الجديد

ابن سلمان في تونس .. الأسباب والدلالات والتداعيات

أمين بن مسعود
في الجولة العربية لولي العهد السعودي محمد ابن سلمان أكثر من رسالة سياسية, وفي زيارته إلى تونس تحديدا أبعاد ومعان, وفي حضوره لقمة العشرين الكبار دلالات ومغاز. عادة ما يُنظر إلى الجولات الإقليمية على أنّها دليل نفوذ وقوة ناعمة وصداقات ومصالح شبه دائمة خارج الحدود الوطنيّة, إلا انّ جولة ولي العهد السعودي هذه المرة مختلفة دون التناقض عن هذا التقييم ومتباينة دون التضاد عن باقي جولاته السابقة واللاحقة أيضا.
يتحرك ابن سلمان بين الأقطار العربية معالجا للآثار السلبية التي خلفها ملف جمال خاشقجي على الرياض ومرمما لصورتها ومتداركا أيضا لبعض النقائص والهنات التي ظهرت خلال إدارة السعودية للملف/ الأزمة والذي جسّد خزانا استراتيجيا وبيضة قبان ثمينة للكثير من المراهنين.
وفي جولة ابن سلمان أيضا نفي تطبيقي لوجود أية محاولة تغيير في منظومة الحكم أو استخلاف على غير الطريقة التي حددتها هيئة البيعة, وفي الزيارات أيضا تقويض إجرائي لإشاعات “الإزاحة” ولسيناريوهات “الاطاحة” على عكس ما أصدرته وكالة رويترز مؤخرا, بل إنّ حالة الاستقرار والاستمرار تسمحان له بمغادرة الرياض لمدة اسبوع كامل والبداية في جولة إقليمية على أكثر من عاصمة عربية وأجنبية.
اختيار ولي العهد السعودي على الإمارات والبحرين كمحطتين أوليين خلال جولته, يتضمن رسائل وتنسيق, فأما الرسالة الأساسية فكامنة في انّ التحالف المشترك مع أبو ظبي والمنامة لا يزال على حالته من التماسك والوحدة في الملفات الكبرى خاصة منها التعاطي مع قطر وإيران وفي اليمن والموقف من تركيا ولئن صدرت تصريحات منوهة بأردوغان خلال قمة الاستثمار في الرياض فإنّ السياسة هي فنّ الممكن وأساليب التفاوض والسياسات لا تقاس بالتصريحات حول ملفّ بل بالتحالفات والمصالح والاصطفافات والانحيازات حيال قضايا وملفات.
وأمّا التنسيق فمتجسّد اساسا في ضرورة مزيد توحيد المواقف بين الأطراف الخليجية الثلاث تحضيرا للقمة القادمة في الرياض والتي لا تريد الأخيرة ان تحولها الدوحة إلى حصاد سياسي من حيث المواقف والمواقع عقب ملف جمال خاشقجي والذي لعبت فيه قطر دور راس الحربة من خلال قناتها الإخبارية “الجزيرة”. .
وهنا أيضا تتنزل قيمة الزيارة في شقها السياسي والاستراتيجي إلى القاهرة, والتي تابعت الأخيرة بقلق شديد التقارب السعودي التركي في ملف خاشقجي والغزل المتبادل في أكثر من محطة من محطات التعاطي مع القضية, ومن المنطقي للغاية أن تحمل الزيارة عنوانين بارزين وكبيرين الأوّل هو أنّ الموقف السعودي الرافض والمندد بالوجود التركي في جزيرة سواكن السودانية لم يتغيّر ولن يتحوّر جزئيا ولا كليا, والثاني أنّ مصر تبقى العمق الاستراتيجي للسعودية واي تعاط أو تقارب مع تركيا لن يكون على حسابها, هذا إن لم يكن لحسابها.
أمّا الزيارة إلى تونس, فلا بد من التوقف عندها مليا لا فقط لانها الزيارة الأولى التي يقوم بها الأمير محمد بن سلمان إلى تونس منذ أن تبوأ منصب ولاية العهد والعرش السعوديّ, بل أيضا لأنّها تقع ضمن منطوق تفسيري مخالف لمنظومات التحليل الخاصة بمصر والإمارات والبحرين.
ولن نجانب الصواب إن قلنا بأنّ الزيارة تأتي كاعتراف وامتنان سعودي للموقف التونسي من أزمة خاشقجي وهو موقف اتسم بالقدرة على التمييز بين الوفاء والالتزام بحقوق الإنسان وبحرمة الذات البشرية وبحقه في التعبير عن الرأي بكل حرية من جهة, وبين رفض بعض السياسات الساعية إلى ضرب واستهداف السعودية من خلال هذه البوابة من جهة ثانية.
فخلال مرتين على الأقل خلال شهر واحد, بادرت الديبلوماسية التونسية إلى إصدار هذا الموقف الذي وجد المعادلة بين “حرية الإنسان” و”حرمة الأوطان” ولئن عبرت بكل وضوح عن استهجانها لاستهداف الإنسان تحت مسمى حرمة الأوطان فقد عبرت في المقابل عن رفضها المطلق ل”اغتيال واستهداف الأوطان” تحت ذريعة حرية الإنسان.
ولانّ تونس تجسد الدولة العربية الوحيدة تقريبا المؤهلة بمقتضى رصيدها الاعتباري للحديث عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتجمع, فإنّ موقفها المزاوج للكفتين والموازن للمعادلتين – حرية الإنسان وحرمة الأوطان- جسّد رافعة وداعما رمزيا قويا للسعودية خلال مكاسرتها السياسية والإعلامية على أكثر من وجهة وجبهة.
والحقيقة التي لايمكن إنكارها أنّ تونس خلال ولاية الرئيس الباجي القايد السبسي انحازت بشكل ذكي ومحسوب ودقيق يوزن بميزان الذهب إلى السعودية في الكثير من الملفات والقضايا, فتونس التي انضمت إلى التحالف العربي في اليمن والتحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب بقيادة السعودية والتي أدرجت أعداء الرياض (حزب الله والحوثيين) على قائمة الإرهاب خلال اجتماعات وزراء الداخلية العرب بالعاصمة التونسية, والتي رفضت إلى حين كتابة هذه الأسطر إعادة العلاقات الديبوماسية كاملة مع الدولة السورية, أثبتت هذا “التضامن الناعم” وكرست هذا “التقارب الهادئ” – حيث أنه ليس موجها ضدّ أي طرف آخر- بمواقفها خلال أزمة خاشقجي سيما منها ترحيبها في أكثر من مرة للتحقيقات السعودية المنجزة في القضية.
انبرى ولي العهد السعودي خلال منتدى الاستثمار الأخير أمام الوفد الروسي قائلا له بأنّ الرياض باتت اليوم تعرف أعداءها من أصدقائها الحقيقيين, في الكلام دلالات عميقة لعل من بينها أنّ السعودية ما بعد الأزمة لن تكون كما كانت قبلها, ليس بالضرورة أنها ستثور على التحالفات التاريخية ولكن بالضرورة أنّه ستكون هناك تحالفات أخرى تنضاف للتاريخية… وقد لا يكون الحديث مقصورا على غرب الشرق الآسوي بل قد ينسحب على غرب القارة الإفريقية وشمالها… حيث العمق العربي الاستراتيجي المهمل دائما من المشرق… وللحديث بقية وبقايا…

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP