الجديد

خميس الجهيناوي يكتب عن: “إعادة بناء علاقات تونس وليبيا وسط التحولات الإقليمية”

كتب وزير الخارجية التونسي الأسبق ورئيس “المجلس التونسي للعلاقات الدولية”، خميس الجهيناوي مقالا مطولا – يعد بمثابة وثيقة هامة – ينشر في عدد الغد من يومية “العرب الدولية” التي تصدر يوميا في لندن، اشار فيه الى أنه  “و رغم التحديات الكثيرة تلوح في أفق العلاقات التونسية – الليبية ، فان هناك مرحلة جديدة تتسم بالكثير من الانفتاح على كافة الأصعدة بين الجارين، في أعقاب توافق الفرقاء في ليبيا على إنهاء الأزمة السياسية والعسكرية، والتي سعت تونس عبر تفعيل دبلوماسيتها لمشاركة المجتمع الدولي في تأمين انتقال سياسي يمهد لاستقرار البلد الجار، وبالتالي المنطقة ككل، ومن ثم التأسيس لتقارب جديد بين البلدين لتجاوز التحولات الإقليمية والدولية”.

وفي ما يلي نص المقال/ الوثيقة:

يتضح أن تونس وليبيا بعد عشر سنوات من انتفاضتيهما لا تزالان على مفترق طرق ورغم أن ليبيا تفتتح فصلا جديدا في انتقالها السياسي عبر تشكيل حكومة مؤقتة إلا أنه يتوجّب عليها أن تواجه المهمة المتمثلة في تأمين بلد منقسم بشدة وتوحيده وتمهيد الطريق لإجراء انتخابات عامة مقررة بحلول نهاية هذا العام.

وبالمثل تكافح تونس لترسيخ ديمقراطيتها في سياق أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة، زادتها الجائحة المدمرة تعقيدا. كما لا تزال البلاد تختبر الحوكمة السياسية التي أنشأها دستور 2014، بنظام شبه برلماني له فروع تنفيذية مزدوجة غير قادرة على إدارة الاتجاهات الشعبوية واحتواء صعودها بينما تسعى الدولة لإقامة علاقات طبيعية ومتوازنة بين مختلف المؤسسات السياسية.

والبلدان متاشبكان بحكم الجغرافيا، كما تجمع بينهما روابط إنسانية وثقافية وعرقية قوية متجذرة في التاريخ. ويمكن إرجاع علاقاتهما الطويلة إلى العصر الفينيقي؛ فمنذ أن بدأت قرطاج تتوسع في البحر المتوسط صار لتونس نوع من النفوذ على شمال غرب ليبيا.

وخلال الإمبراطورية العثمانية كان لها تأثير كبير على جزء كبير من ليبيا الحالية حيث كانت تعين حكام المنطقة الذين كانوا موالين للسلالة الحسينية في تونس، حتى أن باي تونس شن حروبا لإزاحة الحكام غير المرغوب فيهم من السلطة، كما كان الحال مع حمودة باشا باي في 1794، عندما سعى لإعادة يوسف (بن علي) القرمانلي إلى باشوية طرابلس.

ومع مرور الزمن حافظ البلدان على تعاون وثيق واتصالات إنسانية إذ اعتاد التونسيون اللجوء إلى ليبيا كلما شعروا بالتهديد في بلدهم لاسيما أثناء الاستعمار الفرنسي، وبالمثل بحث الليبيون غالبا عن الأمن وحياة أفضل في تونس أثناء الاحتلال الإيطالي. وكانت العديد من العائلات من نفس الأصول القبلية حتى لو كانت على جانبي الحدود.

وأثناء حكم معمر القذافي كانت العلاقات متوترة في الكثير من الأحيان حيث اتبع الزعيم الليبي سياسات عدوانية خلال فترة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ثم تحسنت هذه العلاقات بشكل كبير في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

منعطف حاسم

تقارب سياسي واجتماعي واقتصادي

بعد الثورتين التونسية والليبية في 2011 اتخذت العلاقات منعطفا آخر، فقد تحركت الحكومة التونسية المؤقتة الجديدة التي تشكلت بعد سقوط نظام بن علي لتأمين حدود البلاد مع جارتها الجنوبية، حتى أنها سعت إلى تأسيس اتصالات مع مختلف أصحاب المصلحة الليبيين للتأثير على نتيجة الثورة الليبية وتجنب امتداد الصراع العسكري إلى الأراضي التونسية.

ويرتبط أمن كلا البلدين إلى درجة أن نجاح العملية الديمقراطية في تونس وانتعاشها الاقتصادي يعتمدان إلى حد كبير على التطورات في ليبيا.

وتتركز الغالبية العظمى من السكان الليبيين في الجزء الغربي من البلاد، مما يجعل البلاد إحدى الوجهات المباشرة للعديد من الليبيين الباحثين عن العلاج الطبي أو الراغبين في قضاء الإجازات.

وكانت تونس هي الدولة الوحيدة، من بين سبعة جيران، التي أبقت حدودها مفتوحة مع ليبيا. كما أن معظم الليبيين الذين يسافرون إلى الخارج يمرّون بالمطارات التونسية كنقطة عبور إلى وجهات أخرى.

وقد اتجه أكثر من مليوني ليبي ولاجئ أجنبي، فروا من العنف في 2011، إلى تونس ومكثوا لأشهر حتى أن البعض استقر منذ ذلك الحين في تونس وتمكّن من الاندماج مع السكان المحليين بسلاسة.

“أمن البلدين مرتبط إلى درجة أن نجاح العملية الديمقراطية في تونس وانتعاشها الاقتصادي مبني على التطورات في ليبيا”

وخلال أزمة 2011 – 2014 لعبت تونس دورا رئيسيا في تزويد السوق الليبية بالأساسيات وساهم هذا كثيرا في التخفيف من ندرة العديد من المنتجات بما في ذلك المواد الغذائية وتلبية الاحتياجات العاجلة.

وعلى مدى سنوات كانت ليبيا الشريك الاقتصادي الثاني لتونس بحوالي 2.5 مليار دينار (920 مليون دولار) في التجارة كما تطورت التجارة غير الرسمية، بما في ذلك جميع أشكال التهريب، لتصبح مصدرا رئيسيا لدخل العديد من الجماعات على جانبي الحدود بعد 2011.

لكن التهريب أصبح تهديدا خطيرا لاستقرار كامل المنطقة وأمنها، وشملت الممارسات غير المشروعة الاتجار بالأسلحة وأشكالا أخرى من الأنشطة الإجرامية عبر الحدود.

وأكد تقرير حديث أعده البنك الدولي على التشابك الاستثنائي للاقتصاد التونسي – الليبي وأظهر مدى اعتماد الاقتصاد التونسي على ليبيا. ومن بين المؤشرات الدالة على ذلك اختيار ما يقرب من 1.7 مليون سائح ليبي المنتجعات التونسية كل عام، مما يجعل ليبيا ثانية الأسواق السياحية لتونس بعد الجزائر.

كما اعتاد حوالي 100 ألف تونسي العيش والعمل في ليبيا وغادر معظمهم (60 ألفا) البلاد في 2011 ولم يتمكنوا من العودة منذ ذلك الحين، مما حرم اقتصاد بلدهم من العملة الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها.

وقد أثرت الأزمة الليبية سلبا على تدفق الاستثمارات الأجنبية وقلصت عدد السياح الراغبين في قضاء عطلاتهم في تونس. وقد انخفضت الاستثمارات الليبية بنحو 60 في المئة في قطاع السياحة بعد الهجمات الإرهابية في عامي 2015 و2016 التي تورط فيها متطرفون تونسيون على صلة بليبيا.

ويقدر البنك الدولي أن الأزمة الليبية وراء 24 في المئة من تباطؤ النمو الاقتصادي في تونس خلال الفترة ما بين 2011 و2015، ومنذ ذلك الحين زاد هذا الرقم بشكل كبير، وهو يعادل اثنين في المئة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي سنويا.

وبحسب مركز برشلونة للشؤون الدولية فإن نحو ثلاثة ملايين تونسي يعتمدون على ليبيا إما من تحويلات العمال التونسيين أو من أنشطة السوق السوداء في المنطقة الحدودية.

أمن عبر الحدود

تونس في وضع جيد للمساهمة في توطيد السلام في ليبيا والمشاركة في إعادة تأهيل مؤسساتها وإعادة بناء اقتصادها

أمن كلا البلدين متشابك إلى حد كبير وقد دعم غياب حكومة مركزية قوية في طرابلس ومخزونات الأسلحة الهائلة في أيدي الميليشيات المنتشرة في جميع أنحاء الأراضي الليبية العصابات المسلحة والجماعات المتطرفة.

كما وفرت البلاد ملاذا آمنا لآلاف الإرهابيين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء (منطقة الساحل) بالإضافة إلى أولئك الفارين من بؤر التوتر في سوريا والعراق.

وأعادت جماعات موالية لداعش والقاعدة تجميع صفوفها في ليبيا بعد انتكاساتها في سوريا وأفريقيا جنوب الصحراء، ومع مراكز التجنيد والتدريب في ليبيا تطورت لتصبح تهديدا كبيرا لتونس والدول المجاورة الأخرى وحتى لأوروبا.

وفي مواجهة هذا الخطر الحقيقي على حدودها الجنوبية، لاسيما بعد الهجمات الإرهابية الغادرة في 2015 و2016، عملت السلطات التونسية خلال السنوات القليلة الماضية على تأمين حدودها عبر منطقة عسكرية عازلة. وبفضل الدعم الأميركي والألماني تطورت مراقبة الحدود لتشمل تقنية المراقبة الحديثة المعززة برحلات الطائرات دون طيار العادية.

وهناك خطوات إضافية جارية لتحسين الأمن ورفع مستواه وتعزيز الحدود ضد تسلل الإرهابيين وأنشطة التهريب. لكن السلطات التونسية حريصة على عدم التعامل مع التهديد الإرهابي على قدم المساواة مع أنشطة التهريب التجاري عبر الحدود.

ويمكن أن يؤدي التضييق بشكل منهجي على مشغلي القطاع غير الرسمي إلى جعل الوضع الاقتصادي الصعب بالفعل للمناطق المعتمدة على التهريب أكثر خطورة، لاسيما في المدينتين الرئيسيتين في الجنوب وهما مدنين وتطاوين والمناطق المجاورة لهما.

وغالبا ما يقال إن أخطر المخاطر الأمنية التي يشكلها النزاع الليبي على تونس لا تتمثل في اجتياز الأفرادِ الحدودَ وإنما في إغلاق الحدود بشكل كامل. ففي مثل هذا السيناريو الصارم يمكن أن تُخلق موجة من الاضطرابات التي قد تتطور إلى احتجاجات مزعزعة للاستقرار في العديد من المناطق الحدودية.

كما يمكن أن يسهم الافتقار إلى الحلول الاجتماعية والاقتصادية في ندرةَ فرص العمل ومصادر الدخل وفي زيادة التوترات بين السكان المحليين. وقد يؤدي إلى تطرف بعض الشباب الذين قد يميلون إلى الانضمام إلى الجماعات المتطرفة أيضا إذا تُركوا بلا بدائل.

ويقوّض انتشار العنف الجهادي، كما حدث في هجوم بن قردان في السابع من مارس 2017 عندما حاول داعش إيجاد موطئ قدم له في المدينة الحدودية وفشل وكذلك في الهجمات التي تبناها التنظيم المتطرف والتي ينحدر مرتكبوها من ليبيا، الاستثمارات الأجنبية وأيضا السياحة الأجنبية المعتادة.

ولا تزال ليبيا مصدر قلق حيوي لأمن تونس القومي بسبب آثارها على تنمية البلاد الاقتصادية واستقرارها السياسي. وإلى جانب المشاركة الدبلوماسية كانت إستراتيجية الدفاع التونسية ضد التهديدات الحالية والمستقبلية من ليبيا تفاعلية إلى حد كبير وموجهة نحو الاحتواء.

دور تونس في السلام الليبي

أولت الحكومات المتعاقبة في تونس اهتماما خاصا بليبيا، لإدراكها التأثير المباشر للأزمة الليبية على الانتقال السياسي في البلاد والانتعاش الاقتصادي. وغالبا ما تعكس مشاركة الفاعلين التونسيين وطبيعة الدعم الذي قدموه لفصائل سياسية مختلفة في ليبيا انتماءهم الأيديولوجي والتوازن الهش داخل المجتمع التونسي نفسه.

ولم يخف حزب النهضة الإسلامي قط دعمه للإسلاميين في ليبيا حتى أن راشد الغنوشي هنأ الرئيس السابق لحكومة الوفاق الوطني فايز السراج والجماعات الإسلامية في طرابلس على انتصارهم العسكري على الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في مايو 2020.

وجاءت تصريحات الغنوشي في وقت استعادت فيه القوات الموالية لحكومة الوفاق السيطرة على قاعدة الواطية العسكرية. وتعرضت تصريحاته لانتقادات المعارضة التونسية، وأثارت دعوات من أعضاء البرلمان لإقالته من منصب رئيس البرلمان.

وبعد انتخابات 2014 سعت الحكومة التونسية إلى التواصل الفعال مع ليبيا لكنها حاولت الحفاظ على مسافة متساوية من جميع الجهات الفاعلة الليبية. وكان هدف الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والدبلوماسية التونسية حينها يكمن في المساعدة على تمكين نوع من التقارب بين فرقاء الأزمة السياسية في ليبيا والعمل من أجل تسوية سلمية للصراع من خلال الحوار في إطار بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

“آفاق العلاقات التونسية الليبية واعدة والزيارات الأخيرة التي أجراها الرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي إلى طرابلس مهدت الطريق لانطلاقة جديدة في التعاون الثنائي”

وكان للدبلوماسية التونسية هدفان رئيسيان، الأول تجنب امتداد الصراع الليبي إلى الأراضي التونسية عبر زيادة المراقبة ومراقبة الحدود لمنع تسلل الإرهابيين وتهريب الأسلحة والسلع إلى البلاد.

أما الهدف الثاني فهو خلق ديناميكية جديدة بين جيران ليبيا، لاسيما الجزائر ومصر، من خلال مبادرة رئاسية تربط الدول العربية الثلاث في شمال أفريقيا من أجل إيجاد تسوية سلمية شاملة للصراع. وكان الهدف هو المواءمة بين المواقف المصرية والجزائرية تجاه الصراع الليبي ومحاولة بث صوت واحد نحو مختلف الفصائل السياسية الليبية، بغض النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية أو الإقليمية.

وأكد إعلان تونس في 20 فبراير 2017 عن المبادئ الأساسية للحل السياسي للأزمة الليبية أنه لا حل عسكريا للصراع ويجب التوصل إلى أي تسوية من خلال الحوار والتفاوض بين جميع الفصائل الليبية، باستثناء المتورطين في الإرهاب.

كما يجب أن يحافظ أي حل على وحدة الأراضي الليبية وسلامتها ويهدف إلى توحيد المؤسسات المنقسمة، مثل مصرف ليبيا المركزي وشركة النفط الوطنية والجيش، والتوصل إلى تسوية نهائية تحت مظلة الأمم المتحدة، مع استبعاد أي تدخل أجنبي آخر.

وكانت هذه المبادئ الأساسية التي أقرها منتدى الحوار السياسي الذي عقد في تونس في نوفمبر 2020 وكذلك الاتفاق الذي حصل في جنيف في 15 فبراير الماضي حول المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية.

وبصفتها عضوا غير دائم في مجلس الأمن تتحمل تونس مسؤولية خاصة عن مرافقة ليبيا خلال الفترة المتبقية الفاصلة عن الانتخابات العامة. وتحتاج إلى التأكيد لأعضاء المجلس الآخرين على أهمية إخراج ليبيا من المرحلة الانتقالية من خلال تنظيم انتخابات وطنية ديمقراطية وشفافة يجب أن تُجرى كما هو مقرر.

كما يجب اتخاذ خطوات محددة لبلوغ هذا الهدف من خلال وضع الإطار الدستوري والقانوني اللازم والدعوة إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية من ليبيا وإخراج الميليشيات المسلحة من جميع أنحاء البلاد.

إعادة إعمار ليبيا

إعادة إعمار ليبيا الشغل الشاغل للدبلوماسية التونسية

تعتبر تونس في وضع جيد للمساهمة في توطيد السلام في ليبيا والمشاركة في إعادة تأهيل مؤسساتها وإعادة بناء اقتصادها. وتستفيد من ميزة نوعية مقارنة بمنافسيها، فللقطاع الخاص التونسي تاريخ طويل في العمل بالسوق الليبية وهناك إطار قانوني ثري موروث من عهد القذافي وبن علي والذي لا يزال ساري المفعول ويمكن أن يساعد الشركات التونسية على استئناف أعمالها بسرعة في ليبيا.

كما تشكل مسألة القرب الجغرافي وتوافر شبكة طرق تقلل بشكل كبير من تكلفة النقل بين البلدين أمرا مهما. ولسنوات، عندما كانت ليبيا تحت الحظر الذي فرضه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أعقاب قضية لوكربي، كان القطاع الخاص التونسي في طليعة تلبية احتياجات ليبيا من السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية. وكانت المنتجات التونسية معروفة ومحل تقدير كبير لدى المستهلكين الليبيين.

واكتسبت الشركات التونسية خبرة واسعة في مشاريع الأشغال العامة في ليبيا. ونجح رواد أعمال تونسيون في التعاقد في مشاريع مئات المباني العامة ومشاريع الإسكان وسيوفر استئناف العمليات في ليبيا فرصا جديدة للشركات التونسية المتضررة من الأزمة الاقتصادية المحلية والوباء. كما أنه سيفتح سوق العمل لعشرات الآلاف من الباحثين عن عمل.

ويمكن تقديم مساهمة تونس عبر البدأ بتوفير الخبرة القانونية من أجل الإعداد الكافي لانتخابات حرة وشفافة بدأها منتدى الحوار السياسي الليبي قبل نهاية العام.

“بلدان متاشبكان جغرافيا تجمع بينهما روابط إنسانية وثقافية وعرقية قوية متجذرة في التاريخ منذ العصر الفينيقي”

وقد تكون التجربة التي اكتسبتها تونس خلال السنوات العشر الماضية في الانتقال السياسي وفي إدارة الانتخابات الوطنية والمحلية الحرة مفيدة في التحضير بشكل أفضل للاقتراع الليبي المقبل ووضع الخطوات المختلفة لخارطة الطريق المتفق عليها خلال اجتماع الحوار السياسي الليبي في نوفمبر الماضي بتونس، وكذلك مفيدة في المساعدة المؤسسية على إنشاء خدمة عامة في ليبيا.

ورغم أن تونس لا تزال تكافح من أجل تبسيط خدماتها العامة وتحديثها، إلا أنها تستطيع الإفادة بخبرتها الطويلة لتقديم الدعم الذي تحتاجه السلطات الليبية في الفترة الانتقالية.

ويمكن تنفيذ مهمة الحكم الرشيد والتشغيل السليم لمؤسسات الدولة من خلال التعاون الثلاثي الذي يجمع تونس وليبيا والدول الديمقراطية المانحة، إلى جانب تفكيك الميليشيات وسحب السلاح للمساعدة في تشكيل الجيش الوطني الليبي وتوحيد قوات الأمن.

كما يمكن للشركات التونسية أن تشارك في مشاريع البنية التحتية الكبرى في ليبيا والمشاركة في المناقصات العامة المتعلقة بالإسكان والمباني العامة خاصة في منطقة بنغازي المنكوبة وشرق البلاد وكذلك في أحياء طرابلس. وأيضا يمكنها تلبية احتياجات السوق الليبية من السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية وتزويدها بمنتجات تنافسية وذات جودة عالية.

وتبدو آفاق العلاقات التونسية الليبية واعدة بالفعل. ومهدت الزيارات الأخيرة التي أجراها الرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي إلى طرابلس الطريق لانطلاقة جديدة في التعاون الثنائي.

ومن الواضح أن البلدين يبقيان بحاجة إلى بعضهما البعض لتعزيز التحولات بينهما. فتونس في حاجة ماسة إلى الدعم المالي الليبي في شكل قرض أو وديعة في البنك المركزي التونسي لمواصلة المناقشات التي بدأتها بالفعل مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض لمدة ثلاث سنوات، للمرة الرابعة خلال عقد.

كما سيساعد توقيع المشيشي مع رئيس حكومة الوحدة الليبية عبدالحميد الدبيبة في وقت سابق هذا الشهر على اتفاقية جديدة لتسهيل التجارة وحركة المواطنين القطاع الخاص في كلا البلدين على استكشاف شراكات جديدة وزيادة عدد الزوار والسياح الليبيين إلى تونس.

وتتطلع ليبيا إلى خبرة تونس ومواردها البشرية للمساهمة في برنامج البناء المؤسسي وإصلاح قطاعها العام. كما يمكنها الاعتماد على تونس، بصفتها عضوا غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حتى نهاية سنة 2021، في تأمين الدعم الذي تشتد الحاجة إليه من المجتمع الدولي، أي الدول الخمس دائمة العضوية، للانتقال السلس إلى الانتخابات المقبلة.

ويمكن لليبيا أن تعتمد على تونس في تشجيع دول الجوار الأخرى، وخاصة الجزائر ومصر، على الوقوف إلى جانب حكومة الوحدة الوطنية من أجل تهيئة الظروف المواتية للانتقال السلس إلى تسوية دائمة للأزمة بحلول نهاية السنة.

ومع ذلك يتعين على القادة في كلا البلدين انتظار نتائج الانتخابات العامة المقبلة في ليبيا المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر، لبدء أي نقاش هادف حول مساهمة تونس في مشاريع البنية التحتية الكبرى في ليبيا.

وتتمثل مهمة الحكومة المؤقتة الرئيسية اليوم، على النحو المحدد في اتفاق الحوار السياسي الليبي بجنيف، في تمهيد الطريق لانتخابات شفافة وديمقراطية في ليبيا بحلول نهاية العام.

القوى الفاعلة في ليبيا

اتسمت الأزمة الليبية منذ 2011 بالتشابك المعقد للمصالح المختلفة والمتضاربة في الكثير من الأحيان داخل ليبيا وخارجها على حد سواء، ويبقى حل الصراعات معقدا بسبب الانقسامات المؤسسية العميقة وانعدام الثقة الذي تراكم على مر السنين، والاستراتيجيات المتباينة بين الجهات الليبية واللاعبين الدوليين.

ولا يمكن الاستهانة بدور صناعة النفط والغاز داخل ليبيا في إشعال الصراع وإدامته لأنها المحرك الرئيسي للاقتصاد الليبي وتشكل حوالي 60 في المئة من ناتج البلاد المحلي الإجمالي. كما أنها تخضع لمنافسة شرسة واضحة بين الفصائل الليبية والشركاء الأجانب.

وكان توزيع الأرباح العادل وتجنب تحويلها إلى تمويل المسلحين والميليشيات وحل النزاعات المالية بين الجانبين المتنازعين في نفس الوقت من الشروط الأساسية لجميع مبادرات السلام، ولاسيما تلك التي ترعاها الأمم المتحدة. ولا تزال القوى الأجنبية تلقي بثقلها على المسرح الليبي، مما يجر الصراع إلى توترات إقليمية ويجعله إحدى أكثر الحروب الجارية بالوكالة دراماتيكية في العالم.

وقد دخلت ليبيا منذ عام 2014 في نزاع إقليمي أكبر يشمل ثلاثة صراعات متداخلة، تمحور الأول حول محور قطر وتركيا ضد مصر والسعودية والإمارات. وكان كل طرف مدفوعا بمصالحه الخاصة في ليبيا، ويهدف إلى إرساء الأرضية وتوجيه نتائج أي مبادرة سلام لصالح أجندته الخاصة.

وكان الثاني نتيجة التوتر بشأن حقوق التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط (تركيا ضد مصر وفرنسا واليونان وقبرص وإسرائيل)، وانجرت ليبيا إلى هذه المواجهة.

ويشمل الثالث روسيا وتركيا، وهما الفاعلان الخارجيان الرئيسيان اللذان يعارضان بعضهما البعض في سوريا وفي الصراع بين أرمينيا وأذربيجان. ويعتمدان المسرح الليبي كأرضية لإبراز نفوذهما وحماية مصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية في ليبيا ما بعد الحرب.

“هدف الدبلوماسية التونسية تجنب امتداد الصراع الليبي إلى البلاد وخلق ديناميكية بين جيران ليبيا، لاسيما الجزائر ومصر”

وتُظهر مراحل للأزمة الليبية المختلفة أن للصراع بُعدا اقتصاديا لا يقل أهمية عن العوامل السياسية والعسكرية. ويجب على أي جهد لتحقيق الاستقرار في البلاد النظر في هذه المكونات الثلاثة بطريقة متكاملة.

وستستمر ليبيا في كونها محور القوى الدولية في السنوات القادمة، فلديها الموارد والقدرة على أن تصبح مركزا تجاريا في البحر المتوسط. وستزيد روسيا من شحذ استراتيجيتها الهادفة إلى استرداد الديون الكبيرة المستحقة للشركات الروسية على الحكومات الليبية منذ حكم القذافي.

وستهدف موسكو إلى استخدام وجودها على الأرض مع وكيلها العسكري، مجموعة فاغنر التي يديرها القطاع الخاص، كأداة مهمة في منافستها العالمية مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في ليبيا ومنطقة الساحل وما وراءها.

كما أن لدى فرنسا وإيطاليا أجندتهما الخاصة النابعة من مصالحهما الاقتصادية، والمسؤوليات التاريخية ممثلا في الدور الفرنسي في انهيار نظام القذافي في 2011 والإيطالي تجاه التراث الاستعماري في ليبيا. وقد أدى ذلك إلى سياسات غامضة أعاقت أي عمل هادف من جانب الاتحاد الأوروبي.

لكن ليس لتركيا مصلحة دافعة واحدة، بل تعمل وسط مزيج معقد من العوامل الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية التي دفعتها إلى التدخل متعدد الجوانب في ليبيا.

ورغم التفاؤل الناتج عن التطورات الأخيرة لا تزال العملية السياسية الليبية هشة للغاية. ولم ينطلق بعد تنفيذ العديد من القرارات المهمة التي اتخذتها مجموعة 5+5 والحوار السياسي الليبي، وهي انسحاب المرتزقة الأجانب وفتح الطريق الساحلي وتبادل الأسرى ووضع الأساس الدستوري لانتخابات 24 ديسمبر 2021.

كما يتعين على حكومة الوحدة الوطنية وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا السيطرة على العنف في البلاد وتحديد مصير الجماعات المسلحة، بالإضافة إلى معالجة مخططات القوى الإقليمية والدولية المتضاربة بشأن ليبيا ووقف التدخلات الخارجية في سياساتها وأمنها.

ومن المقرر أن تنمو المنافسة الأجنبية في الأشهر المقبلة مع اقتراب موعد الانتخابات النهائي، حيث تحاول كل قوة خارجية تشكيل نتيجة التسوية السياسية في ليبيا ومكانتها الخاصة وفقا لمصالحها السياسية والاقتصادية.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP