الجديد

راشد الغنوشي .. من معركة الى أخرى !

المهدي عبد الجواد

يخوض راشد الغنوشي، إحدى أهم معاركه وآخرها على الإطلاق. فهذا “الشيخ الثمانيني” الذي ألف المعارك منذ نهاية الستينات، يبدو أنه يتلذّذُ بخوض الحُروب، وكأنه يزداد بها قوة وصلابة كلما كان مُحاصرا، ويجعلها عنصر توحيد تنظيمي لحركته، كلما اشتدت وأصبحت تمس من رمزيته خارج وداخل “الجماعة”.

لكن ما يعيشه هذه الأيام، له خصائص لم يعرفها في معاركه السابقة، فعلاوة على ان المعارك متعددة، منفتحة على واجهات متعارضة داخليا وخارجيا، فإن راشد الغنوشي لم تعد له نفس هوامش المناورة، التي ضاقت بفعل المنصب الجديد من جهة، وإكراهات موازين القوى الوطنية والإقليمية والدولية من جهة ثانية، وتمرّد الأبناء داخل تنظيم النهضة نفسه من جهة ثالثة.

وطنيا .. على كل الجبهات

اشتغل راشد الغنوشي، في ترشحه لمجلس نواب الشعب، و تقدمه لمنصب الرئيس، على الرمزية، إذ كان يبحث من خلال ذلك على “الاعتراف” به كشخصية وطنية، ونحسبُ أنه أراد ان يدخل من خلال منصب الرئيس إلى “نُخبة النّخبة” من الشخصيات الوطنية، وان يلعب من خلال ذلك دور “كبير القوم” يُقرّب بينهم عند الاختلاف، ويجمع بينهم عند الفُرقة. دور أغراه به الباجي الرئيس الراجل الباجي قايد السبسي و شجّعه عليه غياب “الشخصيات الوطنية” ذات الكاريزما و الهيبة. لكن تطور الأحداث داخل المجلس، يؤكد أن أكثر خصوم الغنوشي لؤما، لم يتخيّل له هذا المصير.

فقد تحوّلت ساحة المجلس منذ ترأس الغنوشي له، الى فضاء صراع ومناكفات، لم يشهد فيها مستوى الخطاب ترديا شبيها به، شتائم وعنف وتكفير و اعتصامات، تحول فيها راشد الغنوشي الى “شاهد” على ما تُعانيه النّخبُ السياسية من “فقر معرفي وأخلاقي” بل صار راشد الغنوشي “حقا و باطلا” عاملا من عوامل توتير الجوّ وعنصرا مُعطّلا للسير العادي لأشغال المجلس.

هذا المنصب الذي جلب له متاعب لم يكن ينتظرها، ينضافُ اليه التوتر مع الرئاسات الأخرى في الحكومة والجمهورية. إذ أن الائتلاف الحكومي “غير صاف” يُناصبُ فيه نواب حركة الشعب راشد الغنوشي العداء بصفته “زعيم الإخوان في تونس”، وهو ما يؤثّر على عمل الحكومة من جهة وعلى دور راشد الغنوشي في دعمها، ويكفي ان نتذكر تلكؤ الحركة في الإمضاء على الميثاق الأخلاقي وفي تمسكها بتوسيع الائتلاف الحاكم، وخاصة في تشكيلها لأغلبية برلمانية مختلفة على الأغلبية الداعمة للحكومة، حتى نعرف حجم المأزق السياسي الذي يجد راشد الغنوشي نفسه فيه.

على أن طبيعة العلاقة مع شخص رئيس الجمهورية، تبقى “الثالثة المرفوعة”. فقيس سعيد لا يترك فرصة دون التذكير بكونه الرئيس الأوحد لتونس، دافعا بخطاب طهوري نحو “تأثيم” مجلس النواب ودوره، مهددا بتحميله المسؤولية على الفشل إذا رفض مبادرات “ينوي تقديمها”.

معركة “الشيخ” مع “الأستاذ” هذه تُحرجُ الغنوشي، إذ تنزع عليه غطاء كان يحتمي به عندما كان الباجي فاعلا رئيسيا في السياسة الوطنية داخليا وخارجيا. ثم هي معركة ليس لدى قيس سعيد شيئا يخسرُه فيها، وهو الطارئ المستجد على السياسة عكس راشد الغنوشي الذي يجرّ وراءه أكثر من نصف قرن من العمل السياسي، الذي لا نحسبُه مستعد لخسارته بسهولة.

تنظيميا .. صراع الخلافة

يخوض الغنوشي هذه الحرب الثلاثية الأبعاد، في البرلمان و الائتلاف الحاكم و الرئاسة، وهو يفتقدُ للمرة الأولى للسند داخل حركة النهضة.

فعكس كل المعارك السابقة لا يحظى الشيخ بإجماع “الصحابة”، فقد كبُر الأبناء و تفرقت نوازع الحواريين، وصارت للبعض منهم طموحات مشروعة في خلافة الأب المؤسس. ولئن كانت هذه الأطماع خفية، فإنها صارت علنية وفي وسائل الإعلام.

لا يبدو أن الشيخ المؤسس مُرتاحا لترتيبات خلافته في المؤتمر القادم للحركة، و لموازين القوى داخلها، لذلك حلّ المكتب التنفيذي لاحتكار سلطة القرار، و خاصة للهيمنة على خارطة الطريق المقبلة، التي ترسم ملامح ما بعد “الغنوشي”.

و قد نجح الشيخ في استعمال الحروب الخارجية، لإعادة الوحدة الداخلية. إذ ان قيادات الحركة، حتى المحسوبين منها على “المعارضة” سارعت الى إعلان مساندة الشيخ في ما يتعرّض له من هجومات، وما يتعرض له من “اغتيال سياسي”، وفق تعبير وزير الصحة عبد الطيف المكي، وهو “المعارض الشرس” للغنوشي.

و لكن الغنوشي يُدرك جيدا ان هذا التظاهر بالتوحد خلفه ليس إلا إعلان هدنة مؤقتة قبل معركة المؤتمر و الخلافة. لذلك سيظل هذا الأمر مفتوحا على احتمالات قد لا تسرّ الشيخ. الذي يبقى رغم كلّ شيء المُمسك بكل عناصر القوة داخل الحركة المتجسدة في الأموال والعلاقات الخارجية، وهما عنصران كفيلان بتحديد نتائج الصراع الداخلي على الخلافة بشكل يضمن هيمنة الشيخ على الحركة حتى بعد انسحابه.

إقليميا .. الاختبارُ الليبي

لم يُخف راشد الغنوشي منذ عودته من المنفى سنة2011، انخراطه في الحلف القطري/التركي/الاخواني، ولم يُعلن الا متأخرا و بشكل “باهت” عن قطع علاقته بتنظيم الإخوان المسلمين.

ولقد كلّف هذا الاختيار الشيخ و حركته كثيرا من الخسائر على مستوى وطني. إذ ان مُعظم النّخب السياسية والمدنية والمنظمات الفاعلة، لا تُخفي عداءها المُستحكم لهذا الحلف.

ورغم ان الباجي قائد السبسي وفّر لحركة النهضة غطاء سياسيا كبيرا، ودفعها الى “الانخراط” في الحراك التاريخي الوطني، حاثا إياها على رسم حدود فاصلة تُبعدُها على “المحاور” فإن “الطبع” ظل غالبا. ترجمته الاتصالات الأخيرة التي قام بها “رئيس حركة النهضة/مجلس نواب الشعب مع الأتراك والسراج، وهو ما فتح عليه أبوابا من الانتقاد لم يكن ينتظرها.

وسيكون يوم 3 من جوان القادم، يوما حافلا بالخُطب التي “ستنال” من صورة الشيخ ومن هيبته، في شكل مُحاكمة تُبثّ على شاشات التلفاز، بمناسبة جلسة عامة يقول جماعة الغنوشي أنها مجرد حوار حول “الدبلوماسية البرلمانية”، في حين يرى خصومه أنها “مساءلة للشيخ” حول ارتباطاته الخارجية..

مما تقدم يؤكد مرة أخرى إن راشد الغنوشي مازال لاعبا رئيسيا في الساحة السياسية. وان كل الفاعلين السياسيين يُكيفون مواقفهم ويحدّدون مواضعهم بالنظر إلى ما يقوم به “الشيخ”، هذا يجعله في قلب المعادلة السياسية.

ففي الوقت الذي يُريد فيه أكثر من طرف تحجيم دور “الشيخ”، يزداد الرجل قوة و تأثيرا في المشهد السياسي.

لقد وضع الرئيس قيس سعيد الغنوشي “رمزا للشرعية” ووضعت عبير موسى الشيخ “رمزا للربيع العربي”، وهما صفتان لا نعتقد أن الشيخ يخجل منهما.

إن انتقاد الغنوشي الدائم، مثل مدحه الدائم، يخدمانه لأنهما يجعلاه حيّا قويا في الأقوال والمقالات والشاشات.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP