الجديد

محمد أبو هاشم محجوب يؤبن عبد الوهاب بوحديبة

 

ننشر في موقع “التونسيون” نص تأبين الدكتور وعالم الاجتماع عبد الوهاب بوحديبة الذي رحل عنا يوم الخميس 17 ديسمبر الجاري من قبل تلميذه الدكتور والفيلسوف محمد أبو هاشم محجوب، في ما يلي نص التأبين:

في تأبين عبد الوهاب بوحديبة

“كل نفس ذائقة الموت.. ولكن روحك ماكثة بيننا”

بقلم محمد أبو هاشم محجوب

جامعة تونس المنار

 

الله أكبر الله أكبر الله أكبر

ولا حول ولا قوة إلا بالله

  • عبد الوهاب بوحديبة، المولود في صيف سنة 1932 بالقيروان، مبرّز منذ 1959، في الفلسفة، وهو على حدّ علمي من أوّل المبرزين، إن لم يكن أولهم، في هذا الاختصاص من التونسيين. وقد تحصّل قبل ذلك على الإجازة في الآداب، فالإجازة في الفلسفة، فالشهادة العليا في الأنثروبولوجيا، فالديبلوم العالي في الفلسفة.
  • هو التلميذ المباشر لفلاسفة ومفكرين كبار : مرلو بونتي، باشلار، هيبوليت، ألكيي، روجي باستيد، بول ريكور .. وغيريهم
  • دكتور دولة من جامعة السّربون منذ سنة 1972 بأطروحة رئيسية معروفة عن “الجنسانية في الإسلام” [La sexualité en Islam]، وبأطروحة تكميلية حول “القصص التونسي للأطفال” [Les contes tunisiens pour enfants].
  • أستاذ مبرز في المعاهد الثّانوية، ثم، بداية من سنة 1961، مساعد، فأستاذ مساعد، فأستاذ محاضر، فأستاذ كرسي، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس، شارع 9 أفريل، ولكن كذلك في دار المعلمين العليا، والمدرسة العليا للإدارة، وغيرها، وذلك في اختصاص علم الاجتماع الإسلامي والمغاربي، وعلم اجتماع التنمية.
  • من بناة الجامعة التونسية بإقامة قواعد أقسام الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النّفس بين سنتي 1964 و1982. تميز عمله بإرساء التقاليد العلمية والبيداغوجية والبحثية التي ما تزال لحد اليوم بقوتها الأدبية حاضرة ضمن عمل هذه الأقسام .
  • بين سنتي 1966 و1968 : أول أستاذ كرسي التعاون الدولي لمنظمة الأوبلف، حيث درس في جامعات لياج، ولوفان، وأبيدجان، ومنريال، وداكار.
  • من 1967 إلى 1983 : انتدب عضوا للهيئة الدولية لبيبليوغرافيا العلوم الاجتماعية، وشارك في إعداد 27 مجلدا في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والأنثروبولوجيا.
  • من 1972 إلى 1991 : مدير مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس [CERES].
  • من 1991 إلى 1994 : كان عبد الوهاب بوحديبة مديرا مساعدا للثقافة بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وبوجه عام فقد شارك في إطار هذه المنظمة في إعداد استراتيجية تطوير العلوم التقانية في الوطن العربي ، كما ساهم في تنقيح الخطة الشاملة للثقافة العربية ومراجعتها.
  • من أكتوبر 1995 إلى 2011 : رئيس للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة”، حيث نظم الملتقيات وأشرف على برامج الترجمة والتأليف المختلفة. وهو اليوم عضو شرفي بالمجمع.
  • كان مؤسّسا وعضوا لهيئات تحرير علمية كثيرة ومختلفة ولاسيما لمجلات علمية من أهمها : المجلّة التونسية للعلوم الاجتماعية، المجلة الاجتماعية الدولية (نشرية اليونسكو)، البيبليوغرافيا الدولية للعلوم الاجتماعية، إلخ.
  • شارك طوال مسيرته الجامعية والأكاديمية في عدد هائل من الملتقيات العلمية وقدّم فيها مساهمات علمية أحصيت منها ما يزيد عن 160 بحثا.
  • ألّف عددا كبيرا من الكتب والدراسات أقتصر على ذكر بعضها [وأقل من نصفها] في اللغة التي وضعها فيها : فعبد الوهاب بوحديبة، كما يعلم الجميع من أحذق جامعيينا باللسانين الفرنسي والعربي، دون أن يدخل الضيم عليهما، على عكس ما قال الجاحظ :

1965 : Criminalité et changements sociaux en Tunisie

1973 : A la recherche des normes perdues

1975 : La sexualité en Islam (traduit en japonais, en espagnol, en anglais et en arabe

1978 : culture et société

1980 : Raisons d’être

1991  : لأفهم

1994 : L’imaginaire maghrébin

1996 : Quêtes sociologiques

2002 : L’expérience de l’altérité dans les sociétés musulmanes

2009 : على خطى ابن خلدون (بالاشتراك مع منيرة شابوتو)

2017 : La culture du parfum en Islam

2018 : L’Islam : ouverture et dépassement

ولقد توزعت الثنايا الفكرية لعبد الوهاب بوحديبة بين محورين:

  • محور أول يمكنني أن أسميه محور “الوفاء للمعنى”، حوله تدور تأمّلاته في رمزيات الحياة. فالمثقف والجامعي والمفكر والباحث، ليسوا سوى مفكري الأمّة، ولذلك فإن عملهم الحقيقي هو الإصغاء إليها في جميع الرمزيات التي تتكلم بها وتنطق من خلالها : رمزية العاطفة والحياة العاطفية، رمزية الطفولة وما تكلف به الطفولة من حمل الآمال والأوهام، ورمزية الهامشية التي ليس الإجرام إلا أحد أعراضها الملغزةِ والعنيفةِ والمحيرةِ، ورمزية، بل رمزيات الخيال في تعابيره القصصية، ورمزية الذاكرة في بحثها لا عن الزمن المفقود فقط، بل كذلك وخاصة عن المعايير الضائعة. لقد كان بوحديبة يقول لنا، بل يردد على مسامعنا، على مدى درس شغلنا كامل سنة 70/71 : “قد يكون من الضروري تخصيصُ وزارة كاملة للحلم”. وطبعا فإن الإصغاء إلى ما لا ينطق به الحلم، أعني إلى ما يشير إليه في صمت، من طموحات الأفراد، ومن تعابير حرمانهم، وصيغ آمالهم المعقدة، هو ما كان يقصده بوحديبة من وراء ذلك : فإن الإصغاء إلى الحلم، وفك رموز الخيال، ومرافقة كل أشكال الاستثمار الخيالي في الجنس ضمن أعمق ما تركه  لنا التراث الإسلامي، هو السبيل الأيسر لتفكيك آليات العنف التي كانت تتهدد مجتمعا تونسيا ابتدأ آنذاك يشق طريقه إلى نفسه عبر سلسلة لا حد لها من التغيرات الاجتماعية العميقة. لذلك فقد كانت القراءة قراءة تُنصت، لأجل أن تفك الرموز، لأنّ المجتمع لم يكن يقدم للمثقف،وللباحث، وللأكاديمي، غير الرموز والأحجيات، وكان على هذا الأكاديمي الشاب، المتسلح فقط بإيمانه وبعلمه، أن يحللها، وأن يفهمها، إيمانا بأولوية المعنى، ووفاء له. ولأمر كهذا ذكر الراحل محمد عزيز الحبابي بهذه الكلمة لنجم الدين باماط عن عبد الوهاب بوحديبة : “بوحديبة هو ذلك الصوت الباطني الذي يرتفع نحو الكوني”

إن أهم  دروس عبد الوهاب بوحديبة في هذا المجال، هو جمعه من خلال الفهم بين التقنية التي يقدمها علم الاجتماع وبين الروح الفلسفي الذي يتيح الفهم والتأويل. فالغاية الحقيقة للبحث وللمعرفة عنده هي تحقيق المصالحة بيننا وبين تراثنا، ولا مصالحة بدون فهم. لذلك فإنه من العسير جدا أن نفرق ضمن أي نص من نصوص بوحديبه، بل ضمن أيّ درس من دروسه،  بين السوسيولوجي، وبين السيكولوجي،  وبين الفلسفي، وبين الروحاني الإسلامي : لدى نهاية ملتقى كرم خلاله طلبة عبد الوهاب بوحديبة أستاذهم، تكلم عبد الوهاب بوحديبة فقال : “إن المصالحة الحقيقية يقودها المثقفون والفلاسفة والباحثون إذ لا يجدون مكانا إلا في الصفوف الأولى ليشاهدوا ويشهدوا. وهذه الشهادة ثقيلة الوزن لما فيها من قيم وعبر، ولما تنبني عليه من جرأة وإقدام. فهي شهادة تتجاوز الذات الفردية وحتى الجماعية وتلزم كذلك كل من آمن بعظمة الوجود المقرون بالحرية والمسؤولية وكرامة الإنسان”.

  • أما المحور الثاني فهو ما يمكن أن نسمية على إثر عبد الوهاب بوحديبة، المعرفة المناضلة : إن الإنصات إلى المجتمع ومحاولة فهم ظواهره وتغيراته لا يقصد إلا إلى الفعل فيه : فمواكبة المجتمع وفهمه لا يمكنهما أن يكونا مجرد تصديق عليه. على المفكر والعالم أن يسعى إلى تغيير مجتمعه، وأن يرصد مواطن العطالة الحقيقية فيه. وليس له من سبيل إلى ذلك إلا الكلمة : أليس الباحث اليقظ الملتزم، في ما يسأل بوحديبة، هو ذاك … السابق الذي يفهم قبل غيره، واللاحق الذي يغربل ويصفي المعاني والأقوال والرموز، فيحتفظ بما لا تزال تجري فيه الحياة، … ويطّرح ما تآكل منه وانتهى أمره ؟ …

 

أستاذي ومعلّمي عبد الوهاب بوحديبة :

إن كفاح المفكّر ليس من جنس العمل القصير، أعني من جنس العمل الذي  يتواقت فيه القصد والغاية : فشأن الكفاح الحقيقي أنه إنما يستنير بآية المكوث. فأما الزبد فيذهب جفاء ..

أستاذي ومعلمي

كل نفس ذائقة الموت .. وهاقد ذاقتها نفسك مثلما ستذوقها كل نفس. ولكن روحك باقية بيننا برفعة أخلاقك، ونفَس النضال الذي لا يكل.. وبما استودعت فينا من رسالة التربية ومساعدة الناس وعدم الموجدة عليهم وإن أخطؤوا..

الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر.

رحمة الله عليك يا سي عبد الوهاب، يا معلمي ..  

إنا لله وإنا إليه راجعون ..

 

محمد أبو هاشم محجوب

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP