الجديد

الرئيس الباجي قايد السبسي وبراعة الخطاب

شعبان العبيدي

تمرّ اليوم – 25 جويلية 2021 –  الذّكرى الثانية لوفاة الرئيس الباجي قائد السبسي ونحن نعيش في بلادنــا وضعا مأســــويا على كافّة الأصعدة، في فترة تاريخية خلنا أنّ السّاحة السياسية ودّعت معه آخر رجال الدّولة ورمـــوزها وفتحت الباب لمرحلة الدّخلاء على الدّولة والجاهلين بنواميس تسييرها وحماية هيبتها وإشعـــاعها إقليميا وعالميا.

وبالرّغم من تباين الآراء في قراءة مسيرة الرّجل السياسيّة طيلة الحكومات التي عــرفتها الدّولة الوطنية الحديثة، وانقلاب أعدائه ومتّهميه بالمشاركة في تصفية المعارضين خلال فترة الحكم البو رقيبي من النقيض إلى النقيض ليعترفوا له بالفضل في إنقاذ البلاد من انزلاقها إلى حــــرب أهلية، ونجاحه في وضع أسس توافق سياسيّ ساعد على حماية المسار الدّيمقراطي وتدعيمه رغم المؤاخذات الّتي واجهها.

فإنّنا أردنا أن نتناول هذه الشّخصية السياسية الّتي كان حضورها ذا وقع كبير ما بعد الثورة من جهة قدرته التّواصلية مع الشّعب وبراعته الخطابية.

لقد ترك الباجي قائد السبسي بصمة خاصّة في قلوب التّونسيين وعقولهم من خلال خطاباته وتصريحاته، حتّى باتت بعض استعمالاته اللّغوية وأمثلته واستعاراته مثار ترديد في الخطاب اليـــوميّ التّونسي.

وكان أسلوبه الخطابي سلسا منهجيا قائما على المصارحة والعمق في تناول القضايا الوطنية والاجتماعية بعيدا عن التكلّف والتشدّق، فليس هو ممن يحفل بالألفاظ الرنّانة والشقشقة اللّغـــوية، ويتجنّب معايب الكلام من الفأفأة واللّفف وهو خلط الكلام بعضه ببعض.

بل كان الباجي يسير في خطاباته ومحادثاته مباشــــرة مع الجماهير أو الإعلاميين على سرعة البديهة ووضوح الفكرة وخفّة النّكتة الحاضرة وحسن توظيف ثقافته الواسعة في فنون الأدب والفلسفة والشعر. يتفنّن في تنغيمه واختيار الــوقف وتوقيعه ببــراعته الخاصّة التّي تمكّن له من بلوغ نفوس مستمعيه والتّأثير فيها.

مكّنته ثقافته الواسعة الّتي جمعت بين سعة اطلاعه على الموروث العربي الإسلامي بمختلف جداوله من شعر وأدب وأمثال وفقه، وحفظه للقرآن، وتشبّعه من جهة ثانية بالثقافة الفرنسية وأعلامها الكبــار الذين تشرّب من إبداعاتهم وخاصّة مفكري الثورة الفرنسية وشعرائها وفلاسفتها، هذا إضافة إلى ما أتاحته له دراسة المحاماة بفرنسا من إلمام واسع بمختلف المشارب الفكرية مثله مثل جيله من أبناء الحـــــــــــركة الوطنية. هذا إضافة إلى تأثره الكبير بخطابة الزعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة.

لكن ذلك لا ينفي عنه ميزته الخاصّة في التّواصل وحسن التّعبير عن مواقفه السياسية وأفكاره. ولذلك يمكننا القول بأنّ الباجي كــــان أكثر من رجل دولة بل كان مثالا لعصر وجيل. وكانت الكلمة سلاحه في مواجهة الواقع السياسي القائمة على المصارحة والرؤية الثاقبة وعدم تزييف الحقائق. وذلك هو رجل الدّولة الحقيقي عند أفلاطون مقابل السفسطائي الذي لا يعرف الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله وهو يحاول أن يظهر للآخرين أنّه يعرف.

حين نستعيد خطابات الباجي الرسمية وأحاديثه الإعلامية والمباشرة الشعبية منها خطــــــاب 20 مارس 2015 وخطاب 10 ماي 2017 ونخضعها للتّحليل من حيث معرفته بمقاصد القول والقـــدرة الحجاجية على الإقناع والتماسك المنهجي واختيار العبارة والتوقيع ندرك أنّه فعلا رجل دولة حكيم يعــــرف كيف يغيّر أساليبه وتكتيكاته حسب المقام، وأنّه يتّبع في ذلك رؤية سياسية واقعية برغماتية، يقارب فيها الوقائع بنزاهة وجرأة تصل أحيانا حدّ الصدمة من ذلك توظيفه للأمثال الشّعبية كقوله (إلى ترحيه مباركة في عام …. وكملو البقية). هذا إضافة إلى جمعه في خطاباته بين اللّغتين العربية والفرنسية وميله إلى اللّهجة التونسية باعتبارها أقرب إلى وجدان الشعب وأقدر على التبليغ.

يعمد الباجي في خطاباته السياسية إلى حسن إيراد أفكـــــــاره وتدعيمها من ذلك دفاعه عن أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب والنهوض بواقع البلاد، وتحميله الشعب مسؤولية مع الــــدّولة في التصدّي لما يهدّد أمن الوطن، فكان أن استعار مثلا تونسيا يصوّر هول الخطر الذي وصلت إليه البلاد في عبارة موجزة تهزّ الصّدور (القضية ما عادش في الورق القضية ولّت في العتق).

و دعا في السياق نفسه إلى الوحدة و الالتقاء على كلمة المصلحة الوطنية فأخرجها بطرافة ذكية موجّهة لغـــريمه الشيخ ( يد اللّه مع الجماعة وليست مع الإجماع)، وفي هذا الغمز ذكاء و تفريق بين دعوتين: تلبية واجب المصلحة الوطنية وهي محمولة على كاهل كلّ المواطنين وبين دعــــــــــوة الإجماع الفقهي. وكذلك حمله على الإشاعات           والتشكيك في رجال الدّولة وتوزيع التهم جزافا معتبرا إيّاها مسّا بهيبة البـــــــلاد واستنقاصا لرجالاتها وتجنيّا عليهم بدون وجه حقّ وساق في هذا الإطار بيتين من الشّعر يعتبران من عيــــون الشعر القديم أوّلهما بيت أبي تمّام في مدح أبي دلف:

وأحسن من نور يفتّحه النّدى   بياض العطايا في سواد المطالب

وأخرجه من سياقه في التغنّي بقيمة الكرم إلى سياق تنزيه رجال الــــــــدّولة. مثلما نراه في الخطابين المذكورين مشدّدا على احترام الدّستور ومؤسسات الدّولة ومراعاة المصلحة العامّة، وعـــدم التّسامح بطرق قانونية مع الفاسدين معتبرا مصلحة البلاد فوق كلّ اعتبار.

وأشار إلى أنّ الحفاظ على شرف الوطن وسمعته واجب على كلّ فرد موردا المثل الّذي بتنا نعيش اليوم في ظلّه وذلّه (تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها). وبيّن أن إقلاع تونس ممكن بتظافر الجهود ومصارحة الشعب والمعتصمين في الجهات بأنّ الدّولة عاجزة اليوم على تحقيق مطالب التنمية والتشغيل حينيا، ولكن مع تواصـــــل الإصلاحات والسلم يمكن إدراك ذلك موظفا الآية (وما ذلك على اللّه بعزيز).

وبيّن في السياق نفسه أنّ التّجــــــربة الدّيمقراطية في تونس مهدّدة من الدّاخل والخارج، وأنّ الكثير من البلدان وكذلك من الأحزاب الّتي فشلت في الانتخابات التّشريعيّة وتلك الّتي أحرزت المرتبة الأولى والخطاب موّجه طبعا لحزب حركة النّهضة من خلال تضمينه لبيت شعريّ للسموأل:

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا    فقلت لها: إنّ الكرام قليل

وختم الباجي خطابه بالحديث عن اعتصام الكامور ومتابعته لما يجري في البــــــــــلاد عن كثب بمتابعة البيانات الّتي تصدر والمواقف الّتي تعبّر عنها وانسياق الكثير من السياسيين في تحــــريض المعتصمين، مبيّنا أنّه ليس من الذّين لا يفهمون الحقائق ولا من الذين تنطلي عنهم الألاعيب السياسية قائـــــلا ( مش …. هات إيدك نحنيلك).

“فبحيث” لا أحد يمكنه أن ينكر ما تفرّد به الرّجل من قدرة على الخطابة والتّواصــــل السياسي الشّعبي، وجمعه بين الكياسة والذّكاء والظّرف والنّكتة الحاضرة وبراعة تشفير الرسائل للمناوئين وكأنّ لسان حاله كان يقول (راني فايق بيكم).

وهذا ما جعله رجل دولة تمكّن من كسب محبّة التّونسيين. وكانت جنـــازته المهيبة الّتي خرج فيها الآلاف عرافانا لهذه الشّخصية بمواقفها ودورها في حماية البلاد وتجنيبها الأسوأ. وهم اليوم يبكون دموعا على أيّام الرئيس الرّاحل ويمضغون الغضب والتأفّف والمعاناة أمـــام خطابات الشّعبوية ومعارك طواحين الهواء فوق رؤوسهم.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP