الجديد

العجمي الوريمي يكتب ل “التونسيون”: “حكومة المشيشي .. الإعتبار من الأخطاء شرط النجاح”

العجمي الوريمي*

حكومة السيد هشام المشيشي ليست استمرارية لحكومة السيد إلياس الفخفاخ وليست حكومة القطيعة وإنما هي حكومة السياسات الجدية حول نفس الأهداف وبنفس التحديات. تغيير الفريق اقتضاه تغيير الطريقة والمقاربة والتمشي وهي حكومة ولدتها الأزمة الأهم بعد انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية المتمثلة التجاذب وعدم الإنسجام بين مكونات الحكم وأساسا السلطات التي وجدت نفسها تعمل ضمن معادلة مختلفة عن معادلة 2014 وطنيا وإقليميًا وهي معادلة الهدنة بين المنظومة الجديدة (منظومة الثورة) والمنظومة القديمة (بقايا نظام بن علي)بمواجهتهما السياسية والحزبية وقاعدتها الخلفية من إدارة وأجهزة ومراكز قوة وشبكات مصالح.

وكان يدير هذه الهدنة ثلاثة أطراف متمركزة في تقاطعات هذه المعادلة وهي الباجي قائد السبسي في موقع رئيس الجمهورية وراشد الغنوشي في موقع الشريك و”الحليف” والاتحاد العام التونسي للشغل عامل التوازن الثالث في معادلة الدولة العميقة والسطحية.

أتتنا انتخابات 2019 بأطراف تنظر للمغالبة دون أن تمتلك أدواتها ولها إرادة في التعويق بدل إرادة البناء مع أزمة ثقة مبطنة وتنازع التأثير في القرار بل المسارعة لامتلاكه دون تقدير لعواقب الإشتباك بين السلطات التي يراد تطويعها باسم الثورة أو إرادة الشعب أو مركزة السلطة والقرار في تجاهل لمكتسبات الثورة الدستورية ولثقل الإرث السياسي لعهد الإستبداد ولهشاشة الأوضاع بعد انتخابات شهدت حالة استقطاب اتسمت بتنمر المنظومة النوفمبرية واستفاقة متوترة للتيارات الثورية من منظومة 14 جانفي ولصعوبة الأوضاع الإقتصادية والمالية التي تتطلب الإنقاذ لا المغامرة والتجاذب المطلبي والسياسي والدستوري.

وقد كشف خطاب الحملة الإنتخابية لجميع المترشحين عن وعي وتحذير من تراجع هيبة الدولة وتوسع ظاهرة مخالفة القوانين وخرقها والإفلات من المحاسبة والعقاب وهي مخاوف تأكدت بعد الإنتخابات من خلال الإخفاق في تمرير حكومة الحبيب الجملي وملابسات تشكيل حكومة أقلية اختار الرئيس من يقودها تحت إشرافه الشخصي في مسعى تأكد فيما بعد لتحويل وجهة النظام السياسي ومركز ثقله التنفيذي من القصبة إلى قرطاج بحرص من محيط رئيس الجمهورية وتواطؤ من بعض المكونات السياسية للحكومة التي شرعت ونظرت لسيطرة الرئيس على الحكومة وهيمنة الرئاسة على باقي السلطات بأمل سحب البساط والأوراق من الحزب الفائز بالإنتخابات وخاصة من كتلته النيابية وزعيمه الذي بات رئيسا للسلطة التشريعية.

بعد انتخابات تحالف فيها مع أكبر طرف سيكون خارج حكومة الرئيس وخارج حزامها السياسي أفشلت حكومة الفخفاخ وأسقطت بعد نصف عام من نيلها ثقة البرلمان الذي صوت لها لتحكم بالمراسيم لكنها بمقدار ما وسعت عن نفسها هامش المبادرة تجاه البرلمان ظلت مكبلة بإرادة مانح التكليف الذي أصر على أن لا تتغير طبيعة “حكومته” أو تعزز صفها وقاعدتهاوأغلبيتها بمكون إضافي..

لم تكن فلسفة الرئيس قيس سعيد في التكليف الثاني تختلف عن فلسفة التكليف الأول فقد ظل الرئيس وفيا لمواقفه المرتابة في الأحزاب والرافضة للنظام السياسي المنبثق عن دستور الجمهورية الثانية وللقانون الإنتخابي الذي كيف الديموقراطية التونسية بمشهدها الفسيفسائي المتنوع والمتوزع على طيف واسع من الألوان المتنافرة والمتنابذة والمتنازعة على شتى الشرعيات فقد ضجر رئيس الجمهورية وضاق ببرلمان هو متنفس للتوترات أكثر مما هو صانع للإجماع بل إن الرئيس الذي لا يبحث عن التوافق مع أي طرف ومع أي سلطة يرى الإجماع خارج المؤسسات المنتخبة متجسدا في الإرادة الشعبية التي باسمها ترشح وبها صعد إلى كرسي الرئاسة وإليها يحيل ويعود وباسمها يتكلم ويحكم ويحاسب .

مثلما كان الانتقال من منظومة التوافق (منظومة الشيخين) إلى منظومة التفرد (منظومة الرئيس الواحد) عملية غير موفقة كان استنساخ حكومة الفخفاخ غير ممكنة وعوض العودة إلى حقائق الصندوق اختار الرئيس اقتصادها ووضعها بين قوسين بل صرح وهو يمنح تشكيلة المشيشي تأشيرة الذهاب إلى البرلمان أنه مع احترامه للمؤسسات ليس راض عن وضعها ودورها وأنه في الوقت المناسب سيمضي في إجراءات التعديل بما يتناسب مع رؤيته ومشروعه الذي يطبخ على نار هادئة حتى يحين أوان الشروع في التنزيل .

ولأن السياسة لاتخلو من مفاجآت وشهوة السلطة ليس لها حدود ومنزع الهيمنة والتفرد منزع مقدور ولا مفر منه مخافة الفراغ والمجهول وفقدان زمام الأمور فقد وقع محيط الرئيس قيس سعيد في المحذور وحولوا حكومة الرئيس من الإقتصار على اختيار الشخصية الأقدر إلى تسليم المكلف وصفة جاهزة وتشكيلة معدة بعناية لتكون ذات ولاء للقصر ويده الطولى في حكم البلاد بعيدا عن الأحزاب بما في ذلك التي تقربت من الرئيس وأغرت المقربين منه بحكومة بلا نهضةوحكومة مناوئة للنهضة وإن اقتضى الأمر تقديم عرض مغر لحلفائها بالبرلمان كي يفكوا معها الإرتباط ..

لم يكن أحد يتوقع أن “يتمرد” المكلف المطيع ويجازف بخلط أوراق القصر ويشق طريقه بتشريك الأحزاب وتوريطها بعد أن أعرض عنها وتجاهل تحذيراتها ونصائحها .. اختار المشيشي الإداري المستقل والإبن الشرعي للدولة ورقة البرلمان والأحزاب والكتل المستعدة لدعم برنامج حكومته وحماية خياراته في الأشخاص والسياسات من وصاية قرطاج .. كل ما يقوم به المشيشي لتأكيد هذه الإستقلالية تدل أنه يبحث عن أقصر طريق للنجاح وليس لصنع الأزمات مع أيا كان.

و إلى حد الآن برهن المشيشي أنه رجل حوار وأن إرادته متجهة إلى جعل يده ممدودة إلى الجميع أحزابا ومنظمات لكن المناكفات لن تنتهي وهو يواجه تحالفا موضوعيا مخالف للطبيعة بين نزعة الهيمنة الرئاسية وارادة التعويق والتعجيز للدستوري الحر .. إن حكومة السياسات الجديدة مطالبة حتى تضمن لنفسها الإمتداد في الجغرافيا السياسية للوطن والإمتداد في الزمن السياسي لهذه المرحلة أن تنهي حالة التوتر في علاقتها بالقصر وأن تعطي مضمونا سياسيا لعقدها مع الأحزاب الداعمة وأن تنجز اتفاق مصالح وتصالح مع المنظمات الوطنية وأن تجعل أولويتها المطلقة توفير الشغل لطالبيه وإنقاذ القدرة الشرائية للأسر من الإنهيار وتطوير الخدمات المقدمة للمواطن وفرض احترام القانون والنظام وقواعد العيش المشترك.

كما يحتاج المشيشي أن يقنع التونسيين خاصة تونسيي المهاجر بالإدخار وتمويل الإقتصاد وبعث المشاريع المنتجة ويحتاج التونسيون أن يتأكدوا أن المشيشي جاء للإنقاذ وليس طلبا للسلطة وطمعا في الكرسي وأن يبرهن أنه إلى جانب وطنيته رجل يؤمن بالديمقراطية وبأنها اختيار شعبنا وأنها طريقنا إلى الرفاه والنهوض والنماء وأنها منتوجنا الذي يسوق مع جميع منتوجاتنا الفلاحية والصناعية والخدماتية والثقافية.

كما أنه على رئاسة الجمهورية أن تكون متبنية للحكومة داعمة لها مترفعة عن السيطرة عليها أو هرسلتها لحكومة المشيشي أمل في البقاء والنجاح أكثر حكومة الفخفاخ ولكن أمامها من التحديات اضعاف ما جابهته حكومة الفخفاخ لكن من بين شروط نجاحها الاعتبار بأخطاء من سبقها .

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP