الجديد

فاشلون .. عنيفون وبلاء حياء

المهدي عبد الجواد

يعيشُ التونسيون وضعا صعبا على أكثر من واجهة. انتشار رهيب لوباء الكورونا وخاصة “سلالاته المتحوّرة” وقد توافدت على “تونس المحروسة” من كلّ جهات الأرض الأربع، صينية وبريطانية وجنوب افريقية وبرازيلية وهندية وحتى نيجيرية، فأرض تونس أرض “الترحاب الدائم”، ولكنها مثل “قنديل باب منارة” تُحسنُ وفادة الأغراب ويسيء أهلُها إلى بعضهم بعضا.

تتكاثر صيحات الاستغاثة من ولايات البلاد الداخلية والساحلية على السواء، فهذا الفيروس اللعين “عادل كالموت” ومُقسّم بالتساوي “كالعقل” بين الجميع، فهو لا يُفرّق بين الغني والفقير، ويضمن المساواة بين الذكر والأنثى، يدخل الزرائب والمنازل مثلما يزور الفيلات والنزل والقصور، يضربُ نواب الشعب الذين يضربون بعضهم بعضا مثلما يضربُ الناخبين الذين اكتفوا ذات يوم بغمس إصبع في الحبر، يتمنى الكثير منهم “بترهُ” اليوم ندما.

كورونا الصحة، لا تقلّ فتكا على باقي الأوبئة، فقر وغلاء وتضخم وبطالة وشحٌّ في المياه وانقطاع للكهرباء. وكأن السماء رفعت يدها على هذه الأرض التي باركتها طويلا. فاشتعلت درجات الحرارة لتبلغ معدلات لم تشهدها تونس منذ أكثر من سبعين عاما. ومع كلّ هذا تجتاحُ معظم التونسيين مشاعر اليأس والغضب و”قلة ذات اليد” وانعدام الحيلة للخروج من كلّ هذه المآزق.

لقد برهن التونسيون دائما أنهم شعبٌ قادر على “الصمت” والتحمّل، يفضلون عدم المُواجهة مع قدرة عجيبة على التّأقلُم مع التطورات. فشخصية التونسي القاعدية، بحسب دراسة المرحوم المنصف وناس تكشفُ أنه يُطاوعُ الأوضاع الصعبة ويتهرّب من المسؤولية.

ويُضيف الدكتور وناس في تشريحه للشخصية التونسية أنها مختلّة ومهتزّة قيميّا وسلوكيا ونفسيّا، وهو ما يُعبّرُ على حالة من الانفصام بين المنطوق اليومي والمعيش الحقيقي للمجتمع. ويصل الكاتب في الأخير، إلى القول بأنّها شخصية متوتّرة  وتعتمد في منطوقها اليومي العنف اللفظي رغم كونها شخصية مُهادنة.

أستحضر هذا التشريح الانتروبولوجي والنفسي السلوكي للشخصية القاعدية التونسية، في هذه اللحظات العصيبة، حيث تتجلّى كل هذه “الميزات” دُفعة واحدة. فبقدر ما ارتفع منسوب “العزوف عن الشأن العام واللامبالاة والاكتفاء بالفُرجة” التي ازدادت بفعل “الثورة الاتصالية” وشبكات التواصل الاجتماعي، فكلّ عمليات سبر الآراء تتحدّث على ارتفاع نسبة اللامبالين لتبلغ حوالي الثلثين من عموم الناخبين. ارتفع معها ضربٌ من الاستسلام واليأس، وتشير الدراسات إلى إن معدلات التشاؤم تتجاوز الــ80%، وأن حوالي 90% يرون أن البلاد تسير في الطريق الخطأ، ويفقد أغلبهم الثقة التامة في كل الأحزاب والسياسيين والمؤسسات باستثناء المؤسسة العسكرية تقريبا.

ويرتفع مع كل هذا منسوب العُنف اللفظي والمادي، وقد مكنت وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي الكثير من التونسيين والتونسيات من مُمارسة “هواية” السبّ وهتك الأعراض والشتيمة وإطلاق الألسن بالبذاءة بكل حرّيّة، بل صار ثمة شخصيات مُبدعة ومواقع مختصة في نشر البذاءة ومُمارسة العُنف. وتمتلئ الجرائد والمنصات الإعلامية بأخبار الجرائم البشعة من قتل وحرق واغتصاب العجائز والصغار ذكورا وإناثا.

خرج “المارد النوميدي من قُمقُمه” ، وأكتسح العُنف كلّ الفضاءات، وخاصة الفضاء السياسي. وعشنا البارحة “حلقة أخرى” من حلقات العُنف السياسي داخل البرلمان، حيث اعتدى النائبان الصحبي صمارة وسيف الدين مخلوف على النائب عبير موسي. ووسط تشنج كبير داخل المجلس حفلت “صفحات الفايسبوك” ببيانات الإدانة الجماعية لهذا العُنف الذي رأى فيه الكثيرون عُنفا جندريّا وسياسيا، جعله الوزير السابق سمير لعبيدي موجبا للمساءلة الدولية في إطار مناهضة العنف ضد النساء المُنتخبات.

هذه الهبّة “الجماعية” تكشف بُعدا آخر من أبعاد الشخصية التونسية هو ” التوتر والانفصام”.

لم يُغادر التونسيون منذ سنة 2011، فضاءات العُنف اللفظي والأدبي بل والمادي. فالجميع يتذكّر العُنف الذي مورس في كل مكان من قبل رابطات حماية الثورة وجحافل “السلفيين” ضد المثقفين والإعلاميين ودور السينما والعرض واجتماعات الأحزاب، وبلغ منتهاه بالاغتيالات السياسية في حق لطفي نقض وشكري بلعيد والحاج محمد البراهمي وعشرات الجنود والأمنيين.

وتواصل العُنف السياسي في درجاته القُصوى منذ بداية المدة النيابية 2019/2024، حيث واصل رئيس الجمهورية هواياته في استهداف “تونسيين” مختلفين عنه، مرّة لكونهم فاسدين، وأخرى لأنهم متآمرين ومتحالفين مع الصهيونية أو لأنهم لا وطنيين.

كما رفض رئيس الجمهورية كل الدعوات للحوار، وقطع الصلة مع مجلس نواب الشعب الشرعي المُنتخب، وتجاهل رئيس الحكومة ويرفضُ التواصل مع وسائل الإعلام. فرئيس الدولة يُمارسُ عُنفا رمزيا ولغويا على التونسيين وعلى اللغة العربية نفسها، ويُغذّي بحرصه على تعميق الانقسام داخل المجتمع كل نزعات العُنف، وليس التحاقه ببعض التظاهرات المنادية باستهداف المؤسسات والشرعيات، أو استقباله لبعض الشخصيات “الجدالية”  إلا دليلا على ذلك.

وواصل النوابُ من كُتل مختلفة هواية العنف اللفظي والمادي. وصار البعض منهم يُمارس دور “الداعر العلني” وتابع التونسيون بقرف تسجيلات وتسريبات بذيئة وجنسية تبادل نوابٌ نشرها. وحرصت عبير موسي على ترذيل المشهد السياسي وتعطيل عمل البرلمان، فاحترفت منذ انطلاق أشغال المجلس على تعطيل جلساته بممارسة “عنف صوتي” واستهتار بحرمة الجلسات وتعدي على المعطيات الشخصية لزملائها النواب و”التحرّش المعنوي ” بهم.

ولم تتأخر النائبة سامية عبو ونواب الكرامة والتبيني وغيرهم على الانخراط في “كتيبة العنف” والبذاءة والاستهتار العلني، بمصالح التونسيين وإهدار المال العام، وتحويل وجهة الاهتمام على القضايا المُلحّة نحو “سلسلة” لا متناهية من العنف اللفظي والمادي والبذاءة الأخلاقية.

يُمارسُ حُكّامُ تونس، تماما مثل معارضيهم يوميا كل أشكال العُنف الرمزي والمعنوي واللفظي والمادي على التونسيين والتونسيات، وليس أقلّهُ “غلبة الرداءة” المعرفية والأخلاقية عليهم، وبقاء مئات الكفاءات بعيدة على مراكز القرار والسلطة.

إنهم فاشلون ولا حياء لهم بتاتا. فاشلون ووقحون تماما. وإذا كانت الشخصية التونسية قد “طوّرت قدرة على تجاوز ذاتها وتأجيل مصالحها الخاصة من أجل استنباط وسائل تطوير الحياة، لترتقي بالأفراد وتحسّن المكاسب المشتركة وتعود بالنفع على المجتمع في عمومه” مثلما ذهب الى ذلك منصف وناس، فإن هؤلاء حريصون على تدمير المُشترك وتقديم الذاتي.

وهو ما يُعيد للنقاش أسباب فشل عملية الانتقال من مجتمع “الزّبونية” والرداءة والعُنف، إلى مجتمع “الكفاءة” والإدارة السلمية للحياة فيه. التونسيون في ورطة حقيقية يُعانون نُخبا فاشلة وعنيفة وبلا حياء وعديمة الكفاءة، ولكنها “محطة جديدة” يُهادنونها قليلا قبل استنباط طرائق “التحايُل” عليها. وفي انتظار ذلك يبقى عُنفُ الطبيعة هو الأقسى، حرارةٌ خرافية وفيروس كورونا مُتعدّد السلالات وشحّ في المياه.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP