الجديد

محمد كرو: محاولة لفهم وتفكيك “ظاهرة قيس سعيد” و بقية الفاعلين السياسيين والاجتماعيين .. تونس الى أين ؟  

بقلم: محمد كرّو /باحث في علم الاجتماع والانتروبولوجيا السياسية/

نشر الباحث في علم الاجتماع محمد كرو، مقال مهم في موقع مجلة “ليدرز”  بالفرنسية تحت عنوان: “في تعقّد وصعوبة فهم وتحليل الأحداث “،  وتم نشر هذا النص قبل صدور مشروع  الدّستور الجديد،  وذلك في مسعى من الباحث الى المساعدة على وضع إطار للنّقاش، من أجل الوصول الى حوار معمّق يتجاوز التناول المبسط السائد اليوم للشأن الجاري،  أو على الأقل التوصل الى التّوفيق بين البساطة والتّحليل المدقّق، من أجل المساعدة على الفهم والتحليل.

 تمرُّ البلاد التّونسيّة حاليّا بمرحلة استثنائيّة فارقة، هي جزء من مسار تاريخيّ من الانتقال السيّاسيّ، ذي طبيعة غامضة ولا يمكن التنبؤ بمآلاته. وليست حقبة عدم اليقين وغموض المسار خاصّة بتونس، بل هي لا تستثني أيّ بلد من بلدان العالم الحاليّ، حيثُ تفرضُ العولمة منطقها في تدميــــــر المجتمعات، وإعادة هيكلتها وهيكلة أنماط التّنظيم والتّفكير.

 

من نظام سياسي هجين الى نظام سياسي غامض

 

فقد تغيّرت السّلطة السيّاسيّةُ التّونسيّة، منذ إعلان حالة الاستثناء في الخامس والعشــــرين، من شهر جويلية/ يوليو لسنة 2021 ، من نظام سياسيّ هجين يسيطرُ عليه الإسلاميــــون، الّذين وضعوا البـــــــلاد على ركبتيها، إلى نظام سياسيّ غامض، أصبح الآن بيد رجل واحد، يقدّم نفسه على أنّه  “منقذ”  أمّة  “مهدّدة” ، في أسسها بالفساد وبمخاطر الفوضى وانهيار الدّولة.

وأمكـــــــن بفضل الإجراءات الاستثنائيّة التي جاء بها المرسوم الرئاسيّ 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 أن يتـــولّى رئيس دّولة (نظريا) جميع الصّلاحيات، من أجل تنفيذ برنامجه الإصلاحي، وكان في هذا التمشّي مـــدعوما كما كان من قبل بقوّات الأمن والأغلبيّة السّاحقة من الشّعب، منذ أن انتُخب رئيسا للجمهوريّة عـــــام 2019 عن طريق الاقتراع العام المباشر ب72 بالمائة من الأصوات.

وكانت وجهات النّظر والمواقف من المرور بقوة  Le coup de forceالذي قاده رئيس الجمهـــــــورية في الخامس والعشرين من شهر جويلية/ يوليو مختلفة  ومتباينة لدى عامة النّاس والنّخب والفاعلين السياسيين ووسائل الإعلام الــــوطنية والدّولية.

لكنّنا عندما نسأل التّونسيين اليوم عن الوضع الحاليّ الذي يلفّ البلاد تكون الإجابة فورية، مهما كانت مواقفهم من الأحداث: “لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون”. وهكذا نرى أنّ “الغموض الفنيّ” هــــــو سمة الجوّ الذي يسيطر على النّفوس في سياق أزمة عالمية، وهي في الوقت نفسه أزمة سياسيّة واقتصــــــــــاديّة وبيئية واجتماعية وأخلاقية شاملة.

عندما نقرأ، من ناحية أخرى، مقالات منشورة وموزّعة دوليا عن تونس، تبـــــــدو لنا الصّورة واضحة جليّة، وهي أنّ البلاد لا محالة قد انتقلت من ديمقراطية تعدديّة ناشئة إلى ديكتاتورية فردية.

لا يقابل هذا الوضع الكاريكاتوري والسرياليّ الذي يتقاسمه المثقفون والسياسيون التّونسيـــــــــون وكذلك الصّحفيون والمراقبون الأجانب، سوى الجهل بحقائق البلاد التّونسية وأزماتها.

 

تونس قبل وبعد 25 جويلية .. لا ديمقراطية و لا ديكتاتورية

 

إنّ تونس هذا البلد الصّغير الذي يمثّل مزيجا من السكّان والثقافات والأفكار، ليس حاله في الوقت الرّاهن كما في الماضي القريب ديكتاتوريا ولا ديمقراطيّا. ولا يمتلك بخلاف ادّعاءات ومـــــــــزاعم هذا الفريق أو ذاك الوسائل ولا الطموحات التي تؤّهله لذلك.

بل هي دولة في سياق تحوّل كامل، مشـــدودة في الآن ذاته إلى جملة من التقاليد، ومن بين هذه التقاليد التّاريخية والاجتماعيّة المتحكّمة فيه، هناك فكرة ” سلطة الرّجل الواحد” ،علاوة على النّظرة الذكورية، هذا التصور المهيمن هو الذي يشكّل  سواء في الخفاء أو في العلن نزعة السلطة القويّة.

من هنا تأتي الحاجة الجامحة إلى إعادة إنتاج النّظام الـــــرّئاسي، الذي يتــوافق مع النظام الأبوي للأسرة، والذي أُعيد تنشيطه هذه الأيّام، في الوقت الّذي حقّقت فيه النّساء التّـــونسيات خلال العقود الأخيرة تقدّما مذهلا في جميع المجالات.

كانت تونس على مدى السّنــــــــوات العشر أو الإحدى عشرة الأخيرة، تعيش تعدّدية سياسيّة مع مجتمع مدنيّ شديد النّفوذ والتّأثير في الفضاء العامّ. وظلّت مفعمة بالحيوية وروح التحرّر، في مواجهة إدارة متحجّرة وسلطة في خدمة الحزب الحاكم، هي سلطة ضدّ الدّولة تلك الّتي سادت عن طريق التّحالفات والتوافقات الفاسدة، التي قادها حزب “نداء تونس” المنحل اليوم، وهي حيلة سياسيّة ابتدعها الرّاحل الباجي قائد السبسي من الصّفر بهدف الوصول إلى رئاسة الجمهورية والتّقاسم الوهمي للسّلطة مع حركة النّهضة.

وضدّ هذا المنطق الإسلاميّ اللّيبراليّ الفاسد، يظهر اليوم “دخيل” جديد يتمثّل في شخصية بارزة اسمها قيس سعيد، شخصية تجمع بين النّزعة الوطنية والشّعبوية وبين الخصوصيّة التّونسيّة والعــــــروبة والإسلاموية، مع إصرار لافت من أجل إعادة إحياء دور الدّولة الوطنيّة المستقلّة  ذات السيادة، وهو في هذا النّزوع أقرب ما يكون إلى “ديغول” منه إلى عبد النّاصر، وإلى بورقيبة منه إلى القـــــــذّافي، وذلك بالنّظر إلى جانبيه العاطفي والبراغماتي والطوباوي والواقعي.

وطالما أنّنا لم نفهم المظهر النّفسيّ الاجتماعيّ لهذا النّوع الجديد من مثال “الـــــزّعيم الوطنيّ” ، من خلال الاستماع إلى خطاباته ومراقبة نهجه السياسيّ المتطوّر عن كثب، نحو هدف ديني للخلاص الوطنيّ،  فإنّه يضلّ من الصّعب تحديد كيفية تشكّل السياسة في هذا البلد.

 

تونس اليوم: تعقد الوضع .. سوء الفهم يسود

 

إنّ تعقيد الوضع السياسيّ التّونسيّ، لا ينبع من سلطة تفتقر إلى حدّ الآن للمــــــــــوارد اللاّزمة والكافية لممــــارستها الخاصّة فحسبُ، ولكنّها تنبع أيضا من نقص المعلومات وكيفية التّــــــواصل اللذين يميّزان الوضع الحاليّ ، حيث يسود سوء الفهم جميع مستويات الحياة.

ومع ذلك تأتي المعلومات أو المعطيات كما نعلم من ثلاثة أطــــــــــــر اجتماعيّة للمعرفة السيّاسيّة: الذّكاء والحكّام والمحكومين. تتفاعـــل هذه الأطر الثلاثة مع بعضها البعض، غيـــــــــــر أنّ ترابطهـــــا ذاك لا يستبعد استقلاليتها النّسبيّة.

فنحن نرى أوّلا أنّ المعطيات الوطنيّة والعالمية تعيش ضــــــــربا من التّناقض، حيث تستفيد هذه القوى من الكثير من المعلومات دون أن يتوفّر لها الوقت الكافيّ والقدرة التّحليليّة اللاّزمـــــــة لفهمها، هذا إضافة إلى أنّ هذه القوى تتبادل القليل من المعلومات فيما بينها وخاصّة مع الجهــات الفاعلة، بصرف النّظـــــر عن الجهاز الأمني الذي يتصدّر مؤسّسات “الذّكاء” .

ثانيا نـــــــرى أنّ السّلطة الرئاسيّة مهما كانت شـــــــرعيّة وشعبية صاحبها،  ليست محاطة في واقع الأمر بفريق من ذوي الخبــــــرة ولجان تفكير من الخبراء، يمكنها أن تسلّط الضّوء على أسلوبها في الحكم، وتوجّهها نحو الممــــــــــارسة الفعليّة لمشروعها السياسيّ، ومن هنا جاءت أسبقيّة الخطابة على تنفيذ مشروع الإصلاح الفعليّ.

ماذا تبقّى، إذن، لفهم تطوّر الوضع إن لم يكن وضع المحكــــــــومين أو “الفاعل الشّعبيّ” الذي يجمع في الوقت نفسه بين التقلّب والتحفّظ إضافة إلى ما يتميّز به من روح عملية تدفعه للــــــــــدّفاع عن مصالحه العاجلة والمحتملة.

هذا الشّعب الذي رفع شعار سقوط النّظام القديم ليست له آفاق واضحة، وهــــــو يجد نفسه في مواجهة صعوبات ماليّة ومهارة خطابيّة متشدّدة.

انطلاقا من هذه السّاحة السياسيّة الشـــــــــديدة التعقّد، والّتي علينا إعــــــــــادة تحليل مظاهر التنوّع فيها والــــــــــــوحدة بلغة بسيطة، يمكننا وضع تشخيص موضوعيّ للوضع يأخذ بعين الاعتبــار خصوصيات الفاعلين في مسرح الحياة السياسيّة.

وقد اتّضح لنا في الواقع، رغم سوء الفهم السّائد على مستوى رقعة الشطرنج الوطنيّة، أنّ العنف لا يزال تحت السيطرة، في حين يشهد المشهــــــــد السياسيّ والاجتمـــاعي والأيديولوجي انقساما حادّا، بين معارضي الخامس والعشرين من حركة شهر يوليو من جهة، ومع مناصري رئيس الجمهورية مــــــن جهة أخرى.

 

أي دور للاتحاد العام التونسي للشغل ؟

 

وهكذا تمّ استبدال الازدواجيّة القديمة، بين الإســــلاميين والحداثيين باستقطاب جديد، بين المعارضين لقيس سعيد وبين المؤيّدين له. هذا الاستقطاب الذّاتي والعاطفي الّذي يمكن تفهّمه بالتّأكيد على أنّه نتـاج منطقيّ للتّناقضات السياسية، لا يساعدُ على إدارة الأزمة الخطيرة الّتي تمرّ بها تونس، لأنّ الانفعال العاطفيّ ليس حلاّ سحريّا للتصدّي لعمليات التّدمير الموضوعيّ للمؤّسّسات الرّسميّة وغير الرّسميّة للمجتمع والاقتصاد والسياسية.  ما هي الحلول الّتي يمكنُ أن نتوقّعها؟ هل هناك أمل في إنقاذ “القارب” لتونس اليوم؟

يبدو، من المنظور التّاريخيّ للسيّاسة، أنّ دور الاتّحاد العام التّونسيّ للشّغل لا مفرّ منه، ويـــتـــوجّب على قيادة الاتّحــــاد باعتباره هيكلا وسيطا بين الدّولة والمجتمع، أن يعيد إطلاق نــــــــوع جديد من التّشاور مع السّلطة السياسية والاقتصاديّة، يختلــــــــف عن نوعية الحوارات السّابقة، ويعمل على ابتكار تصوّر جديد للحوار السياسيّ، يمكّن من الخروج من الأزمة.

 

نشر هذا المقال بالفرنسية في موقع مجلة “ليدرز”، ونقله للعربية الباحث في الحضارة واللغة العربية شعبان العبيدي، العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية من اختيار هيئة تحرير موقع “التونسيون”، وفي ما يلي الرابط الأصلي للمقال:

https://www.leaders.com.tn/article/33556-mohamed-kerrou-de-la-complexite-et-de-la-difficulte-de-comprendre-et-d-analyser-l-actualite

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP