاقة المجتمع التونسي بالخمر و هي علاقة ملتبسة و غير واضحة. لا نميل إلى التطرق للمسألة من زاوية دينية بل من خلال التجاذبات الإجتماعية حول الخمر و التي تتجسد في عدة مستويات. فالقانون التونسي لا يخلو في هذا الصدد من تناقضات من بين مظاهرها أن بيع الخمر مباح في بعض نقاط البيع و لكن نقله قد يعاقب عليه القانون.

هناك أيضا مسألة ما يحيط ببيع الخمر من قيود و من ” ألاعيب قانونية و تجارية “. القيود المفروضة ظاهريا تمثل الغطاء للبيع الموازي و المعروف بالبيع خلسة و هي ظاهرة تتنامى كلما وقع التضييق على البيع القانوني و تكفي الإشارة هنا إلى أن مدينة القيروان التي يمنع ونظرا لتنميطها كمدينة ذات ظاهر ديني من بيع الخمر فيها يوجد بها مئات نقاط البيع السري للخمور.

و وراء ازدواجية الدولة هدر لموارد إضافية للدولة، ذلك أن الخمر يوفر منذ تصنيعه موارد جبائية للدولة و الخمور التي تروج خارج المسالك العلنية تمثل إلى جانب مخاطرها الأمنية خسارة لربح ممكن لخزينة الدولة علاوة على أن التضييق على البيع القانوني لا يمكن إلا أن يفتح الباب أمام البحث عن “التزبريط ” و غيره من الأشياء التي قد تؤدي جرعة مسمومة او زائدة منها إلى الموت كما حصل في القيروان في عطلة العيد  و قد يحصل في مناطق أخرى إذا لم نحسن استخلاص الدرس.

سيقضي مرة أخرى شبان تونسيون نحبهم احتراقا بكحول بحثوا من خلالها عن لحظات نشوة مؤقتة فخاتلهم و أخذهم إلى حيث لا يمكن الرجوع أو في عرض البحر أو انتحارا و ستسود المجتمع حالة من التأثر المؤقت و يتهرب الكثيرون من خلال الانخراط في جدل التحليل و التحريم الدينيين عن رؤية المشاكل مباشرة لأن هذه الحوادث تكشف اختلالات البناء الإجتماعي في عمقها و تكشف خاصة عجزا لافتا في وضع سياسات لمواجهة هذه الاخلالات.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP