الجديد

مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل … معركة الثوابت في لحظة عاصفة

المهدي عبد الجواد

تنطلق غدا في مدينة صفاقس ، أشغال المؤتمر 25 للاتحاد العام التونسي للشغل، اكبر المنظمات الوطنية.  هذا الحدث الهام ينعقد في سياقات مشوبة بالتوتر، سواء داخل المنظمة، أو في البلاد.

يجتمع أكثر من 550 نائبا لتقرير مصير المنظمة، في لحظة كما سبق وأن بينا “فارقة”، في تاريخ البلاد الحديث، ينعقد المؤتمر في صفاقس وفي ذلك أكثر من دلالة، ففي صفاقس انعقد مؤتمر الحزب الحر الدستوري في نوفمبر 1955 تحت حماية النقابيين بقيادة الزعيم الحبيب عاشور واحمد بن صالح.

وحينها نجح النقابيون في تمرير “التقرير الاقتصادي والاجتماعي”، الذي تحول فيما بعد إلى برنامج الدولة الوطنية اثر حصولها على الاستقلال.

لقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل شريكا حقيقيا في معركة التحرير وركنا أساسيا في بناء الدولة التونسية الحديثة، وشريكا فعليا للحزب في قيادة البلاد. وتداخل في تونس العمل النقابي بالحزبي بشؤون الدولة. ونعتقد أنه لا مجال لدراسة تاريخ تونس المعاصر، دون ادراك هذا التداخل العميق بين هذه المكونات الثلاث.

لقد انبنى الاتحاد منذ بداياته على ثلاث مبادئ مركزية، يتم استحضارها بقوة في هذا المؤتمر وهي التي لم تغب أبدا على تاريخ المنظمة، خاصة في علاقتها بالسلطة، وبتفاعلات المشهد السياسي في البلاد عموما.

 

1/ الاستقلالية

 

رغم أن قيادة الاتحاد كانت قيادة وطنية دستورية، شريكة في الكفاح وفي السلطة، فإن تيارا قويا داخل الحزب والاتحاد كان حريصا على استقلالية المنظمة. ولقد برز منذ بدايات تأسيس الاتحاد أن تيارا قويا “نقابيا وطنيا” حاول بلورة “عقد شراكة” مع الحزب، في الكفاح وفي البناء الوطني.

بل إن جيلا كاملا كان محيطا بالزعيم الحبيب عاشور، كان يعتقد أنه “صاحب فضل” على الزعيم بورقيبة وهو الذي قلب موازين القوى لفائدته، في صراعه مع غريمه المناضل الدستوري الآخر صالح بن يوسف.

لقد بدأت زعامات الاتحاد في تكريس مبدأ الاستقلالية منذ ستينات القرن الماضي، وشرع أحمد بن صالح في مرحلة أولى في هذه المعركة قبل أن يلتحق بقيادة البلاد، وواصل أحمد التليلي وخاصة الحبيب عاشور هذا المسار، الذي توج نهاية السبعينات بأحداث جانفي 1978.

استقال الحبيب عاشور ورفاقه من الحزب ومن ديوانه السياسي متمسكين باستقلالية المنظمة، وكانت أحداث الخميس الاسود بداية معركة طويلة عرفت فيها علاقة الاتحاد بالسلطة وبالحزب، مدا وجزرا، مازال متواصلا.الى يوم الناس هذا.

وفي هذا السياق لابد من التذكير بكون معركة استقلالية المنظمة كانت معركة بين تيارات دستورية وطنية داخل الحزب والسلطة، وأن التحاق قوى اليسار والقوميين بهذه المعركة لم يكن مبدئيا.

إذ تتدعي هذه القوى ( اليسارية والقومية/ العروبية) تبني مبدأ الاستقلالية لأسباب ايديولوجية وليس لأسباب مبدئية. إن الاستقلالية عندها تكمن في القطيعة مع الحزب فقط، إذ أنها تعمل جميعها على الهيمنة على الاتحاد وقراراته ومقدراته، وتحرص على تطويعه لأحزابها وتنظيماتها ولخياراتها السياسية. تريده مستقلا على السلطة والحزب الحاكم و تابعا لها، ومتبعا سياساتها ومنفذا لخياراتها.

ان معركة الاستقلالية مسألة معقدة، ولا يمكن فهمها الا من خلال خصوصية الصراعات داخل الحزب والدولة بين جيل المؤسسين. “فسي الحبيب عاشور” مثلا كان ضد التيار الاصلاحي المنادي بالديمقراطية داخل الحزب والدولة، ولكنه كان مع استقلالية الاتحاد ومع الديمقراطية داخله.

 

2/ الديمقراطية الداخلية

 

كانت الديمقراطية الداخلية في الاتحاد العام التونسي للشغل مسألة مركزية. وحرص النقابيون حماية لاستقلالية القرار على ضمان ديمقراطية داخلية. ويمكن أن نقول ان ديمقراطية الاتحاد كانت شبيهة بديمقراطية الحزب. ديمقراطية داخلية حسب المقاس بما يٌديم مصلحة المنظمة العليا وتحقيق ما تراه مصالح الشغالين العُليا.

ورغم تدخل السلطة في أكثر من مؤتمر فإن شكلا جنينيا من الديمقراطية تراكم حتى صار إرثا صلبا، قائما على قبول الاقلية بمنطق الأغلبية والصندوق. ورغم تدخلات السلطة، وما كان يشوب مؤتمرات الاتحاد في كل المستويات من “تكنبين” وحسابات و”أطراح” وما فيها من غياب للشفافية أحيانا، فإن النقابيين كانوا يُفضلون مصلحة “الشقف” على مصالحهم.

وهو الأمر الذي مكن المنظمة من تجاوز محطات كبرى في تاريخها. وهذا الايمان المنغرس في “الوعي النقابي الجمعي” هو الذي صان وحدة المنظمة. ولم يكن تاريخ المنظمة في مراحل عديدة بمعزل ايضا على ما طبع مراحله من صراعات.

فالفصل 20 الذي هو محل جدل عشية عقد المؤتمر الحالي،  تمت صياغته لاقصاء القيادي النقابي علي رمضان من تولي قيادة المنظمة، ومثله تمت صياغة الفصل 64 على مقاس عمارة العباسي، وتم تجاوز النظام الداخلي لانتخاب الحبيب عاشور مباشرة من قاعة المؤتمر، ولم يقدح احدٌ في ذلك لان الأمر تعلق بمصلحة المنظمة العليا ووحدتها.

 

3/  الوحدة النقابية

 

على قاعدة مبدئي الاستقلالية والديمقراطية الداخلية، ضمن الاتحاد وحدته النقابية. صحيح ان السلطة نجحت أكثر من مرّة في شق الصف النقابي، فعزلت أحمد بن صالح لفائدة أحمد التليلي ثم انتصرت للحبيب عاشور في صراعه مع التليلي، وانقلبت على  الحبيب عاشور لفائدة البشير بلاغة.

ثم واجهت القيادة الشرعية ونصبت قيادة بديلة، ثم تدخلت بداية من 1989 في كل مؤتمرات الاتحاد، لكن النقابيين ظلوا مؤمنين أن الأصل في الأشياء هو الوحدة النقابية وحماية الوحدة في انتظار تكريس فعلي للاستقلالية.

ثلاث مبادئ متكاملة صبغت تاريخ اهم المنظمات الوطنية التي صارت اليوم بفعل تطور الاحداث “مؤتمنة” على التاريخ الوطني وعلى الدولة الوطنية ومكاسبها ومصالحتها مع الديمقراطية.

ان جزءا من اللغط الذي يرافق مؤتمر اتحاد الشغل الذي ينطلق غدا بصفاقس في علاقة بالفصل عشرين، يعود لأسباب مصلحية لا مبدئية. إذ يتعلّل المعارضون لانعقاد المؤتمر بمبدأ الديمقراطية الداخلية، وهم أول من يخرق ذلك بعدم القبول بقرارات المؤتمر الاستثنائي الذي انعقد وفق القانون الداخلي للمنظمة.

كما يدعي هؤلاء خوفهم على وحدة المنظمة ولكنهم اول من يعمل على تدميرها، بخلق سابقة خطيرة وهي الاستقواء على المنظمة بالقضاء والاعلام وتأليب الرأي العام على المنظمة.

ورغم كل شيء فإن مؤتمر الاتحاد يمثل محطة أخرى، تُجدّد بها المنظمة شرعية قيادتها في مرحلة مفصلية من تاريخ تونس، تجديد يجب أن يكون مرفوقا بخبرة قيادية تمنح الاتحاد قدرات على المناورة وهوامش للتفاوض، مع الحكومة و”السلطة الاستثنائية” التي تستعد لمحادثات شاقة مع صندوق النقد الدولي عنوانها إجراءات وقرارات لا شعبية ولا اجتماعية من جنس التخفيض في الأجور أو تجميدها والتفويت في المؤسسات العمومية ورفع الدعم.

لذلك فإن الاتحاد العام التونسي للشغل يحتاج اليوم وفي هذه المرحلة الدقيقة في تاريخ المنظمة والبلاد إلى التمسك بهذه مبادئ الثلاثة وعدم التفريط فيها:  “الاستقلالية” و”الوحدة النقابية” و “الديمقراطية”،  أكثر من أي وقت مضى.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP