الجديد

تونس من 14 جانفي 2011 .. الانتقال العسير


كتب: حمدي حناشي

منطلق التحليل هو الإشكاليات الراهنية، و الوضع المعقد، فبعد أكثر من عقد من ثورة 14 جانفي، ظل الانتفال السياسي يراوح مكانه، بين نكسات و خيبات و ارتدادات و صفر منجز اقتصادي- اجتماعي، مع اختراق طفيف في مجال التنظم السياسي، و العمل في حقل المجتمع المدني، مع تخمة الحريات من حرية تنظم و حرية تعبير، اتخذت شكل الفوضى، لعدة سنوات، أما عن الاستحقاقات الانتخابية، فشهدت تراجع في الإقبال، من طرف المواطنين بشكل ملحوظ، منذ استحقاق 23 أكتوبر 2011 ، وصولا للدور الأول من انتخابات المجالس المحلية مؤخرا..

 منذ سنوات بدأ زخم الفعل الثوري يفقد بريقه، نظرا للفشل في القطع مع الماضي و استحضار بدائل مستقبلية، تنقل واقع البلاد و المواطن من واقع تخلف لأفق العصر الحديث و الرفاه، و مع عدم حصول هكذا نقلة حضارية في إطار المشروع الوطني، ظل المسار الثوري خارج سياق سيرورة التاريخ ، و لعل أهم أسباب هذا الفشل، هو أن الثورة كفعل خارج عن السائد و المألوف، باغتت الجميع نخبا و شعبا ، و كانت على وجه الخصوص متقدمة على الطبقة السياسية بمراحل، و ما زالت  ليومنا هذا تتخبط في معارك أيديولوجية، و فشلت في التقاط اللحظة التاريخية، و تحويلها لمنجز اقتصادي و اجتماعي.

و ذلك يعود لأسباب موضوعية كغياب حياة سياسية صحية قبل الثورة، حيث أن البعض اكتشف نفسه كفاعل سياسي صبيحة 15 جانفي2011 ، و للأسف منذ الثورة نشط في الفضاء السياسي الأدعياء “الثورجيين”، و شواذ الأفاق، و هم من سرعوا في نسف الحلم الديمقراطي.

و بالعودة للبدايات فقد تم حسم الأمر في الليلة الفاصلة بين 13 و 14 جانفي ، حيث نجحت الدولة العميقة أنداك، في غفلة من الجميع، في التسويق لحساسية و خطورة الأوضاع، و نجحت في “تنصيب” رئيس جمهورية و رئيس حكومة من الحرس القديم، و انطلق الاشتغال على ترسيخ حالة ذهنية، لدى عامة الشعب، مفادها  أن غزو “طالباني” سيكتسح تونس، بعد عبق ياسمين الربيع، و سيعصف بالمكتسبات الحداثية .

و المؤسف كذلك ، أن جزء كبير من هذا الصراع ، دار رحاه واقعيا بين أطراف محسوبة على الصف الثوري الواحد، في مشهد سريالي عجيب. اليوم و بعد أن انجلى غبار العاصفة و بعد مرحلة دستور 2022 ، و الهندسة الجديدة للمشهد السياسي، يجب على الجميع المضي في مراجعات نقدية عميقة،  تتناول بالدرس بكل رصانة و شجاعة كل المحاذير، كدور المنظمة الشغيلة في ما آلت اليه الأوضاع الاقتصادية، و تحديد مربعات نشاط النقابات و ما هو دور إتحاد الشغل في إقتصاد معولم أصلا، و هل طرق عمله الكلاسيكية تنفع في عالم يشهد تغييرات جيوسياسية عميقة، و هل يمكن الإقلاع الاقتصادي بمؤسسات عمومية عاجزة، و استراتيجية البلاد في خصوص الإنتقال الطاقي، و شح المياه و الفلاحة و الإصلاح التربوي، و الإقتصاد الرقمي.

دون التغافل عما يسكننا من أمراض و علل كالتواكل و الأنانية و النزعات القطاعية المقيتة، عوض تعليق شماعة فشلنا على طبقة سياسية، ليس من دورها أبدا توزيع شهائد قيمية أخلاقوية على الشعب، رغم ما عليها من واجبات مواطنية تجاهه.

في النهاية أعتقد بأن الحالة  الما بعد ثورية في تونس منذ جانفي 2011 هي حالة سيكولوجية، و ليست حالة فعل سياسي محض، طغت فيها ردات الفعل المزاجية و النزعات العاطفية، عوض الطرح الموضوعي الجدي، الذي يقود للاستجابة لتطلعات الشعب، عن طريق أوعية تنظيمية كالأحزاب التي أراد لها العقل البشري، منذ بزوغ فجر الديمقراطية صياغة البرامج و المضامين و تقديمها في شكل برنامج حكم، مع كل استحقاق انتخابي بغية تحسين ما هو كائن، و المضي لرفاه ممكن . كما يحدث في أغلب الدول الغربية المتحضرة.

هكذا تمشي غائب اليوم في تونس، نظرا لاستقالة النخب العلمية و الأكاديميين و المثقفين من الشأن العام، لفائدة الهواة الذين خربوا الاقتصاد الوطني و حطموا كل أمال المنجز الإقتصادي و الإجتماعي و إرتهنوا السيادة الوطنية، و هو ما صعب عملية تصويب المسار الديمقراطي .

الدرس المستخلص بعد “أربعطاش”،  هو أن الأمل بالتغيير عندما يصطدم بذهنية عامة الناس، وهي ذهنية  محافظة و رافضة له ، يتحول من نعمة إلى نقمة ، و عندما يكون أفق الشعب مقتصر على قطع رأس الأفعى،  قد تلتف عليه بما تبقى من جسدها و تعتصر ما تبقى من أنفاسه و أحلامه..

 بعد أكثر من عقد من 14 جانفي 2011 ، الثورة باقية في عقول الحالمين بغد أفضل و أجلا أو عاجلا ستحدث ديناميكية تغيير بطريقة ما،  كما حدث بعيد الإنتخابات الرئاسية 2019 و هو ما سيؤدي في النهاية بشكل حتمي إلى تونس حديثة و عصرية،  تحكمها قيم المواطنة الكونية .

و هي سيرورة تاريخ و لا مناص من النكوص عليها أو التخلي عنها.  وأعتقد بأن جيل جديد سيغزو الفضاء الفكري هو جيل الألم و الأمل…و ستسود أفكار الذكاء الاصطناعي قريبا،  و ستفرض علينا جميعا واقعا جديدا،  و عليه لا مناص من الإسراع في القيام بالمراجعات.

ان الثورة ليست فقط أماني الحالمين بغد أفضل،  بل هي مشروع أمة و شعب و فكرة و أمل، و هي أيضاً انتفال عسير.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP