الجديد

العنصريّة في أمريكا جريمة دون إثبات ولا عقاب

محمد بشير ساسي

لا تكادُ حادثةٌ عنصريّة تهدأ حتى تثور أخرى مدوية، لتحرّك معها المياة الراكدة الآسنة وتفوح ريحها بين أرجاء عالم مايزال يعيش على وقع وباء كورونا المرعب الذي فضح بدوره البشرية المتوحّشة في لحظة فارقة كانت البشريّة في حاجتها لتعديل بوصلتها الأخلاقية والبحث عن “صكُوك الغُفران” لمحور آثار تاريخها المُظلم من أثر العداء والكراهية والحروب. وفي كلّ مرة ظل السؤال الحضاري المحيّر والمرهق يُطرح على نطاق واسع بين روّاد الفكر السياسي المعاصر وفلاسفة العصر الحديث وحتى المؤرّخين: هل نحيا حقا في نظام عالمي عنصري؟
في إجابتها عن هذا الهمّ الذي ما يزال يثقل كاهل الضمير الإنساني، تقول الكاتبة كاتي لوكوود في تقرير نشر العام الماضي على الموقع الإلكتروني: E-International Relations المختص في السياسة الدولية: لا يخفى على أحد أنّنا نحيا في نظام عالمي عنصري للغاية، ولكن ما الذي نعنيه بالعنصرية”؟
إنّ العنصرية هي مجموعة من الممارسات والقواعد التي تدعم نوعا معينا من التسلسل الهرمي أو نظام امتياز وعدم مساواة، وهو ما يتضح في طبيعة الاقتصاد العالمي، والاستخدام الدولي للقوة، والمعايير “الإنسانية” المزعومة، وقبل كلّ شيء، ليس العِرق تصنيفا محايدا أو موضوعيا، ولكنه شكل اجتماعي صاغته السّلطة.
لقد كان المنطلق دائما في طرح قضية “العنصرية” هو تلك النظريّة “المشوهة والقائلة بأنّ “الرجل الأبيض يحمل عبء العالم” وهي في الواقع نظرية متأصلة وموغلة في القدم، حتى قبل دعوات الإصلاح في القرون الوسطى، التي تسببت بقيام الحروب الدينية في أوروبا، ورسخت مفهوم التمييز العنصري كواحد من أشد الظواهر خطورة على البشرية، حيث كان الدافع الرئيسي خلف مجازر الإبادة التي ارتكبها البيض بحق السكان الأصليين في أمريكا، وما لحق الأفارقة من عذابات الاتجار بالرق.
ورغم مُرور القرون والأعوام وتبدّل الأزمنة والحقب، تأبى “القناعات العنصرية” أنْ تبقى حبيسة الماضي أو أن تتغيّر وظلّت تلقي بظلالها على الحاضر والمُستقبل، تلك القناعات ضربت جذورها في عُمق التربة الأوروبية والغربية بصفة عامة، حيث دعمها الفكر الكنسي المنُحرف وحتى التيارات الفلسفية التنويرية الحداثية لاحقاً التي بَنتْ ظاهرة العنصرية على مستوى المواقف الذهنية قبل أن تتحوّل وتصبح سلوكا اجتماعياً وفعلا متشدّدا.
ويفسّر مفكّرون على غرار الباحث والأكاديمي العراقي كرار حيدر الموسوي، أن البذور الثقافية التي أسست لفلسفة التمييز العنصري في الغرب تعود إلى كتابات ومواقف بعض الفلاسفة التنويريين الأوروبيين، التي روجت لكون الحياة مبنية على تعارض وتناحر الأجناس البشرية، أي صراع بين الأنواع المتحضرة ضد الأنواع المتخلفة، وتغاضت عن حقيقة السيرورة التعدديّة للحضارة البشرية.
ويضيف الدكتور الموسوي أن هؤلاء الفلاسفة أمثال الألماني (إيمانويل كانط)، قاموا ببناء رؤيتهم على قاعدة حتمية التخلف البنيوي لجميع الثقافات الأخرى غير الأوروبية، وتم تقسيم الناس إلى بشر وأشباه بشر بحسب نظرية الانتخاب الطبيعي، مما وفّر البيئة لظهور العنصرية والأفكار اليمينية المتشددة لاحقاً في أوروبا، مثل النازية والفاشية والصهيونية، وأحدث فكراً قومياً شوفينياً، تسبّب في قيام نزاعات إقليمية وأشعال حروب عالمية.
كما أنّ هناك من روّج من خلال كتاباته مثل الفيلسوف والاقتصادي الأسكتلندي (ديفيد هيوم) إلى أن الزنوج وكافة أنواع البشر الأخرى، هم بالفطرة طبيعياً في منزلة أدنى من مستوى الإنسان الأبيض، وهي أساسا نظرة تحقيريّة تؤمن بتفوق الشعوب الأوروبية على دونها من الشعوب، وتطور العرق الأبيض على ما سواه، مما جعلت الغرب عموماً يعطي نفسه الحق في التحكم بمصير الشعوب والأمم الأخرى، ونهب مقدراتها لتعمير ونهضة بلدانهم.
وبلا شك حيث تكون العنصرية تغيب العدالة بين البشر، ويفتقد الناس حقوقهم، لتسود العلاقات على أساس مفاهيم الاستعلاء والغطرسة والفوقية، وهي أبرز الشرايين التي تغذي الاستبداد والقهر والإرهاب والتطرّف والكراهية، وهي التشوّهات الأخلاقية التي وجدت لنفسها موطأ قدم حتى داخل حدود الغرب وتحديدا في الولايات المتحدة الأمريكيّة القوّة التي تتزعمه وتحرّكه وترسم سياساته…
فما تَعيشُه شوارع أمريكا اليوم من مظاهرات حاشدة احتجاجا على مقتل جورج فلويد مختنقا بشكل وحشي ومهين على يد ضابط الشّرطة الأبيض ديريك شوفين في إحدى ضواحي مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، كان نتيجة حتميّة إزاء حالات الازدراء وكومة الجرائم العنصرية التي ظلّت دون إثبات ولاعقاب، رغم كلّ التضحيات التي قدمها رموز كبار عبر التاريخ على غرار (أبراهام لينكون) الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة المؤيد لإلغاء العبودية يصدر مرسوما بإلغائها وتحرير السود في الولايات الجنوبية.
وكذلك الرئيس (ليندون جونسون) الذي يوقع قانون الحقوق المدنية الذي يعتبر أحد أهم القوانين في تاريخ الولايات المتحدة، خاصة بالنسبة لنضال السود من أجل الحصول على حقوقهم كاملة كمواطنين. ومن بين القائمة الطويلة من الشخصيات النضالية ضد العنصرية في أمريكا يبقى الزعيم (مارتن لوثر كينغ) الحائز على جائزة نوبل للسلام، العلامة المضيئة خلال المسيرة الطويلة في محاربة هذا الوباء الإجتماعي، وهو صاحب الجملة الشهيرة خلال خمسينيات القرن الماضي: إن أعمال الشغب هي لغة غير المسموعين، فليس هنالك شيء اسمه نضال لأجل حق صغير، أو ظرفي أو مؤقت، بل هناك النضال الدائم لأجل إنسان، خلقه الله حرا ويجب أن يعيش حراً وكريماً. 

و بما أن العادة إذا تتكرّر ترتقي إلى مصاف القانون، فذلك وفق دارسين للتاريخ الأمريكي، ينطبق على تراث الرقّ والذي ينظر إليه بمثابة العرف الإجتماعي الثابت والإرث الباقي مادام للبيض نزعة الشعور بالاستعلاء، وأنهم أفضل من السود كما يؤمن بذلك البروفيسور الأميركي من أصل أفريقي، (موليفي كيتي أسانتي) أستاذ الدراسات الإفريقية الأميركية بجامعة تمبل في مدينة فيلادلفيا، دون إنكار أنّ الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية انتزعوا حقوقا لم تكن متاحة لهم سابقاً مثل تقلد مناصب رفيعة في البلاد كتولي كولن باول وكوندوليزا رايس منصب وزير الخارجية الأميركية بالاضافة إلى جلوس باراك أوباما على كرسي البيت الأبيض.
وحتى نقترب أكثر من فهم القضية ونلامس الواقع، هناك اعتقاد مشترك بين عديد المراقبين، أن اقتحام ظاهرة العنصرية المقيتة أسوار المؤسسة الأمنية يعدّ معطى مرعبا لما يرتكبه الأعوان البيض من فظاعات نادرا ما ينالون عقابهم المستحق بسبب تحيز المحلفين وقصور النظام القضائي وهو ما تسبّب في تفاقم ظاهرة “العنف الشرطي العنصري” بدلا من انحسارها. وكما تُشير بيانات صادرة سنة 2018، فإنه بين 992 واقعة قتل ارتكبتها الشرطة عام 2018،
كان نصيب السود منها 229 حادثة بنسبة تقترب من الربع، ناهيك عن كون الكثير من هذه الحوادث وقعت ضد أشخاص عُزّل أو تخلّلتها ملابسات مثيرة للجدل. ومن حظ أمريكا العاثر كما يبدو، أنها تُحْكَمُ اليوم من قبل رئيس على شاكلة دونالد ترامب بعقلية كارثية، وبصورة سياسي يحمل في يده الإنجيل ويهدّد المحتجين ضد مقتل جورج فلويد بقوة السلاح. فالكل يتذكر أنه قاد في يوم ما حملة تشكيك في “أميركية” الرئيس السابق باراك أوباما وادعى أنه غير أميركي، وأنه ولد خارج الولايات المتحدة، وتحدّى أوباما بأن يُظهر شهادة ميلاده.
وقبل حوالي أربع سنوات وفي خضم الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2016 عبّر ترامب الذي كان حينها مرشح الجمهوريين بوضوح عن عدم وجود “ما يخسره” تجاه الناخبين الأميركيين من أصول إفريقية، مضيفا أنّ المناطق التي يسكنها السّود قذرة وشديدة السوء. أما أولى الاعترافات بعنصرية ترامب فقد صدرت عن (أوماروسا مانيجولت) المكلفة السابقة في مكتب العلاقات العامة بالبيض الأبيض في كتابها “المعتوه”، مؤكدة أنه يستخدم كلمة “زنجي” كثيرا.
ثم كشفت تغريداته المثيرة للجدل، مواقف سياسية تتهكم على أصحاب البشرة السوداء من الأميركيين، حيث لم تسلم أربع نائبات ديمقراطيات بالكونغرس ينحدرْن من أقليات عرقية مختلفة من الرئيس “سليط اللسان”. كما هاجم ترامب شخصيات إعلامية ونجوما من عالم الرياضة، بالإضافة إلى القس آل شاربتون، وهو زعيم تاريخي في حركة الدفاع عن حقوق السود واصفا إياه بالمخادع الذي يكره البيض والشرطيين.
إذن الأزمة تضرب بجذورها في أعماق السياسة والمجتمع وحتى الأمن في الولايات المتحدة، وهي أزمة أكبر بكثير من حادثة مقتل جورج فلويد رغم بشاعتها، وأعمق من العنصرية البغيضة للشرطة الأميركية على وضوحها، والخوف كل الخوف الآن هو المزيد من إنهاك جسد المجتمع الأميركي المثقل بالجراح والآلام جراء عقدة اجتماعية أجبرت العدالة على أن تُدفن في حكم البراءة، وبات الرثاء ليس للضحية وحسب، بل للعدالة في بلد تروي فيه الوقائع حجم المسافة بين الشعارات المعلنة والواقع المعاش .. هناك في أمريكا اللون جناية، والدين تهمة، والعرق شبهة..

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP