الجديد

تفكيك بناء التفكير السياسي  التونسي  التقليدي .. الدولة لا تتحاور و لا تتوافق  

رابح الخرايفي 

انتاب جمهور واسع من نخب التونسيين والتونسيات خوف كبير استخلصته من ردود الفعل الموثقة على شبكات التواصل الاجتماعي وما نُقل لي شفويا مباشرة أو بواسطة ،حيث امتزج هذا الخوف باتهامي باني أدعو إلى  الاستبداد بعدما دحرته الثورة سنتي 2010-2011، لما عبرت علنيا في مناسبات إعلامية عديدة ، بأني أتبنى وابرر المنهجية السياسية والقانونية لرئيس الجمهورية قيس سعيد في إدارة شؤون البلاد  والتشريع بالمراسيم ،والتي تقوم على الصدمة وتقويض ركائز التفكير السياسي والقانوني الموروث من الاستقلال.

حيث يطالب العديد بوجوب الحوار والتوافق بينما كنت ارفض تلك المنهجية ،لأنه في الحقيقة هي رؤيتي واعتبر ذلك مدخل لبناء فكر سياسي جديد.

أنا ضد آليتيْ “التوافق” و”الحوار الوطني”  سواء مع الأحزاب السّياسية  التي حكمت  والتي لم تحكم ،والإتحاد العام التونسي للشغل، كعنصرين واليتين للحكم ،وصياغة النصوص القانونية ،وفض النزاعات السّياسية، والنقابية .

حجتي  لهذا الرّأي والموقف ،هي أن الدّولة لا تتحاور ولا تتوافق ، الدّولة تصوغ سياسات عمومية في مختلف المجالات،وقوانين واجبة الإنفاذ ،وإذا تبين أن تلك القوانين غير صالحة ولم تعد قادرة على تأطير الظواهر الاجتماعية، ولم تعد قادرة على حماية الحقوق، والحريات الفردية والجماعية، فإنها تُنقحُ أو تُلغى، وتعوّضها نصوص قانونية جديدة  ولا يحتاج هذا حوار وطني ونقاش خارج الأطر والمؤسسات الدستورية الديمقراطية.

المنهجية الأفضل في الحكم وفض النزاعات السياسية هي أن تُسْتبعد منهجية “الحوار الوطني” و”التوافق”  مع الأحزاب النقابات أن تُنقح هذه القوانين في مؤسساتها الدستورية  وتعوّض بأخرى جديدة، وتُعاد صياغة السياسات العمومية الجديدة من خلال الاستئناس بنتائج سبر الآراء، والمقترحات، والآراء التي تُقْترح عبر مختلف الوسائل الإعلامية، وعبر الاستئناس بنتائج ما تنتجه مراكز الأبحاث والدراسات العلمية المختلفة.

وعليه فان رفض فكرة الحوار والتوافق ليس اعتباطيا أو دعوة للاستبداد، وإنما دعوة أساسها معاينة العقم الفكري والسّياسي للنخب الفكرية، والسياسة، والحزبية التونسية. فلم تبتكر النخب أدوات أخرى جديدة لتسوية النزعات والصراعات السياسية والنقابية ، فقد بقيت سجينة فكرتي “الحوار والتوافق”.

فكلما طرأ مشكل أو أزمة في الحكم تنادت النخب السياسية، والحزبية إلى ضرورة تنظيم حوار والتوافق في إطار “حوار وطني” تُدْعى له للمشاركة أحزاب، ونقابات، وجمعيات، ومنظمات.

فكأنما هذه الآلية هي وصفة الحل السحري لكل المشاكل السياسية والنقابية والاجتماعية والمالية والبيئية …، والحل الأمثل الذي يصلح لكل الأزمان.

غير أن الواقع خلاف ذلك فكلما قبلت الدولة عبر رئيسها أو حكومتها هذا الحل إلا ودخلنا إلى “سوق المقايضات” وتبادل المنافع ،وضمان المصالح الفئوية والقطاعية. فتتغلب من ثمة القطاعية والفئوية على المصلحة الوطنية فتضعف إرادة الدولة وهذا ما لمسناه من تعاقب الحكومات والرؤساء على امتداد السنوات التي مضت بداية من بعد الثورة.

فثبت من ثمة فشل الحوار والتوافق مع الدولة. بل قادت هذه الفكرة إلى استضعاف الدولة فأصبحت الدولة تحاور الأفراد كما وقع مع معتصمي الكامور في الجنوب التونسي.

 

فشل تجربة  سياسة الحوار والتوافق: 

لقد عوضتْ آليتي توافق الدولة وحوارها مع الأحزاب السّياسية  والجمعيات ،والإتحاد العام التونسي للشغل  التي ابتدعها السياسيون والنقابيون بعد الثورة  سنة 2010-2011 ، الفكر الأحادي التسلطي في الحكم وصياغة السياسات العمومية  لإدارة شؤون البلاد في فترتي حكم الرئيسين الرّاحلين الحبيب بورقيبة (1959-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011).

غير أن تعويض آلية الحكم الفردي بآلتيْ “الحوار والتوافق” لحل الخلافات السياسية بين مختلف الأحزاب حول طريقة الحكم لم يكن صائب.

فقد أثبتت التجربة والممارسة فشل تلك الآليتين في الحكم ،وإدارة البلاد وفض النزاعات.فبدل من أن تكرس هذه الطريقة تقاليد ديمقراطية ، فتحت الباب أمام القطاعية أو الفئوية، كما فتحت الباب أمام الأشخاص كي يتجرؤوا على الدولة ومؤسساتها ، فأُفتك الرصيف، وأغلقت الطرقات ، ومواقع إنتاج الطاقة ، فتضرر الأشخاص والدولة.

فقد أفضت تلك الآلية إلي تمييع القرارات السياسية للحكومات المتعاقبة، وعجزها في عدة مناسبات على اتخاذ القرارات التي تحمي الأمن العام والاقتصاد الوطني.

وان تكونت حكومة وتنال ثقة البرلمان فإنها تكونت على تقاسم المصالح من خلال الاستئثار بعدد من الوزارات فقد وصل الأمر إلى أن يشترط حزب ما على رئيس الحكومة المكلف منحه عدد من الوزراء ووزارات محددة مسبقا بالاسم وإلاّ يصوّت ضدها.

أما الاتحاد العام التونسي للشغل فقد منحوه مكانة ودور ليس دوره وليست مكانته وذلك بإقحامه باستشارته ومشاركته في كل المسائل التي تهم مشاكل الدّولة وأزماتها .فبهذا الدّور الذي منحته إياه الأحزاب   السياسية التي تعاقبت على الحكم في تونس بعد الثورة ، كبر دور الاتحاد وأصبح يقدم نفسه بشعارات “أكبر قوة في البلاد” و”شريك في صياغة السياسات” ،فعطل إعادة صياغة السياسات العمومية الاقتصادية والمالية عبر تنظيم الإضرابات العامة والإضرابات القطاعية المتواترة فضعفت التنمية ونفر رجال الأعمال المستثمرون للتوتر الاجتماعي.

وعليه لابد من تجاوز التفكير السّياسي القائم على الحوار والتوافق والبديل الفكري هو الدفع نحو خلق ثنائية فكرية سياسية فيكون فريق في الحكم وآخر في المعارضة ، ومن كان في المعارضة يمكن أن يكون في الحكم ، فيأخذ من كان في الحكم موقع المعارضة .

 

    نحو خلق  ثنائية فكرية :

 تساعد الممارسة السياسية لرئيس الجمهورية قيس سعيد الرافضة لفكرتي الحوار الوطني والتوافق السياسي على تفكيك  أسس التفكير السياسي التونسي التقليدي ، هذا التفكير الذي أدى اعتماده إلى تمييع القرار السياسي وفشل الدولة  في إدارة شؤون الناس ومقاومة التسيب والفوضى والفساد في الإدارة العمومية.

وعليه لابد الاستفادة  من هذا التوجه لتجاوز التفكير السياسي القائم على فكرتي “الحوار الوطني والتوافق” وبديلهما الفكري هو الدفع نحو فرز فكري جديد يقطع التفكير التقليدي ويخلق ثنائية فكرية سياسية .

فيتكوّن من ثمة اتجاهين فكريين كبيرين يتنافسان ويمثلهما سياسيا وانتخابيا فريقين: فريق في الحكم وآخر في المعارضة، ومن كان في المعارضة يمكن أن يكون في الحكم، فيأخذ من كان في الحكم موقع المعارضة.

هكذا يحدد الناخب وبرامج موقع كل فريق. البرنامج والناخب هما الذين يختارا لأي فريق بكل حرية وديمقراطية موقع المعارضة أو الحكم.

أما معالجة أي فشل لحكومة أو حزب أو ائتلاف سياسي أو رئيس جمهورية في الحكم ، فيكون بالإقالة أو الاستقالة وتعيين حكومة جديدة تنظيم انتخابات سابقة لأوانها سواء كانت أن استقال الرئيس أو إقالته رئاسية و تشريعية أن تم حل مجلس النواب.

أما من الجانب الجزائي فان أي شخص ارتكب فعل يستوعبه القانون الجزائي فوجب إحالته على القضاء للتحقيق في تلك الأفعال إن كانت تكتسي صبغة إجرامية.

فلا حوار أو  توافق على مثل ذلك  تلك الأفعال ، فالدولة لا تتحاور أو تتوافق الدولة تعمل وفق قواعد قانونية واجبة الإنفاذ.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP