الجديد

المشهد الليبي اليوم .. صراع تركي روسي حول شرق المتوسط

غازي معلى

المتابع العربي للشأن الدولي سابقا و حتى لأخبار بلده كان يقرأ ” لوموند” الفرنسية او “نيوروك تايم” الاميركية و اي صحيفة مستقلة بريطانية ، اليوم تغيرت الامور و المعطيات فلكي تتابع بدقة ما يجري في سوريا عليك بالإعلام الروسي، الذي اصبح بجميع اللغات، و لكي تفهم دقائق الامور في ليبيا الجارة، لديك كم هائل من الصحف و المحطات و المدونين الأتراك، يأتونك بالأخبار و المستجدات.

نعم ليبيا أخبارها و منذ شهور أصبحت تركية فبعد الاتفاق الامني و العسكري و كذلك اتفاقية الحدود البحرية بين تركيا و ليبيا تغيرت الموازين و انقلبت المعادلة على الاقل و لغاية الساعة في الغرب الليبي.

خلال أسابيع قليلة جدا انسحب حفتر و جيشه من كل المدن و القرى و المعسكرات التي استوطنوها منذ 14 شهرًا و اكثر،  و وصف الانسحاب تكتيكيا من حفتر و الحقيقة هو تكتيكي و لكن ليس لجيش حفتر بل لمرتزقة الفاقنر الروس، و بالاتفاق مع الجانب التركي، اذ أن أرتال الفاقنر و جيش حفتر تراجعوا إلى سرت و الجفرة و اجدابيا ، في وسط و شرق ليبيا عبر طرق مفتوحة دون ان تلاحقها الطائرات المسيرة التركية، التي كسبت معركة سماء غرب ليبيا و حققت انتصارا استراتيجيا.

توقف الانسحاب ” التكتيكي ” كما توقف زحف قوات الوفاق الليبية عند سرت هذه المدينة العجيبة التي قتل فيها القذافي و أعلن على أراضيها  انتهاء نظامه و استقرت فيها داعش لشهور لحين القضاء عليها من البنيان المرصوص الليبي و الدعم الدولي.

كما كانت المدينة، اي سرت في السنوات الأولى للقرن 19 مسرحا لمعارك مسلحة بين حكام طرابلس آنذاك و الأسطول الأمريكي.

اليوم توقفت عقارب الحرب الليبية عند محطة سرت، فجيش حفتر و المرتزقة الروس متمركزون داخل المدينة و قوات الوفاق مدعومة بقوات تركية بحرية و جوية يحاصرون المدينة.

الكل ينتظر ما سيؤول اليه التفاوض الروسي التركي حول تقاسم النفوذ في شرق المتوسط الذي تأجل بعد ما كان مبرمج الأحد الفارط في إسطنبول و لكن لماذا توقفت زمن الحرب عند محطة سرت هذا هو السؤال الجوهري و الأساسي؟

سرت و قاعدة القرضابية المجاورة هي حلم ساكن الكرملين منذ سنوات و كان مستعد ان يدفع فيها أموالًا و تنازلات و لكن اليوم يتواجد فيها عبر مرتزقته بقوة السلاح، فسرت هي المدينة الاستراتيجية في جنوب المتوسط، التي منها تكون على بعد ساعة و اكثر بقليل من اي مدينة و قاعدة عسكرية في شمال المتوسط، من تركيا إلى فرنسا.

و هذا الحلم الروسي الذي لم يحققه الاتحاد السوفياتي في زمان الحرب الباردة يسعى القيصر الجديد ان يثأر لإمبراطورية ابائه ومن الحروب الجديدة، هذا الحلم الروسي يصطدم بفيتو أمريكي واضح و ضوء اخضر للحليف التركي، بكبح جماح الأحلام الروسية باستعراض القوة او استعمالها أو مقايضتها بهدايا أخرى في سوريا او غيرها.

التركي يحقق بحملته العسكرية السياسية الدبلوماسية الاقتصادية هدفين بتحرك واحد، اما الاول فهو تكتيكي بالاستحواذ على السوق الليبية اولا و السيطرة على اطول شواطئ في جنوب المتوسط التي تطل على معظم دول شماله.

و الثاني استراتيجي حيث تصبح تركيا الحليف السني الأقوى لامريكا في المنطقة و حتى في المتوسط بعد اسرائيل طبعًا.

في ظل هذا المشهد على رقعة الشطرنج الليبية فبالنسبة لتركيا عدم الذهاب بعيدا في دعم حكومة السراج حتى تسيطر على الهلال النفطي من بعد حدود سرت و إلى حدود اجدابيا على الاقل يجعل من كل العملية العسكرية دون جدوى اقتصادية، لان طرابلس و حكومتها لكي تصبح السلطة المالية الوحيدة في ليبيا لابد ان تعطف الهلال النفطي المورد الأكبر لليبيا بالبنك المركزي، الذي هو تحت سيطرتها.

و اما على المستوى الاستراتيجي فعدم سيطرة تركيا او حليفها في ليبيا على سواحل برقة و إلى حدود درنة على الاقل يجعل الاتفاقية التركية الليبية في تحديد الحدود البحرية غير ذي معنى و يضعف الطموح التركي في لعب الدور المهم في حرب الغاز في شرق المتوسط.

اليوم  وفي زمن استراحة المحاربين في انتظار قرار السياسيين الذين يتحركون في جميع الاتجاهات لرسم مناطق النفوذ و دعم الحلفاء فالأسبوع الفارط كانت زيارة اربعة اهم وزراء أتراك إلى طرابلس ملفتة للأنظار من حيث الرسائل التي انجرت عن هذه الزيارة الاولى من نوعها لوفد وزاري رفيع المستوى إلى طرابلس.

فلم يكن مغاربيا و لا عربيا و لا اوروبيا بل تركيا أعقبها زيارة وزير خارجية إيطاليا إلى انقرة و التي سبقتها الخارجية الإيرانية و بالتالي تحاول تركيا رسم حدود تحالفاتها في شمال المتوسط و جنوبه.

ردة الفعل الدبلوماسية أتت بالتصريحات الفرنسية على التدخل التركي ببيانات منددة و كذلك محاولة محتشمة للبحرية الفرنسية اعتراض بواخر تركية متجهة إلى طرابلس و لكن الحركة الأهم للدبلوماسية الفرنسية هي دعوة الرئيس التونسي قيس سعيد في محاولة من ماكرون اكبر الخاسرين في ليبيا إلى محاولة جمع الحليف المصري إلى جانب التونسي لمحاولة اعادة التموقع في ليبيا من جديد.

و لكن ما تفقده بالسلاح لا يسترد باللقاءات و خاصة اذا ما كان الجار العربي الثالث لليبيا اي الجزائر تحاول ان تلعب بمفردها و تقود محاولة مصالحة ليبية بدعم تركي خفي او تنسيق غير معلن حيث زار أمس فائز السراج و عدد من وزرائه الجزائر العاصمة تليها زيارة مرتقبة لرئيس برلمان تونس و زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي و في هذا لدلالة واضحة حول التحالفات القادمة.

و في الوقت الذي يتصارع الأجانب حول الرقعة الليبية يموت ابناء فقرائها في حروب عبثية و يقطع أطراف ناسها بمخلفات الغام تركها المرتزق الروسي خلفه و تحولت الحرب الليبية من صراع ليبي ليبي حول السلطة و الثروة إلى حرب الدوائر الكبرى و المشاريع الأوسع ذاب فيها الصراع بين المشروع العسكري الانقلابي و حلم الدولة المدنية الديموقراطية، إلى مشروع ثانوي لا يهتم له الا الفصائل السياسية التونسية المتناحرة.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP