الجديد

الباجي قائد السبسي… الرجل مواعيده

المهدي عبد الجواد
منذ نهاية اعتصام “القصبة2” في فيفري 2011، انتهت مرحلة سياسية و بدأت مرحلة أخرى بشخوص سياسية مختلفة، كان الباجي في صُلبها. اشرف على بدايات الانتقال الديمقراطي الصعب، حيث كانت الدولة على مشارف الانهيار، و حكومته أنجزت أول انتخابات حرة و نزيهة. ترجمت نتائجها اختلال موازين القوى السياسية، و كشفت نتائجها تشتت القوة السياسية الوطنية العصرية.
أسس نداء تونس، حزبا يعبر على الهوية التونسية، من روافد وطنية أربع الدستوريون و النقابيون واليساريون و اللبراليون، استئنافا لمشروعها الوطني الإصلاحي. نجح في إعادة التوازن، و قاد به وبتحالفاته معركة إصلاح نتائج انتخابات 2011، حيث كانت حركة النهضة و حلفاؤها القوة الأساسية والوحيدة في البلاد.
و ينسى الكثيرون رسالة السيد الباجي قائد السبسي بتاريخ 26 جانفي 2012، و التي حددت خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية، و كانت جوهر الصراع السياسي الى حدود انتخابات سنة 2014، صياغة دستور عصري يليق بتونس، و فرض تاريخ الانتخابات و هيئة مستقلة و قانون انتخابي و حكومة كفاءات، و تمّ ذلك بفضل نضالات التونسيين و التونسيات الذين التحق اغلبهم بنداء تونس، بل الباجي.
و عندما كانت البلاد منقسمة الى “معسكرين” بادر الباجي قائد السبسي من جديد الى فتح باب المفاوضات مع “شيخ النهضة” و رسم الرجلان ملامح الحياة السياسية فيما بات يُعرف بــ”توافق الشيخين”.
فاز بانتخابات 2014 فوزا منقوصا، لأن خصم الأمس لم ينهزم، حكومة اولى فثانية، رئيس حكومة اول فثان….وثيقة قرطاج فحكومة وحدة وطنية…..لا شيء يسير مثلما يريده التونسيون. مطالب كثيرة و فوضى عارمة. ….نظام سياسي ” هجين”، “شبيبة” سياسية تفتقد النضج و الرؤية و الاستراتيجيا، تقودها “أنوات” متضخمة، و مصالحها الذاتية. ليس لها أدنى معرفة بمعنى الدولة و باكراهات رجل الدولة.
و الباجي في موقع الرئيس هذه المرة ،يسمع و يتابع:
** حكومة غرقت في المشاكل اليومية المتعاظمة، عرضة للتجاذبات و التحولات و فقدت طابعها كحكومة “وحدة وطنية”.
** تعثر في استكمال المؤسسات الدستورية، و تكدس القوانين في برلمان، يكشف كل يوم ضعفه و ضعف غالبية نوابه.
** انخرام التوازن الحزبي و البرلماني، فقد أنهكت الصراعات حركة نداء تونس، و انقسمت على نفسها أكثر من مرّة، و تشظت كتلتها البرلمانية، و يُحمّل الكثيرون جزءا من المسؤولية الى نجل الرئيس، الذي هيمن على الحزب، و صدّر بعض أنصاره من النواب مشاكل الحزب إلى مؤسسات الدولة.
و هو ما بدا واضحا في الإطاحة بالسيد الحبيب الصيد، أو خاصة في الأزمة السياسية المستفحلة في البلاد، نتيجة الصراع الحاد بين ابن الرئيس و حزبه من جهة و بين رئيس الحكومة “الابن السياسي” والحزبي من جهة ثانية. صراع فيه حرج كبير للرئيس. الذي بات في وضع لا يُحسد عليه، و هو يرى الحزب الذي أسسه، ليكون وريثا لجيل المصلحين الوطنيين يتهاوى بفعل صراعات السلطة و التموقع والنفوذ.
**  بضعف النداء عاد تشتت الأحزاب”الديمقراطية” من جديد، و هي التي من انقساماتها تتناسل كــ “الفقاع”، تزيد في غموض المشهد، عند عامة الناخبين.
**  شباب ” خارج” الأطر و المؤسسات التقليدية، يفتقد المثل الكبرى، متعجل و عدواني.. و جهات داخلية، تكاد تكون خارج السيطرة لضعف القيادات الجهوية و المسؤولين المحليين، بلغت حد تبادل العنف بين معتمد و عون امن، في الشارع امام المواطنين…
الثابت في كل هذه العوالم المتحركة هو أن الباجي قائد السبسي، رئيس الدولة التونسية المنتخب شرعيا وممثل الجمهورية و رمز الديمقراطية التونسية.  الباجي هو ضمانة الدستور و رمز الوحدة التونسية….
لكن بعض “المغامرين” السياسيين يتجاهلون عمدا و عن قلة خبرة سياسية هذه الحقيقة، و يروم الكثير منهم “على عجل” ارتداء ثيابه.
يجُرّ الرّجل وراءه تاريخا طويلا و دراية بشؤون الحكم الداخلي و تعقيدات هذا العالم إقليميا و دوليا، هي خبرة يفتقدها الكثيرون من الطامحين لخلافته. و أعتقد أن الباجي، كان مؤمنا، بأهمية هذا الانتقال التاريخي بين الأجيال، التي يجب ان تقوم في اطار المصالحة التامة بين روافد الحركة الوطنية و تياراتها الرئيسية.
و لكن توقعات الحقل غير حسابات البيدر،  فقد حسب البعض أنه يُمكن “التسريع” في ايقاع هذا الانتقال بين الاجيال، بإضعاف الرئيس، و انه لمن المعيب في “الايتيك” السياسي، ان يعتقد البعض من “الطامحين” انه يمكنهم ذلك، لان في محاولة ذلك، مسّ بشرعية الانتخابات و بالديمقراطية أولا، و تهديد للمسار الانتقالي ثانيا، و اخلال بالتوازن السياسي الهش في البلاد، توازن قائم على قوتين، الباجي من جهة و النهضة من جهة ثانية.
الباجي يخوض آخر معاركه الوطنية، تُحيط به تعقيدات تونس، و مطامح غير محسوبة للكثير من نُخبها السياسية. و عليه ان يكون من جديد في حجم التحدي التاريخي. لم يفشل الباجي قائد السبسي في رهاناته السابقة، و لكنه لم ينجح تماما. بعض من “الامانة” لم يتحقق، و كثير من العهد لم يوف به. وحال حزبه يبعث على الحيرة.
الانتخابات غدا، والنداء يُواصلُ سباته الشتوي، و مازال الندائيون يؤمنون ان الـ”مفتاح” في يد الباجي، و أكثرهم على استعداد للعودة و احياء الحُلم.
حين اعتقد الكثيرون ان الباجي انتهى، ها انه يستعيد المبادرة، و يُجمّع الفرقاء في قرطاج من جديد. للتاريخ مكره، و مناوراته. و لعله في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ تونس، يروم إنصاف الباجي قائد السبسي، و هو الذي أعاده من “الأرشيف” سنة 2011. و لان تونس تعيش تحديات الديمقراطية، و مهام تكريس دولة حقوق الانسان السياسية و الاجتماعية العصرية، فإن بعضا من مهام السيد الباجي قائد السبسي لم تُنجز بعد..
الباجي دائما في موعد مع تاريخ الديمقراطية في تونس منذ منتصف السبعينات. يمتلك هذا الرجل التسعيني، بلاغة ساحرة، و ثقافة واسعة، شعرا و قرآنا و أحاديثا و أمثالا متنوعة، قلّما يمتلكها غيرُه.
تأثيره على محاوريه بديع، داخليا و خارجيا، سريع البديهة حاد الذكاء، هذه الثقافة، التي نحتتها التجربة، تجعل الباجي أمام اختبار التاريخ، و هو الذي دخله من أوسع ابوابه، و نعتقد انه سيُغادره تاركا وراءه أثرا منحوتا في تاريخ تونس الحديث، فالرجل الذي شارك في معركة التحرير و أسهم في بناء الدولة و خاض معركة الديمقراطية و شارك في حماية الثورة و مسارها الديمقراطي، له مواعيد مع التاريخ…. ولم يُخطئ مواعيده.
و في العمر مواعيد جديدة دائما..
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP