الجديد

الإرهاب .. أكاذيب الإدانة

” من ثمارهم تعرفونهُم. هل يجتنُون من الشّوك عنبا، أو من الحَسَك تينا؟” إنجيل متى 7:16

المهدي عبد الجواد

ضرب الإرهاب صباح اليوم فرنسا. فقد أقدم مُجرم على نحر سيدة وأصاب في مقتل امرأة أخرى وشابا في كنيسة بمدينة نيس جنوب فرنسا. عملية بشعة مُدانة بكلّ اللغات و لا يُمكن تبريرُها ولا التخفّي وراء أية تعلّات لجعلها مشروعة. فلا شيء في الديانات أو الفلسفات يقبلُ القتل الوحشيّ. وسرعان ما تمّ كشف هوية الإرهابي المُجرم فإذا هو مُهاجر غير شرعي من أصول تونسية لا يتجاوز عُمُرُه العشرين عاما.

وبقدر ما كان الرئيس الفرنسي واضحا وصارما في إدانة “الإرهاب الإسلاموي Islamiste، والتطرّف الانعزالي” فقد كان أيضا واضحا في إيمانه بوحدة فرنسا وشعبها بقطع النظر على الديانات والجذور الإثنية، ومؤمنا بوحدتها في مواجهة هذا الإجرام. مقابل ذلك كانت ردود الأفعال في تونس مُلتبسة ومُتردّدة.

انخرطت فئات واسعة من التونسيين وحتى من نُخبهم في “مقاربات” تبريرية للإجرام والإرهاب، ويكفي أن نذكر تدوينة النائب راشد الخياري التي كانت تبريرا واضحا لعملية نحر الأستاذ “صاموئيل باتي” بداعي “الانتصار للرسول” وما خلّفته من غضب داخل الدوائر الرسمية الفرنسية، مما اضطرّ النيابة العمومية لفتح تحقيق بموجب قانون الإرهاب ضد النائب المذكور.

كما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في تونس حملة انتصار “للرسول الأكرم” وسط تجييش وتحشيد ضد فرنسا ورئيسها دون تبيّن للحقيقة، بل في موجة موجّهة تُخفي في الحقيقة صراعا أكبر بين تركيا أردوغان وفرنسا حول تقاسم مناطق النفوذ في ليبيا وفي شرق المتوسط.

فأردوغان يطمح إلى اكتساب بعض مقومات القوة قبل التفاوض من جديد على انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. إذ يطمح اردوغان الذي فشل في كل حروبه ويُعاني وضعا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا كارثيا في تركيا إلى تقديم نفسه بصفته حامي “الإسلام السني في أوروبا” والمفاوض الرسمي باسم مسلمي أوروبا.

ولكن الأغرب من ذلك انخراط الكثير من النّخب – حتى التقدمية – منها في فخّ الدعايات التركية، فالكثير من الشخصيات السياسية والبرلمانية وبعض المثقفين تداعت في حملات الدفاع على المُقدسات والانتصار للرسول، حتى وإن كان من باب الدعوة “لتمثّل القيم النبوية والتسامح الديني”.

ان تأجيج مثل هذه السرديات من شأنه خلق مناخات للتوتّر الديني وللصراع المذهبي، يُمكن استغلاله لتوجيه الفئات الأقل مناعة نحو عوالم التعصّب والتكفير والإرهاب. بل إن بعض مؤسسات الدولة الرسمية لم تسلم من هذه الدعايات والسرديات المُخيفة. فرئيس الدولة التونسية قيس سعيد أكد في بيان التهنئة بمناسبة المولد النبوي الشريف على أن “الأمة مستهدفة ممن دأبوا على استهدافها” دون تحديد لهذه الامة ولا من يستهدفُها.

وليس الأمر غير إعادة إنتاج لتصوّر يجعل المسلمين ضحايا مؤامرات الكُفّار، وهي سردية لم تقم طوال التاريخ الإسلامي بغير تقديم أفكار الجهاد وتبرير القتل وردود الفعل العنيفة تُجاه “الغُزاة الكفرة”. ثم يُضيف “إنها – اي الأمة- لا تقبل أبدا أن يستهدفه أحد بسوء” فما معنى لا تقبل؟ أليس هذا فتحا لباب ردود الأفعال وتبريرا لها؟.

وبعد تأخير كبير أصدرت وزارة الخارجية التونسية بيان إدانة للعملية، لكنها أقحمت فيه فقرة تجعل الإدانة منقوصة. فقد جاء في البيان أنها “تُحذّرُ من مغبّة المُضيّ قُدما في التوظيف الإيديولوجي والسياسي للمقدسات والأديان وربطها بالإرهاب” أنها جملة فضفاضة تجعل الدولة التونسية مُنخرطة وبشكل رسمي في حملات “الدفاع على المقدسات” ضد فرنسا التي “تزدري المقدسات” وهذه عملية خطيرة ولكنها خاصة خاطئة، وتعكس قصورا حقيقيا على فهم ظاهرة الإرهاب من جهة، وعلى فهم طبيعة النظام والدولة والمجتمع الفرنسي وقيمه اللائكية. وكل عملية ربط بين إدانة الإرهاب و مقولات الدفاع على المقدسات هي عملية تبرير للإرهاب وانتصار له، حتى دون قصد.

ثمة لغة خشبية لم تعُد صالحة. فلم يعد ممكنا الاستمرار في السكوت عن خطاب باسم هذا الدين وباسم نبيّه خطاب يبرر أبشع الجرائم. ما دُمنا نكتفي في كل مرّة بتكرار أن الإرهاب بلا دين فنحن لم نفهم شيئا، وسنظل ندفع ثمن ذلك.

يجد الإرهاب لنفسه جذورا في تأويلات النصوص الدينية العتيقة وقراءات فقهاء متطرفين، ويتغذّى بسير ومغازي وحكايات مجد ضائع كان قائما على السبي والنهب ومال الفيء والخراج. ثمة نماذج تاريخية يتم استقدامها من خارج سياقاتها التاريخية، وثمة آيات يتم بترُها من سورها وإخراجها من سياقات نزولها ليتم اعتمادها لتبرير العُنف. وثمة أحاديث وأساطير وخرافات ارتبطت بفترات حضارية كان العُنف الحضاري فيها مُبرّرا عند كل الشعوب.

لقد نجحت أوروبا في تجاوز مجاهيل تاريخها الدموي عبر عمليات التنوير وأنجزت بالعنف وفي العُنف إعادة قراءة نصوصها الدينية، ولكننا نحن المسلمين لم نبلغ ذلك، وفشلنا بعد قرنين من انطلاق حركة الإصلاح والتجديد الديني في إنتاج هذه القراءات العصرية حتى نتحرّر من نصوصنا العتيقة، وعجزنا على التحرّر من سلطة الفقهاء وسطوة النصوص. لقد انتصرت عندنا القراءات المُتطّرفة التكفيرية على القراءات المقاصدية، وذوى تدريجيا صوت التأويل أمام سلطات النقل القاتل للاجتهاد والمُنتصر للجهاد.

إبراهيم بن محمد بن صالح العيساوي. بين الأسماء الدالة على التوحيد ووحدة الإنسان والحمد والمروءة والصلاح والمحبة الصوفية تسلل الإرهاب والتكفير. كان في عمر العاشرة عندما جاءت الثورة. فربته على رايات أنصار الشريعة وخُطب التكفير وخطابات العُنف والكراهية.

كبُر في مُناخات الانقسام والخصومات حول المدارس القرآنية والنقاب والجلباب الأفغاني. شبّ في لحظة تم فيها التشكيك في كل شي في الدولة وفي القانون وفي التاريخ. فكان مُجرما. هذه ثمارُ عجزنا الحضاري نحن الذين فشلنا في التنوير وفي النهضة الحضارية والتجديد الديني، وهي ثمار عشر سنوات من ثورة ظلت طريقها. كانت ثورة ديمقراطية ذات منحى عصري فأضحت أسيرة التكفير والإرهاب والتعصّب.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP