الجديد

المولد النبوي الشريف في تونس مناسبة دينية و روحية و عادات غذائية ضاربة في القدم

تونس 7 سبتمبر 2022 (وات)-

شارع اسبانيا بالعاصمة الذي لا تهدأ فيه الحركة خلال الأيام العادية.. تتضاعف فيه وتيرة هذه الحركة في الأيام السابقة للمولد النبوي الشريف بسبب إقبال التونسيين على شراء حبّة الصنوبر الحلبي “الزقوقو” كما يحلو للتونسيين تسميته.

يختص الشارع ببيع التوابل والبقول و الفواكه الجافة وعلى جنباته تصطف المحلات عارضة سلعها من هذه المنتوجات, إلا أن أكياس حبة “الزقوقو” الرفيعة ذات اللون الأسود المائل إلى الرمادي هيمنت هذه الأيام على الواجهات.

في الشارع بالكاد تجد منفذا لهذه المحلات بسبب كثافة حركة البيع و حرص التونسيين وخاصة النساء على الظفر بنصيب من “الزقزقو” فمع نقص كبير سجلته تونس في عديد المواد الغذائية في الأسابيع الأخيرة بات جزء من التونسيين يخشى نفاد هذه المادة هي الأخرى.

تنفرج الحركة في هذه المحلات وتزدحم أحيانا أخرى فلم يحجب مشهد زحمة هذا الشارع التجاري العريق رؤية عم حسين الذي يجذب الناظر وهو قابع أمام دكانه الذي يمتلكه منذ سبعينات القرن الماضي آبيا مبارحته والاستغناء عن مهنة الأجداد التي راكم معها خبرة السنين ما يجعله يجيد التصرف مع مثل هذا الازدحام الذي يرافق أيام المولد النبوي الشريف.

بابتسامة هادئة لا تكاد تفارق شفتيه رغم اجهاد يوم مضن من التعب، يطمئن حرفائه وخاصة حريفاته اللاتي أصبحن مرابطات بهذا المكان كيف لا وعم حسين يحسن دائما اسقبالهن بروحه المعهودة مؤكدا لهن ان الجميع ” سيعود فرِحا ويستمتع بأكل صحفة العصيدة رفقة العائلة”.

فرحة عم حسين عند استعراضه لمسيرته في هذا المكان الذي أفنى فيه عمرا كانت جلية على وجهه الستيني عبر نظرة خاطفة تجوب جميع أركان الدكان للاطمئنان على سير العمل و ظفر كل واحد من زبائنه بحاجياته ومغادرته وعلامات الرضاء بادية على وجهه، تعقبها نظرة أخرى ترمق الشارع مسترجعة ذكريات الأيام الخوالي.

يسجتمع عم حسين ذاكرته الحية ويتنهد قائلا” نكهة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لم تعد كما كانت عليه منذ سنوات إلا أن التونسي لا يزال وفيا إلى العادات والتقاليد واقتناء “الزقوقو” رغم ميل البعض إلى عصيدة “البفريوة” وبعض العصائد الأخرى المبتكرة ليظل “الزقوقو” السلطان الذي لا يفارق منازل العائلات رغم مشقة تحضيره.

أمام كيس مليئ بحبات “الزقوقو” تتناول جميلة حفنة منها و تتفحصها بأصابعها وتمعن النظر فيها وتشتم رائحتها كي تتأكد من جودة المنتوج وسرعان ما تنتفض فرحا وكانها وجدت كنزا مسارعة بالاكتفاء باقتناء كيلوغرام فقط فمقدرتها الشرائية لا تسمح باقتناء أكثر من ذلك لعائلة متكونة من ثمانية أفراد.

تقول جميلة أمام البائع غير آبهة بإظهار امتعاضها من ارتفاع الأسعار ” ليس لدي خيار آخر كل سنة أرفع الراية البيضاء أمام طقوس العادة التي ترهق ميزانيتي وتصيبها بالاختلال: فكلفة الصحفة لا تقتصر فقط على قيمة حبة الزقوقو بل تتجاوزها لتشمل متطلبات زينتها من فواكه جافة وغيرها والتي تجاوزت أسعارها المستوايات المعقولة”.

اقبال رغم الأسعار المشطة

وبخصوص الفارق بين ارتفاع تكلفة عصيدة “الزقوقو” و جيب التونسي المرهق، يرى رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي، أن المواطن التونسي لا يأبه بارتفاع الأسعار في المواسم الاستهلاكية الكبرى بل يسعى جاهدا إلى التماهي مع الظروف وأن يكون سباقا في الاحتفال بها حتى لو كانت مقدرته الشرائية لا تحتمل ذلك وهي ظاهرة تتفاوت من عائلة الى أخرى.

وأكد الرياحي ، في تصريح لـ(وات)، ان حجم الإقبال على مادة ” الزقوقو” قد انخفض هذه السنة مقارنة بالسنة الماضية حيث تراوحت أسعاره بين 25 و 30 دينار مقابل 30 و 35 دينار خلال السنة المنقضية، في حين حافظت المواد التي تحتاجها العصيدة من مكسرات وحلوى على أسعار السنة الماضية لتصل تكلفة سعر صحفة العصيدة لعائلة مصغرة وفق تقديره 80 دينار و180 دينار للعائلة الموسعة.

واعتبر الرياحي ان عامل الوقت خاصة بالنسبة إلى النساء العاملات يعد مفصليا وهو ما يدفع بالكثير منهن إلى اقتناء مادة “الزقوقو” سريعة التحضير من المحلات التي أصبحت متخصصة في إنتاجها وبتكلفة أقل.

وأردف القول “لا يمكن التوجه إلى المواطن التونسي بالنصح حاليا حول مسألة ترشيد الاستهلاك لأنه أصبح واعيا بالمسألة اكثر من ذي قبل في ظل المتغيرات الاقتصادية الصعبة التي ألقت بظلالها على وضعه المالي، ملاحظا ان منسوب الوعي قد ارتفع خلال الآونة الأخيرة لدى المواطنين بشكل آلي اذ أصبحوا يلتزمون بالتقشف في المتطلبات اليومية ويكتفون باقتناء ما تيسر في المناسبات والاعياد والتخلي عن مفهوم المقاطعة والتبذير”.

شهدت السنوات الأخيرة انتشارا للمحلات المتخصصة في بيع الفواكه الجافة والمكسرات وعصيدة “الزقوقو” و”البفريوة” سريعة التحضير وليساهم التزايد في نقاط البيع التابعة لها في إقبال المواطنين عليها.

ففي حي ابن خلدون، أحد أشهر الأحياء الشعبية بالعاصمة، تزدحم إحدى المحلات المعروفة التي تجذب كل من يمر من أمامها ببضاعتها الفاخرة والمتنوعة المحلية منها والمستوردة وبألوانها الزاهية والمرصفة بكل عناية، ليدفعه فضول عروض التخفيض لاقتناء مستلزمات العصيدة دون الحاجة إلى تكبد عناء ومشقة التنقل إلى محلات مجاورة.

عبير المشرفة على إحدى هذه المحلات في العقد الثالث من العمر تلفت الانتباه بحضورها ولباقتها وحسن تعاملها مع الحرفاء ..ترقب جميع من يعمل هناك ومدى رضاء الحرفاء وتساهم بحركاتها الرشيقة والمتسارعة في ترتيب بعض المواد المعروضة التي حادت عن مكانها بسبب تقليب أحد الحرفاء او الحريفات لها دون كلل أو ملل.

تقول عبير ” أحاول اصلاح ما افسدته الحريفات فهن أكثر فئة تقوم بزيارتنا يوميا ولا تنفكن عن المقارنة بين بضاعة وأخرى للعصيدة سريعة التحضير وليستقر الرأي في نهاية المطاف على عصيدة “الزقوقو” فهي المادة التي يكثر عليها الطلب”.

تتابع قولها “شاهدنا هذا الأسبوع إقبالا مكثفا رغم تذمر المواطنين من تدهور المقدرة الشرائية وعزوفهم خلال الأيام القليلة الماضية عن الشراء، إلا أنهم قدموا مرغمين مستجيبين لإلحاح أبنائهم على أكل العصيدة والتمتع بالأجواء الاحتفالية لهذه المناسبة الدينية وربحا للوقت والجهد خاصة بالنسبة إلى النساء العاملات”.

غير بعيد كان عم صالح يعد ما تبقى له من دنانير بعد شراء المستزمات وظهرت على وجهه علامات الاستغراب من ارتفاع الأسعار، قبل أن يضع ما تبقى لديه من دنانير بجيبه المستنزف ويحاول اقناع نفسه بأنه لم يخطئ الحساب.

ككل شهر، اصبح عم صالح يجد صعوبة في التوفيق بين جراية التقاعد ومتطلبات المعيشة التي وصفها “بالضنكة ” غير أنه يرى ان الوفاء للعادات والتقاليد يدفعه إلى اقتناء ما يخص متطلبات الاحتفال والحرص على أن تكون سنة متوراثة عبر الأجيال محفوفة بأجواء عائلية ممتعة يوم المولد النبوي الشريف.

الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ظاهرة اجتماعية شاملة كما وصفها المختص في علم الاجتماع عبد الستار السحباني، فهي تنسحب على جميع الشرائح الاجتماعية سواء كانت طبقة فقيرة أو متوسطة أو غنية أو جهات داخلية أو ساحلية أوجنوبية نظرا لتأصلها في المخيال الشعبي باعتباره سنة ووجب اعطاءه القيمة التي يستحقها .

وأكد السحباني أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحول ارتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية دون اقتناء المواطن التونسي لمستلزمات العصيدة فهو على أتم الاستعداد للتضحية بعدة حاجيات أساسية في الاسرة من اجل الحفاظ على هذا الطقس كي لا يقع الخروج عن السرب والتباهي الاجتماعي بإنجاز اما عصيدة ” الزقوقو” او عصيدة “البفريوة” التي أصبحت شكلا من أشكال التميز.

ورجح عالم الاجتماع أن يحافظ التونسيون على الاحتفال بمثل هذه المناسبات مهما كانت الصعوبات الاقتصادية وتأثيراتها وذلك من باب ابراز المكانة الاجتماعية والانتماء والانخراط في نفس الشكل الاحتفائي.

ويعود الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى القرن التاسع عشر مع الدولة الفاطمية التي كانت سباقة في تلك الحقبة وفق ما أفاد به رئيس جمعية تراثنا زين العابدين بلحارث، لتحافظ الدولة الحفصية على مظاهر الاحتفال والتي كانت حكرا على الطبقة الراقية ولم تخرج عن نطاق القصور وصولا إلى الدولة العثمانية التي ساهمت في إخراج مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف من الطابع الأرستقراطي ونشره في كل مكان وخاصة في الزوايا عبر الذكر والتهليل والتكبير والتعظيم للرسول عليه افضل الصلاة والسلام.

ومع قدوم الدولة الحسينية وقع إضفاء صيغة موكب احتفالي ضخم ليلة المولد يتخلله خطبة حول سيرة الرسول وذكر فضائله يتبعها سلسلة من الأناشيد والمدائح والأذكار مرفوقة بطلقات مدفعية وزغاريد النسوة وهي سنة لا تزال قائمة إلى اليوم.

حافظ التونسيون على تلك الطقوس مع إضافة إقامة الصلاة يوم المولد بجامع الزيتونة في الصباح الباكر يتبعها تلاوة القصيدة “الهمزية” في ذكر خير البرية على مدى ساعة ونصف تعقبها خرجة المولدية التي وقع استحضارها مؤخرا بعد أن جرى التخلي عنها منذ سنة 1942 والتي تنطلق من زاوية سيدي محرز الى زاوية سيدي بن عروس بمشاركة جميع فرق السطمبالي من كامل تراب الجمهورية.

وتزامن ظهور عصيدة “الزقوقو” مع أزمة عاشتها البلاد سنة 1864، وفق ما ذكره بالحارث، مع مرور البلاد بأزمة اقتصادية خانقة استشرت معها المجاعات و الأوبئة ومع تضاعف معاليم الجباية التي فرضها الباي على الشعب الفقير بطبعه لم يكن أمام التونسيين خيار غير ايجاد حلول بديلة لمواد غذائية لم يألفوها في استعمالاتهم اليومية فكانت حبة الصنوبر الحلبي بعد رحيها وجبة للفقراء خلال تلك الأزمة قبل أن تتحول في اشكالها الجديدة وطريقة تحضيرها المبتكرة أكلة للميسورين

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP