الجديد

فرنسا ما بين 1968 و2018

أمين بن مسعود
لا شيء في ولاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طبيعي وعادي ومتّبع لتقاليد الحكم والمعارضة, فمن الرئيس الشاب الذي جاء من خارج منطق ومنطوق الأحزاب, إلى حزبه الذي أسسه وظيفيا وعلى عجل حتّى يستحيل قاطرة نحو قصر الإيليزيه, إلى المعارضة الشعبية والجماهيرية التي خرجت بدورها عن السياقات المعتادة للتحركات الرافضة لمنظومة الحكم في باريس.
وكما كان ماكرون استثناء عن قاعدة سياسية يبدو أنها شاخت وشابت واستنفذت قوتها الرمزية على التعبئة والتجييش, كانت المظاهرات على حكمه, استثنائية شكلا ومضمونا فلا نقابات تؤطر الفعل الاحتجاجي ولا أحزاب تهيكل التحركات وتطرح الشعارات ولا جمعيات مدنية تسطّر الأجندات والأولويات.
وحدها شبكات التواصل الاجتماعي باتت هي الفضاء الأمثل للتحرك الجماعي ولوضع المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسقف التفاوض مع ساكن الإيلزيه, والخيط الناظم للتنظم صلب إطار إجرائيّ واضح المعالم ودقيق المطلبيات.
هنا تنعكس فضاءات التواصل الاجتماعي على التحركات الاحتجاجية, وتبصمها بسمتها التواصلية والتفاعلية والشبكية الأفقية, فلا قيادات سابحة في برجها العاجي بمنظمة “السترات الصفراء” ولا مكاتب تنفيذية ولا مجالس استشارية, بل هي المطلبية الاجتماعية والاقتصادية التي تجد الفضاء التواصلي الأفقي القادر على إنتاج الحدّ الأدنى من التوافق والتجميع ومن ثمة الحشد والتحرّك.
ولأنّ الاستثناء بالاستثناء يُذكر, فيبدو أنّ فرنسا التي عرفت في 1968 احتجاجات طلابية ومطلبية عريضة وغير مسبوقة, تعيد اليوم الاستحضار النسبيّ لسقف التحركات وللمضامين العميقة للاحتجاج وللفلسفات النقدية المحركة لمقولة الرفض والتنديد.
ولئن وجدت حركة 68 في الموسيقى والجامعات والبنطول الضيق – الجينز- الفضاءات البديلة والموازية التي تمكنت عبرها من تملّك نفسها وإعطاء هوية لتحركها بمنأى عن ما يسميه عالم الاجتماع بيير بورديو “النظام الرمزي المستحكم”, واستطاعت بذلك أن تفرض رأيها ومطلبها بإسقاط رئيس الحكومة حينها “بومبيدو”, فإنّ حركة 2018 أدركت في فضاءات التواصل الاجتماعي المجالات الرديفة لصناعة ذاتها وتأكيد هويتها النضاليّة والتمسك بمطالبها, بل ورفع سقف تطلعاتها أسبوعيا إلى المناداة باستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
يكشف المشهد الاحتجاجي الفرنسي اليوم, بشكل واضح عن ضعف وتأخر دور الفاعلين السياسيين التقليديين وعن هشاشة الفاعل الاجتماعي ممثلا في النقابات أو الجمعيات المهنية, والانزياح نحو فاعلين جدد في فضاءات تواصلية جديدة, تحكمها المطلبية البديلة لا الإيديولوجيا أو الديماغوجيا, والأفقية التأطيرية لا العمودية القيادية.
ولئن جازت تسمية “الثورة” أو “التمرد” عن التحركات الحاصلة, فلأنّها في العمق وفي التفاصيل رفض لمسلكيات العمل السياسي والنقابي السائد ولمنظومة الحكم القائم حيث تتقاطع بشكل ناعم وموضوعي ” صناعة الإعلام مع مصالح الشركات الرأسمالية مع حسابات أصحاب النفوذ”.
هكذا تبدو حركة “السترات الصفراء”, احتجاجا أعمق من مجرّد التنديد برفع أسعار الوقود والمحروقات – على أهمية هذه المطالب في ظرف اقتصادي ومالي جدّ حرج وحساس-, فالحركة ذات حمولة نقدية ضدّ المؤسسات الإعلامية الكبرى وذات طابع رافض للرأسمالية المتوحشة وفي ضفة مقابلة للوصفات الجاهزة التي تقذفها الحكومات المحاصرة من المانحين الدوليين على كاهل الطبقة المتوسطة التي تجد نفسها مضطرة لدفع فاتورة باهظة مرة باسم الضرائب وأخرى باسم فشل الفاعل الاقتصادي في اجتراح الحلول وصناعة التنمية.
وبمنأى عن الأعمال العنيفة التي قام بها بعض أفراد الحركة والتي طالت مؤسسات سيادية, فإنّ عمقا فكريا ورؤية نقدية للمقاربة الرأسمالية المتوحشة ولاستضعاف الدولة من قبل الشركات الكبرى والفاعلين الاقتصاديين الدوليين, يجسّد القاطرة والخيط الناظم للسترات الصفراء.
ولن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ صدى فكريا للمدونة الفلسفية النقدية (ميشيل فوكو وبيير بوديو…) له وزن وتأثير لا فقط في مطلبية المحتجين بل في الفلسفة والأفكار والتمثلات التي تجسد تصوراتهم ورؤاهم, ولئن جسدت أفكار الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر ومقولاته الكبرى محرك تحركات 68 فإنّ أفكار بيير بورديو سيما منها تلك المتعلقة بالاقتصاد والإعلام والعنف الرمزي تمثل العمق المعرفي لحركة البدلات الصفر.
وكلّما تقاطعت الأفكار الثورية مع المجالات المفتوحة مع الأوضاع الاجتماعية الحرجة والحساسة, كلما اتقدت الرغبة الجماهيرية في تغيير المشهديات واستبدال المنظومات الرمزية الحاكمة والمستحكمة.
في الأثناء, هناك شعور بخيبة الأمل في الرئيس الشاب لدى شريحة واسعة من المحتجين, فالشاب الذي جاء من خارج الصندوق السياسي والحزبي, والذي أطلق “ثورة الشكّ” في الثنائية الحزبية الحاكمة لفرنسا منذ أكثر من نصف قرن, ونال ثقة واسعة من الشباب الذين كانوا على حافة “تطليق العمل السياسي”, سرعان ما التهمته “طاحونة” البيروقراطية الفرنسية وباتت أفكاره الانتخابية النيرة جزءا من أرشيف صالح فقط للدراسة في مباحث الدعاية والتأثير صلب جامعات علوم الإعلام والاتصال.
ولم تمر سنة سياسية إلا وظهر بالكاشف أنّ حزب “فرنسا إلى الأمام” عاجز عن إدارة دواليبه الداخلية وعن اجتراح قيادة قادرة على التفكير في مرحلة ما بعد “الرئاسة” و”الفوز في البرلمان”, بل إنّ “أصدقاء الرئيس” الذين اجتمعوا حوله إبان النصر الانتخابي سرعان ما تلاشوا واضمحلوا وتساقطوا على وقع الخيبات والصعوبات التي واجهوها عند دخولهم إلى معترك الحكم والحكومة.
يبدو انّ الحزب الذي ينشأ لغاية انتخابية صرفة دون غرس فكري أو سياسي أو مقاربة اقتصادية عميقة, سرعان ما يفشل في الاستمرار والتواصل الطبيعيين, فمن المنطقي أنّ التنظيم الذي ينشأ براغماتيا ملاحقا هدفا ومأرب, يموت ببطء وبعد محاولات عديدة للإنعاش ولإحياء القلب, ولنا في أكثر من عاصمة عربية وغربية أكثر من دليل وشاهد…
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP