الجديد

عياض بن عاشور في حديث شامل لمجلة “الفلسفة” الفرنسية: الثورات العربية تفتقر إلى العمق الفلسفي

تعريب: شعبان عبيدي

بمناسبة القائه لمحاضرة في معهد العالم العربي بباريس حول أسباب فشل الثّورات العربيّة والانتقال الدّيمقراطي التقت “مجلة الفلسفة” الفرنسية بأستاذ القانون التونسي عياض بن عاشور في حديث شامل هذا نصه:

 

س/ ماذا يقول الفلاسفة والمفكّرون العرب عن الثّورة والدّيمقراطية؟ هل يمكن أن تكون كتاباتهم قد حفّزت دوافع الفعل الثّوري أو على العكس من ذلك أبطأتها؟                                                             

تحدّث المفكّرون العرب والمسلمون عن الحقيقة الثّورية لحظة اكتشافهم للثّورة الفرنسية. وقابلوها في البداية بالرّفض لأنّها كانت تجسيدا للعنة التّاريخ، فهذا عبد الرّحمان الجبرتي المؤرّخ المصريّ يتّهم الثّورة الفرنسية بأنّها دون الاستناد إلى إله أو دين وقتلها للملوك وإثارتها للفتنة (انطلاقا من مرجعية تقليدية إسلامية مبدؤها: الفتنة أشدّ من القتل). كما يأسف “حسين قاسم” لسذاجة الثّوار وجهلهم، وكتب أحمد عاطف أفندي أحد كبار المسؤولين في الدّولة العثمانية سنة 1798 كُتيّبا معارضا لأفكار الثّورة الفرنسيّة الّتي نشرها “نابليون بونبارت” في العالم العربيّ، وحمل على أفكاره وعلى معاداته للإنسانية وإلحاده. خاصّة وأنّ هذه الأفكار الّتي جاءت بها الثّورة الفرنسية تتعارض – في اعتقاده -مع اللاّهوت السياسيّ التقليدي كما بيّنت ذلك في كتابي الصّادر عن مؤسسة “فايارد 2022 “الثّورة أمل”.

وفي واقع الأمر فإنّ الثّورات والانتفاضات الشّعبيّة كانت قد اعتبرت من طرف أكبر أسماء أعلام علم اللاهوت السياسي الإسلاميّ وكذلك من قبل المؤرّخين العرب والمسلمين آنذاك بمثابة تجسيد لانتشار الشرّ في التّاريخ و انحلال العالم – الإفساد في الأرض -لما أرساه اللّه – إرساء – من نظام محكم، وذلك عقاب الهي بما كسبت أيديهم وبسلبيتهم بعبارة أخرى.

 المشروع الدّيمقراطيّ في العالم العربيّ بين الثّورة والثّورة المضادّة

وتبعا لما تقدّم، لا معنى للثّورة على وجه التّحديد من خلال السياق الدّلالي والمفاهيميّ الكلاسيكيّ لأنّها تتعارض مع المفاهيم اللاّهوتيّة الأساسية للطبيعة والزّمن والقانون والسياسة. ولهذا السبب تشكّل فكرة الثّورة الدّيمقراطيّة الّتي نقلتها ثورات 2011 إلى العالم العربيّ ثورة حقيقيّة في حدّ ذاتها. واكتسبت فكرة الثّورة خلال هذه السّنة مفهوما إيجابيا جديدا. فلم يعد يُنظر إليها على أنّها ظهور للشرّ أو عذاب مسلّط في التّاريخ. بل أصبحت أداة للتقدّم ودافعا للتطوّر التّصاعدي للتّاريخ. وقد رحّب بهذه الثّورة مفكرون عرب أمثال عبد الوهّاب المدّب وفتحي بن سلامة وصوفي بسيس وفتحي التريكي وعزمي بشارة وغيرهم كثّر باعتبارها تمثّل قفزة نوعيّة نحو التحرّر الدّيمقراطيّ، ولم تعد علامة على ظهور الشّر في التّاريخ بل باتت دلالة على كرامة الإنسان.

 

س- بعد مــــرور أحد عشـــر عاما عن بداية الرّبيع العربي، يمكن للمرء أن يشعــــر بأنّ الثّورة لم تحقّق المطالب المتوقّعة منها في العالــــم العربي الإسلاميّ –في ليبيا أو سوريا أو اليمن أو مصر على وجه الخصوص-فهل تعتقدون أنّ المشروع الديمقراطيّ آل إلى الفشل؟                                

 أعتبر أنّ المشروع الدّيمقراطيّ مشروعا واسع النّطاق منوط بالحياة الاجتماعية والعائلية والفرديّة بجميع أشكالها وتجلياتها. لا يمكن تحقيقه للّحظة والتوّ. بل إنّ تحقيقه على مستوى الأفكار والخبرة يتطلّب مسارا طويلا ومحفوفا بالمخاطر عبر الزّمن، بما ينشأ من حوادث وفترات تعثّر أو تراجع وتقلبات غير متوقّعة وما إلى ذلك من المفاجّآت. لقد غرقت الثّورات العربيّة، كما يبدو للعيان، في الحروب الأهلية ونخرها الاجتماعي، وضُلّلت وانكسر عودها نتيجة الانقسامات الأيديولوجية وعسكرة القوى الثّوريّة والانزلاق بها نحو الطّائفيّة أو عرقنه القضايا السياسيّة لتنتهي أخيرا بتدويل النّزاعات. لكن بالرّغم من كلّ هذه المزالق أصبح المشروع الدّيمقراطيّ مشروعا وطنيّا. ودليل ذلك أنّ جذوره ترسّخت في بلادنا وانسربت في تربتها.

وهذا ما تعلّمنا إيّاه الأحداث من أنّه مع الانتفاضات الجماهيرية في السودان والجزائر ولبنان والعراق، يواصلُ المشروع الدّيمقراطيّ مسيرته في وجه التعنّت السياسي والفساد وتطييف الدّولة والنّزعة السلطوية. فانظر ما يحدث اليوم في السّودان، فقد جدّ انقلاب آخر هناك في 25 من شهر أكتوبر 2021 ولكن مع ذلك استمرّت مقاومة ديمقراطيّة أخرى، ومازال البشر يسقطون ضحايا هنا وهناك حتّى تقع استعادة الحقوق والحريّات.

  إنّ الاعتقاد أنّ المشروع الدّيمقراطيّ قد انتهى به الأمر إلى الفشل التّام      في العالم العربيّ هو موقف ينمّ عن قصر نظر تاريخيّ وفلسفي

وها هي الاحتجاجات الحاشدة التّي اندلعت في السادس عشر من شهر سبتمبر 2022 إيران جاءت مؤيّدة للحريّات الفردية إثر وفاة الشّابة “مهسا أميني” واحدة من علامات هذا العصيان الدّيمقراطيّ. وكان أن انظمّ الشباب من الطلاّب وتلاميذ المدارس إلى هذه الاحتجاجات العمّالية متحديّة النّظام من خلال رموزه ولاسيما رمزية الحجاب الذي كرّسه الخميني لأغراض سياسيّة. وسيستمرّ سقوط القتلى في إلهام الدّعوات من أجل ترسيخ ديمقراطية إيرانيّة متحرّرة من القيود الّتي تقف عائقا أمام التنعّم بالحقوق والحريّات الفردية. ويقيني بأنّ الاعتقاد أنّ المشروع الدّيمقراطيّ قد انتهى به الأمر إلى الفشل التّام في العالم العربيّ هو موقف ينمّ عن قصر نظر تاريخيّ وفلسفيّ.

س-لو أخذنا مثال تونس، حيث استطاع المشروع الديمقراطي أن يزدهر، واجهت انجراف استبدادي مع قيس سعيد   لأكثر من عام: هل يثير هذا الوضع التساؤلات حول إنجازات الثورة؟

لا أرى ذلك مطلقا! فأيّ ثورة ديموقراطية مثل الّتي شهدتها تونس في الرابع عشر من شهر جانفي سنة 2014 ستواجه لا محالة نكسات وتراجعات، مثل ما يسمى بـ “استعادة المسار الثوري” الذي بدأ في 25 يوليو 2021.  وقد خدع هذا الحدث الكثيرين. ولكنّ تونس، وبعد أن عاشت تجربة ديمقراطية صعبة على امتداد عشر سنوات، انتهى بها الأمر إلى المعاناة من هذه المحنة المؤسفة، التي جرت على نحو متناقض باسم الدستور، ولم تكن في واقع الأمر إلاّ ضدّه.

ليستمرّ الانقلاب بموجب مرسوم  بصلاحيات كاملة (المرسوم 117 الصادر في 22 سبتمبر 2021)، والّذي تم تبنيه بالتواطؤ مع البعض  وهم لحسن الحظ رهط قليل ومعزول ممن انخدعوا بازدواجية راعيهم، والذي تخلّى عنهم لاحقا دون أن يأخذ بما حبّروه في مشروع دستورهم.  وكان لنا في نهاية المطاف دستور جديد لكن مدّد فعليا في حالة الاستثناء و جاء ليطيل أمدها.

ونحن نعتبر أنّ فرض حالة الاستثناء جاء ليضاعف ويدعّم الممارسة الكاملة لجميع السلطات، ويعيدنا كما يؤكّد “جورجيو أغامبن” إلى دولة قائمة على سلطة كاملة، بمعنى وفرة السّلطة الخالية من الحقوق.

ونحن نعتبر أنّ فرض حالة الاستثناء جاء ليضاعف ويدعّم الممارسة الكاملة لجميع السلطات، ويعيدنا كما يؤكّد “جورجيو أغامبن” إلى دولة قائمة على سلطة كاملة، بمعنى وفرة السّلطة الخالية من الحقوق.

وتكمن خطورة هذه الدّولة في أنّها تسعى إلى وضع مصفوفة لتشييد ديكتاتورية أكثر خطورة. ولكنّ الحراك الدّيمقراطيّ لن يلقي سلاحه في مواجهتها. وأعتقد أنّ هذا الحراك سيؤدي في النّهاية إلى سقوط هذا النّظام.  لتستأنف الرّسالة الدّيموقراطية للثّورة بعد ذلك مسارها. لأنّ الأهمّ في الثورة رسالتها، أمّا الاضطرابات السياسيّة فإنّها تذوي أو تذوب في خضمّ فعل حركة التّاريخ.

 س- ما هي أسباب فشل المشروع الديمقراطي في البلدان المعنية؟

– تعاني تجارب الثورة الديمقراطية في العالم العربي، خاصة في مصر وتونس، في المقام الأول من حالة الغموض الّتي تكتنفها. ففي سياقها الحالي، يمكن أن تؤدي الانتخابات الدّيمقراطية إلى فوز الأحزاب المعادية للدّيمقراطية بشكل كبير. ومع ذلك، وبمجرد وصولها إلى السلطة، وبفضل الأغلبية الانتخابية، تبدأ هذه الأحزاب في أسلمة كلّ من الدّولة والمجتمع. ولا مفرّ من أن تثير هذه الأسلمة القسريّة توتّرات وردود أفعال. وهو ما حدث في مصر مع الانقلاب العسكري للجنرال السيسي في 3 يوليو 2013، والانقلاب على دستور قيس سعيد في 25 يوليو 2021.

ونحن نرى في تفسيرنا لهذه الحالة من الغموض أنّ الثورات العربية تفتقر إلى العمق الفكري والفلسفي.  فالسياق الّذي اندلعت فيه الثورتان واقعي تفاعليّ، ولا يمكنهما أن يتحقّقا فعليا بشكل من الأشكال إلاّ عبر الحراك المتواصل. وهذا الأمر ينطبق على الثورات والثورات المضادّة لأنّ كليهما ينجذب نحو مراكز القوّة وينطبق هذا على الثورات وكذلك الثورات المضادة، وكلاهما يدور حول قضايا القوة أو ربح المعارك أو الغزو أو الدّفاع عن المصالح.  وهذا يعني أنّه كان من الممكن بعد اندلاع هذه الثّورات أن تدعيّ قوى سياسيّة معادية تماما مثل الماركسيين والقوميين والإسلاميين نسبتها إليها، في حين أنّها ثورات الجميع، وهذا ما يعرقلها.

ثانيًا، يحتاج النّظام الدّيمقراطي لكي يشتغل إلى مجتمع وثقافة ديمقراطيتين. والمجتمع الدّيمقراطي هو مجتمع تعمل فيه الأسرة والخلايا المهنية والجمعيات والشركات والأحزاب السياسية وفق الرّوح الدّيمقراطية. في حين تشكّل الخلايا الأساسية في بلادنا، ولا سيما العائلات، نماذج أبوية وليست نماذج ديمقراطية. علاوة على ذلك، لا يمكن للدّيمقراطية الكاملة أن تنمو في بلد يزيد عدد سكانه من المعرّضين لحالة الفقر والحاجة عن 20٪. ففي هذه الحالة تقضي الحاجة على الحريّة.

  يحتاج النّظام الدّيمقراطي لكي يشتغل إلى مجتمع وثقافة ديمقراطيتين. والمجتمع الدّيمقراطي هو مجتمع تعمل فيه الأسرة والخلايا المهنية والجمعيات والشركات والأحزاب السياسية وفق الرّوح الدّيمقراطية

ثالثًا، لم تكتسب التّجربة الدّيمقراطية الّتي نشأت بعد الثّورات العربية   التّجربة الدّيمقراطية بعد الثورات العربية بعد جذورا تاريخية. بل هي تجربة جديدة آخذة في التطوّر والنموّ في ظلّ مناخ من عدم الاستقرار وغياب التّماسك والانضباط. ولم تستغل هذه الدّيمقراطية الوليدة بعدُ الوسائل والموارد اللاّظمة للدّفاع عن نفسها. وهذا ما يحدث الآن أمام أعيننا في تونس. إذ يتنامى تركيز سلطوية السلطة في مواجهة سلبية المجتمع المدني، الذي يعتبر نظريًا درع الديمقراطية الحصين. وهكذا يجد المشروع العربيّ الدّيمقراطيّ نفسه أخيرا وجها لوجه مع الثّورة المضادّة.

س-لماذا استطاع هذا الموقف المعادي للدّيمقراطية أن يسود؟

إنّ الثورة المضادّة في سياقنا العربي اليوم هي على عكس الثورة المضادّة الأوروبية في القرن الثّامن عشر، لأنّها تفتقر إلى وحدة عقائدية وتركّز بشكل قويّ على قضايا السلطة:

الثورة المضادة هنا، على عكس الثورة المضادة الأوروبية في القرن الثامن عشر ، ليس لها وحدة عقائدية  لأنها تركز اهتمامها بشكل صارم على قضايا السلطة: إرادة الحكّام في تخليد سلطتهم، وضمان سلطة ورثتهم الذّكور أو ورثتهم من طبقتهم أو من جماعاتهم وذلك عبر القمع المنظّم والممنهج ، حتى لو عنى عندهم ذلك نفي جزء كبير من سكّان البلاد واضطرارهم إلى طلب اللّجوء إلى بلدان أخرى، معرّضين سلامتهم للخطر في كثير من الأحيان.

  لن تنجح الثّورات العربيّة فعليا إلاّ إذا ثارت ضدّ التديّن الشّعبي وأقصته من الفضاء العام

وتتميز الجبهة المتنوعة للثورة المضادة في الوقت نفسه بمظهرها العسكري (مصر، سوريا) أو مظهرها المالي والريعي (قطر، السعودية) أو مظهرها الدينيّ (الوهابية، الإخوان المسلمون، أمل وحزب الله اللبناني، العراقي حشد الشعبي.) كشكل مناهض للجمهورية، تقليدي في جوهره، معاد للعلمنة وفكرة الدّولة المدنية.

لن تتحقق الثورات العربية حقًا إلاّ عندما تثور ضدّ الدّين المدني من تعمل على استبعاده من المجال العام. لأنّ سوء الفهم الهائل الذي يحكمنا حاليًا هو أنّ العرب والمسلمين يؤمنون إيمانًا راسخًا بأنّ الدين هو ضمانة قواهم وحيويتهم الإبداعية ووحدتهم، بينما هو على العكس من ذلك مصدر كسلهم الفكري، ومنشأ طبيعة طموحهم المتردّد وتمزّقهم.

 

الرابط الأصلي للحوار:

https://www.philomag.com/articles/yadh-ben-achour-les-revolutions-arabes-souffrent-dun-manque-depaisseur-philosophique?fbclid=IwAR1yp9cpgTdWe5_7LruLnBNKaItotZTocucVSnLqIL2wr9WsWpgtBIlz6O0

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP