الجديد

الباجي قائد السبسي .. شذرات من سيرة ” البورقيبي الأخير

هشام الحاجي

يمثل الارتهان المتبادل بين الأحياء و الأموات أحد الأبعاد التي تميز الحياة الإنسانية إذ تكاد الحواجز بينهم تتحول إلى حواجز لا مرئية ما دام رحيل الإنسان عن الحياة الدنيا لا يعني نهاية ذكره و انتفاء تأثيره. و لا شك أن هذا التداخل يزداد وقعا حين يتعلق بمن اهتم بالشأن العام لأنه أثره و ارثه يتجاوزان فضاء العائلة و المنطقة التي أقام بها و المهنة التي احترفها ليشملا دوائر أوسع و أشمل. و تبدو الذكرى السنوية الأولى لوفاة المرحوم الباجي قائد السبسي التجسيد الأمثل لهذا الارتهان المتبادل خاصة و أنها تتساوق مع الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية و خاصة مع شعور يزداد انتشارا بأن كل المكاسب التي تمت مراكمتها و مراجعتها على امتداد ستة عقود و في ظل “جمهوريتين ” قد أصبحت مهددة.

و من الطبيعي أن تختلف التقييمات للدور الذي لعبه الباجي قائد السبسي خاصة و أنه يعتبر أكثر الذين انخرطوا في الشأن السياسي التونسي تقلدا لأنواع مختلفة من المسؤوليات و في مواقع متعددة علاوة على أن عودته للحياة السياسية تساوقت مع عشرية لم يشهد المجتمع التونسي مثيلا لها من حيث حدة الغليان الأيديولوجي و الانقسام الأيديولوجي و هو ما انعكس على طريقة نظر الكثيرين لأداء الباجي قائد السبسي و لمواقفه إذ بقدر ما اصطف خلفه مؤيدون و أنصار بقدر ما استهدفه خصوم و منافسون اشبعوه تهجما و تهما و لكن القراءة الملتزمة بأكثر ما يمكن من الموضوعية لسيرة الرجل و ارثه تبرز أن مسيرة الباجي قائد السبسي السياسية كانت متميزة و إلى حد ما استثنائية و هو ما جعلها تتوج في نهاية الأمر بطريقة غير عادية بالمرة.

فقد دخل الباجي قائد السبسي تاريخ تونس السياسي من أوسع أبوابه و ذلك لتميز اسهامه في المجال السياسي. هذا التميز كانت له جوانب شكلية و أخرى مضمونية. فمن الناحية الشكلية تنوعت مسيرة الباجي قائد السبسي من حيث المهام التي تقلدها لتشمل الحكومة و السلطة المحلية و السلطة التشريعية إلى جانب العمل الديبلوماسي و هو تنوع لم يتح لأي مشتغل بالشأن العام في تونس أن يعشه خاصة و أنه قد توج بتولي رئاسة الجمهورية عقب أول إنتخابات ديمقراطية و وشفافة تعيشها تونس. .

الباجي قائد السبسي هو الشخصية السياسية الوحيدة في تونس التي شهدت من موقع التأثير و الفعل ميلاد “جمهوريتين ” و صياغة “دستورين ” و هذا في حد ذاته دليل على التزام بخدمة الشأن العام و على تجذر الوعي الوطني لدى ” البجبوج ” كما أصبح التونسيون الذين أعادوا اكتشافه بعد 14 جانفي 2011 يرغبون في تسميته في إشارة إلى ما وجدوا في حضوره من شعور بالثقة و الاطمئنان في سياق مرحلة شهدت أحداثا غير مألوفة من حيث وقعها السلبي لعل من أهمها الاغتيالات السياسية و الإرهاب و عمل البعض على “مسخ ” كيفية تمثل الدين الإسلامي الحنيف بما أضحى يخشى منه حدوث قطيعة نهائية بينه وبين بني البشر.

لم يمنح ظهور الباجي قائد السبسي على الركح السياسي بعد رحيل الرئيس زين العابدين بن علي التونسيين و التونسيات اطمئنانا كاذبا بتسويق الوهم أو الانخراط في ” الصفقات ” السياسوية بل بسياساته و خطابه الواضح. و من هذه الزاوية يمكن الحديث عن عملية ” الاسترداد السياسي ” التي قام بها الباجي قائد السبسي للارث السياسي للحبيب بورقيبة و التي يمتلك للقيام بها شرعية أخلاقية و سياسية لا تتوفر في تقديري لغيره من الذين لا يمثل الحبيب بورقيبة بالنسبة لهم إلا ” أصلا تجاريا ” و ” أداة من أدوات المعارك السياسية ” .

فعلاوة على أن الباجي قائد السبسي قد كان من الناحية السياسية أحد تلاميذ الحبيب بورقيبة و المتأثرين به فإنه قد كان أول رجل سياسة تونسي يعيد التذكير في آخر سنوات حكم الرئيس زين العابدين بن علي بالارث السياسي لبورقيبة في كتاب متميز تضمن إشارات واضحة بأن بن علي لم يكن البذرة الطيبة للبورقيبية و بأن الواقع سيعيد استحضار الرؤية البورقيبية و هو ما تكفل به الباجي قائد السبسي بنجاح إثر عودته للحياة السياسية من أوسع أبوابها بعد 14 جانفي 2011.

و لا شك أن هذه العودة في حد ذاتها لا تخلو من بعض المفارقات في عدة مستويات بما يشير إلى تميز المسيرة السياسية لمؤسس حركة نداء تونس. ففي الوقت الذي كان ” تشبيب المشهد السياسي ” هو الكلمة السحرية التي يرددها الجميع يعود الباجي قائد السبسي صاحب الثماني عقود من العمر إلى المشهد و يتصدره و يفتك زمام المبادرة من زعامات كانت أصغر سنا منه و أكثر قدرة من الناحية النظرية على البذل و العمل. و في الوقت الذي كان الجميع منتشيا باكتشاف ” المناظرات الايديولوجية” يأتي الباجي قائد السبسي بخطاب بسيط و لكنه مؤثر و بمفردات يدركها الجميع لينفذ إلى أوسع القطاعات. .

هنا يبدو الباجي قائد السبسي تلميذ الحبيب بورقيبة الوفي لأن الخطاب البسيط لا يعني أن قائله يفتقد للثقافة العميقة بل العكس هو الصحيح لأنه يعني أن صاحب هذا الخطاب لا يبحث عن الظهور لمجرد الظهور بل لتحريك السواكن و دفع المواطنين للفعل. الباجي قائد السبسي كان أيضا رجل السياسة الوحيد من الذين عملوا بشكل أو بآخر مع “النظام السابق ” الذين فرضوا بقوة شخصيتهم و بايمانهم العميق بالديمقراطية أنفسهم على ” كهنة المعبد الثوري ” و فرضوا عليهم تنازلات جنبت البلاد الانزلاق نحو العنف و الفوضى لعل من أهمها إلغاء العزل السياسي و ذلك من خلال إعتماد الضغط السياسي و الحوار و هو أيضا ما كان يعتمده الحبيب بورقيبة في نضاله السياسي.

كان الباجي قائد السبسي  على طرفي نقيض مع الإسلام السياسي و لكنه أدرك أن التنافس السياسي الديمقراطي يحتكم إلى التوافقات و تطبيق القانون و هو ما جعله يبحث عن ” تسوية تاريخية ” مع خصمه السياسي الأبرز راشد الغنوشي دون ان يتخلى عن رؤيته للأشياء و عن إيمانه بضرورة المضي قدما في تحديث المجتمع و هو ما كرسه في دفعه لتخلي تونس عن تحفظاتها حول إتفاقية ” سيداو ” للمساواة بين المرأة و الرجل و في رد الإعتبار لمفهوم الحريات العامة و الفردية و في مشروع المساواة في الإرث الذي يمثل تمسكا برؤية الحبيب بورقيبة و تطويرا لها لأنه لا معنى لتبني شعارات إذا لم تسندها رؤية تؤمن بالمؤسسات و بالتطور و هو ما تعاطى به الباجي قائد السبسي في تفاعله مع الحبيب بورقيبة إذ لم يمنعه ما يكنه له من تقدير و إعجاب من أن يكون من أول الأصوات التي تعارضه من “داخل النظام “.

يكفي هنا التذكير هنا بالرسالة المفتوحة التي وجهها له يوم 12 جانفي 1972 عبر أعمدة جريدة “le monde ” و التي دعاه فيها إلى دمقرطة الحياة السياسية و الى ان البلاد في ” حاجة إلى إصلاح يأخذ بعين الاعتبار التحولات التي تعيشها تونس ” و يعتبر الايمان بالإصلاح و الديمقراطية أهم ما ميز مسيرة الباجي قائد السبسي و هو إيمان منعه من ” التهافت ” على كرسي الرئاسة لأنه مما يحسب للباجي قائد السبسي أنه لم يبحث رغم اشعاعه و علاقاته عن دخول قصر قرطاج عبر نوافذ السفارات و العواصم الكبرى كما فعل الكثيرون و هو ما يعكس تمثلا كبيرا لمفهوم السيادة الوطنية و للمؤسسات و على رأسها الدستور و إيمانا بمفهوم سيادة الشعب و هو ما لازمه إلى آخر أيام حياته و الجميع يذكر هنا رفضه لعرض “سياسي و مالي ” مغري من دولة عربية مقابل “الانقلاب على المسار الديمقراطي “.

مارس الباجي قائد السبسي السياسية بكل ما تفرضه من رباطة جأش و إيمان بأن ” الدوام ينقب الرخام ” و أيضا مناوارت و حسابات ضيقة و بسيطة و لكن بنبل لافت جعل الجميع يعجز على أن يجد في مسيرة امتدت لأكثر من ستين عاما شائبة واحدة سياسية أو أخلاقية أو مالية رغم “شغف ” الطبقة السياسية التونسية بالملفات و بادمان الإشاعات.

و في تقديري فإن الباجي قائد السبسي قد حافظ أيضا على نبل مهنة المحاماة و تكفي المقارنة بين أسلوبه و عدم توظيف عمله السياسي لإنعاش جانبه المهني بأداء و أساليب بعض المنتمين و المنتميات لهذه المهنة النبيلة الذين يتصدرون اليوم المشهد السياسي و البرلماني لندرك فوارق ضوئية في التعاطي مع الشأن العام.

و إذا كان من الصعب الإتيان على أهم الجوانب الإيجابية لمسيرة الباجي قائد السبسي فإن أهم ما سيحفظ فيها أن الباجي قائد السبسي قد صالح البورقيبية مع الفكر الديمقراطي و أنهى تعارضها مع مبادىء حقوق الإنسان و أعطاها مضمونا جديدا يجعل منها إرثا مشتركا بين التونسيين و التونسيات و يحول دون إعادة توظيفها في المعارك السياسية لأن ذلك لن يعطي إلا نتائج عكسية نتيجة محاولة عدم إحترام ما يفرضه الزمن من تطوير و ما يدعو إليه الوفاء التاريخي من ضرورة عدم التعسف على الوقائع التاريخية.

كان الباجي قائد السبسي ابنا بارا من الناحية السياسية بالحبيب بورقيبة و لكن ” عقوق الأبناء ” الذين أراد الإعتماد عليهم سياسيا هو الذي اضعفه و انهكه في آخر أيامه إذ بددوا و هدموا ما بناه في ظرف وجيز من الزمن و هو حركة نداء تونس التي لعبت دورا في التوازن السياسي قبل أن “يعبث ” بها صراع الأبناء و عدم قدرتهم على استحضار المبدأ البورقيبي الأساسي ” الدوام ينقب الرخام ” و في ذلك دليل على أن الباجي قائد السبسي هو آخر البورقيبين في تونس.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP