الجديد

الطاهر لبيب يكتب: “مقاطعُ من زمنٍ رديء” .. حول مأساة حرب غزة

“دون عالم الاجتماع التونسي الدكتور الطاهر لبيب في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” نص من جزئيين تفاعلا مع حرب غزة و العدوان الاسرائيلي الذي يستمر بكل وحشية ويتحول الي ابادة جماعية .. وفي ما يلي نص الطاهر لبيب الذي وضعه تحت عنوان: ” مقاطعُ من زمنٍ رديء”.

1/

هبّت عضلات الغرب الأورو-أمريكي إلى حماية إسرائيل من هزيمةٍ، ونعرف الدوافع. اللّغز والحيرة هما من جهة العرب. تلخيصًا، ومع دفع العبارة إلى أقصاها:

لا أحد أساء إلى القضيّة الفلسطينيّة، بصورة غير منتظرة، أكثر مما أساء إليها العرب، والعرب، هنا، حكّامُهم: نَعتوا الصّراع فيها، أو قبلوا نعتَه ﺑ”الصراع العربي الإسرائيلي” فأكسبوه بُعدًا عربيًّا وهميًّا. استغلّت الصهيونيّة هذا الوهم، عالميًّا، لتبني به صورة إسرائيل المحاصرة بعداءٍ عربي، من المحيط إلى الخليج. وظّفوا القضيّة، سياسيًّا، في شعارات “المواجهة”، لقمع مطالب شعوبهم، إلى أن اهترأت بين أشداقهم، لكثرة ما ردّدوا أنها “قضيّتهم الكبرى”. كذّب الواقع هذا: أزال “عروبة” الصراع وحوّله إلى صراع “فلسطيني إسرائيلي” ثمّ، أخيرًا، إلى “حمساوي إسرائيلي”.

حصيلة ما بقي شجبٌ وتنديدٌ . ما أتعس وأشقى هاتين الكلمتين، حتّى في “لسان العرب”: “ندّدَ بالرجل: أسمعه القبيحَ وصرّح بعيوبه” (والتنديد العربي في العادة، تنديدٌ بالفعل دون الفاعل!). وأما الشّاجب فهو الذي “يتكلّم بالرّديء، وقيل: الناطقُ بالخَنا، المُعينُ على الظّلم!! والغرابً الشّاجِب: الشّديدُ النّعيقِ “! وهذا النعيقُ هو المعنى الحاصل في نفوس الناس كلّما هبّ حكّامهم إلى الشّجب والتنديد. إنه أردأ تعبيرٍ عن العجز وأكثره شؤمًا ومذلّة. على أنّ الخطورة في تكرار الشّجب والتّنديد ليست في تثبيت عجزٍ عربيّ مُخزٍ ومُهين، فحسب، وإنما هي أيضًا في تعويد الناس على مواجهة الشرّ الإسرائيلي بالعويل والنّواح، كما عُوِّدوا على رؤية الخراب. يقول الناس : ليتهم ما شجبوا وما ندّدوا!

لا أجد نعتًا يتّسع معناه لما يحدث، اليومَ، في غزّة. هو أكبر وأدهى من كلّ النّعوت المتداولة، ولكنّ أقصى وأقسي ما أرى في الشجب والتنديد رائحةُ التّواطؤ مع الشرّ الإسرائيلي.

تاريخنا السياسي العربي يبالغ، اليومَ، في جُبنه، ولا يستحي…”

2/

لا أتصوّر أو لا أريد أن أتصوّر سياسيًّا عربيًّا، من أهل القرار، لا يقع في نفسه، بوصفه إنسانًا، شيءٌ من وجع ما يحسّ به الناس حوله، بل وفي العالم كلّه، وهو يرى أطفال غزّة ونساءها وشيوخها في لهيب المحارق وتحت الأنقاض، أحياءً وأشلاء، ويرى المشرّدين بالنّار إلى النّار، في العراء، بلا دواء ولا طعام ولا ماء.

لا أتصوّر أو لا أريد أن أتصوّر سياسيًّا عربيًّا، من أهل القرار، لا يرتقي سقف وعيه السياسي، بوصفه سياسيًّا، إلى حيث يدرك أن ما يحدث في غزة له جذور أبعد من يوم 7 أكتوبر الذي سعت الدعاية الصهيونية ومن معها إلى طمس ما قبله، كي تبْتر، في الأذهان، تاريخ الاحتلال الذي يُشرعن المقاومة.

لا أتصوّر أو لا أريد أن أتصوّر، سياسيًّا عربيًّا، من أهل القرار، وبأيّ صفةٍ كانت، لا يرى أن ما يفعل الصهاينة في غزة هو نسخة من “الحلّ الأخير” النازي، مُحيَّنًا بالجديدِ من السّلاح ومن جُبن ضمير العالم، ولا يرى أن خيار نتنياهو الأخير هو “خيار شمشون”، كما جاء في التوراة وفي الأساطير اليهوديّة: “عليَّ وعلى أعدائي يا رب!”، ولا يرى أن نتنياهو كائن قاتل، مع سابق إضمار، منذ خمس وسبعين عامًا أو أكثر. لا معنى لكينونته إلّا بالقتل (نوعٌ رديء من كاليغولا الذي يقول في مسرحيّة ألبير كامو: “عندما لا أَقتل أشعر بالعزلة”). هو ومن معه، لا يحاربون. هم يقتلون. العلاقة به وبما يمثّله، مهما كانت “مثمرة”، هي علاقة بمجرمين، ولثمرتها طعمُ الدّمِ…

لنعتبر أننا “محكومون بالأمل”، ولنفترض أنه من الصّعب، أو مما يعزّ علينا، أن نتصوّر سياسيًّا عربيًّا، من أهل القرار، يفقد حسّه الإنساني، بوصفه إنسانًا في المطلق، وتخفى عليه، بوصفه سياسيًّا، أبعادُ الإبادة الجماعيّة التي يتعرّض لها من قد يسمّيهم “أهلنا في غزة”، فكيف نفسّر إحجام أغلب أهل القرار العربي عن مواجهة ما يحدث بأكثر من لغو الشّجب والتّنديد (سيّئتيْ الذّكر)؟ لماذا يحجمون، وبعضهم يعلم علم اليقين أنه لو أقدم على فعلٍ أكثر صرامةً وحسمًا لتغيّر مجرى ما يحدث؟

نعرف المعلَن والمضمر من الدّوافع والمبرّرات الممتدّة من الجيوسياسة إلى المصلحة الشخصيّة ولكنّ خلاصة الإجابة، في نهاية التحليل والتفسير، هي في كلمة: التبعيّة. قد تبدو هذه الكلمة قديمةً، آتيةً من أدبيّات الستينيّات والسبعينيّات اللاّتينو أمريكية ثم العربيّة ولكنّها لا تزال مناسبة لوصف هذا الوضع البنيوي الذي يفقد فيه مجتمع قدرته على التحكّم في قدراته وخياراته الكبرى ويفقد فيه صاحب القرار، تحديدًا، إرادةَ قراره (مما قد يُحدث انشطارًا في ذهنه بين قناعاته الشخصيّة وإكراهات التبعيّة). تغطيةُ هذا الوضع تكون بما يتركه المتبوع للتّابع من هامش التحرّك، في حدود تبعيّته. أساس المعضلة هنا: أن تطلب من نظام سياسي عربي تابع أن يساند من يحرّر أرضًا عربيّة فأنت تطلب منه أن يتحرّر من تبعيّته، أولًا.

رابط التدوينة/ المقال:

https://www.facebook.com/profile.php?id=61553091813930

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP