الباجي قايد السبسي .. الزعيم المفترى عليه
عبد الرؤوف الخماسي
شاءت حكمة التاريخ أن يتزامن الاحتفال بإعلان الجمهورية مع وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي. و هذا التزامن يثير أكثر من سؤال و من ملاحظة في ظل ما نعيشه حاليا من عطالة مخيفة أصابت كل مؤسسات الجمهورية، و جعلتها أشبه ما تكون في حالة موت سريري، وضع يفتح الباب أمام احتمالات لا نريدها لبلادنا.
يبدو الوضع دافعا للاعتقاد بأن الباجي قائد السبسي قد أخذ معه أهم مقومات الفكر الجمهوري القائم على الإيمان الحقيقي بالقانون و المؤسسات و بإرادة الشعب دون سواها.
و لا شك أن مسيرة الشعوب لا تتوقف عند الأشخاص و لا ترتبط بها ارتباطا كاملا و لكنها تتأثر بها إلى أبعد الحدود. و من هذه الزاوية فإن الباجي قائد السبسي لم يكن شخصية سياسية عادية لعدة اسباب يمكن إبراز أهمها بالعودة إلى جوانب من مسيرته السياسية و التي قامت على الإيمان بالشعب و الانحياز المطلق له.
ينحدر الباجي قائد السبسي من عائلة ارتبطت تاريخيا بالعرش الحسيني و لكنه كان حاسما في السنوات التي سبقت الاستقلال في رفض فكرة الملكية الدستورية التي وجدت صدى لدى قياديين بارزين في الحركة الوطنية و انتصر للنظام الجمهوري لأنه ادرك أنه الأقدر على تحقيق تطلعات الشعب التونسي تماما كما انتصر للجمهورية الثانية و للثورة لأن التنقيحات التي لحقت دستور 1959 افقدته مضمونه.
و من المفيد الإشارة هنا إلى أن الباجي قائد السبسي هو الشخصية السياسية التونسية الوحيدة التي خدمت الجمهورية الأولى و الجمهورية الثانية من مواقع متقدمة و هو الوحيد الذي تولى مسؤولية إدارة أهم الوزارات و تولى رئاسة البرلمان و رئاسة الحكومة و رئاسة الدولة.
ليس المجال مجال استحضار المسيرة السياسية و الادارية الطويلة للباجي قائد السبسي و لكنه مجال التوقف عند بعض الصفات التي تحلى بها و التي تبدو تونس في أشد الحاجة إليها في هذا الظرف العصيب.
و إذا كان من الصعب استحضار كل هذه الصفات في حيز صغير فإنه بالإمكان الإشارة إلى أهمها. فأول ما ميز الباجي قايد السبسي هو الإيمان بتونس و بدورها و بشعبها دون أن يعني ذلك تناسي مكونات هوية تونس الأخرى و خاصة علاقاتها بالعالم.
هذا الإيمان جعل الباجي قائد السبسي يتعامل مع الجميع بندية و دون السقوط في شراك الارتهان للمحاور و العواصم الكبرى و هو ما نلاحظه للأسف في هذه الأيام.
تميز الباجي قائد السبسي أيضا بنظافة اليد و هو ما جعل الجميع يعجز عن التشكيك في ذمته المالية و هو سلوك انتهجه الباجي قائد السبسي من منطلق ايمانه بأن رجل السياسة الحقيقي يعيش للسياسة و لا يتمعش منها.
و لأن الباجي قائد السبسي كان يؤمن بأن رجل الدولة الحقيقي هو الذي يعطي المثال و النموذج في سلوكه فانه كان من الرافضين لتفاهمات الغرف المظلمة و عقلية المناورة الصغرى و اقتسام ” الكعكة” لأنه يرفض منطق الغنيمة و في هذا الإطار أقدم على البحث عن التوافق مع حركة النهضة رغم الخلاف السياسي و الأيديولوجي الكبير معها.
و هنا أجد أن المسؤولية الأخلاقية تدفعني ، و قد كنت قريبا من الباجي قائد السبسي ، إلى الإشارة لبعض النقاط. واخص بالذكر لقاء باريس الذي كان سابقا للانتخابات الرئاسية و التشريعية لسنة 2014 بأكثر من عام و لم يتطرق لها بمنطق المحاصصة بل بمنطق الحرص على تجنب التوتر و العنف و توفير الظروف المثلى لاجرائها.
و أود الإشارة هنا إلى أن الباجي قائد السبسي كان يرفض أن يكون رئيسا للجمهورية خارج منافسة انتخابية نزيهة و شفافة و لو كان يقبل بذلك لخلف الحبيب بورقيبة اعتمادا على دعم خارجي .
ان التوافق الذي حصل هو التقاء حول قواسم وطنية مشتركة تمنع الانزلاق نحو العنف و التوتر و توفر للاغلبية مناخا مناسبا لتنفيذ برامجها و هو ما أراد الباجي قائد السبسي وضعه موضع التنفيذ و هو في جوهره ضد منطق الإجماع المناهض للديمقراطية.
و لكن الأطراف السياسية الأخرى هي التي أفرغت التوافق من معانيه النبيلة و جعلته مدخلا للمناورات السياسوية و لتكريس المحاصصة في المواقع و المناصب.
و لا شك أن حرص الرئيس الباجي قائد السبسي على الفعل و التأثير إلى آخر أيام حياته يقيم الدليل على وطنيته و تمسكه ببرنامجه و هو الذي حاول على سبيل الذكر لا الحصر تكريس المساواة التامة بين المرأة و الرجل مع ما في كل هذا الحرص من شجاعة سياسية و إيمان بالمستقبل و توفير لاطار عيش أفضل لأهم شريحة في المجتمع.
كان الباجي قائد السبسي واقعيا دون ابتذال و خضوع للواقع و مثاليا دون اغتراب عن تفاصيل الواقع و اكراهاته.
رحل الباجي قائد السبسي كبيرا و ترك خلفه إرثا نيرا نستلهم منه و لن يقدر الذين لولا الباجي قائد السبسي لما كانوا سياسيا على المساس به مهما افتروا و روجوا الأكاذيب إذ اتضح جيدا أن هؤلاء قد فقدوا بعد أن رفعت عنهم يد الباجي قائد السبسي كل قدرة على التأثير و الفعل و لم يبق لهم إلا وهم الزعامة و ترويج الاراجيف و الأكاذيب في حق زعيم حقيقي ستزيد الأيام تثمين ما قام به على امتداد عقود من الزمن لفائدة تونس و شعبها .
Comments