الجديد

الصافي سعيد يكتب عن الباجي قائد السبسي

الصافي سعيد يكتب عن الباجي قائد السبسي :
“السبسي لن يرحل إلا بعد أن يطمأن على مصير السلطة من بعده”
“إن رجال السلطة إذا ما تأخروا عن الانسحاب أو الغياب في الوقت المناسب، فهم لا يصنعون إلا نهايات قاسية ومؤلمة لهم ولشعوبهم”
عاد الجدل في المشهد السياسي التونسي، سنة قبل الاستحقاقات الانتخابية (الرئاسية والتشريعية) المقررة لأكتوبر 2019، حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس الباجي قائد السبسي، في السنة الأخيرة من عهدته الانتخابية، جدل ترافق مع تصاعد الصراع منذ أشهر بين رأسي السلطة التنفيذية ( رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)، واعلان الرئيس عن فك الارتباط مع الاسلاميين، أو ما اصبح يعرف ب “توافق الشيخين”، هذا التوافق الذي حكم البلاد بعد انتخابات 2014. وبالمناسبة اخترنا اعادة نشر مقال للكاتب والصحفي الصافي سعيد، هو بمثابة شهادة حول مسار الرئيس الباجي قائد السبسي، سبق وأن نشر ضمن كتاب “الباجي” قائد السبسي..المشي بين الألغام”، للكاتب والصحفي منذر بالضيافي، نشر في مارس 2017، عن دار ورقة للنشر.

أنا على أشد الشغف لما سيقوله التاريخ ذات يوم عن الرئيس الثالث لجمهورية تونس، الباجي قائد السبسي. وكيفما طرح المؤرخون أسئلتهم حول تلك البرهة التي صعد فيها السبسي الى منصة السياسة من جديد ثم الرئاسة، فانهم سيجدون صعوبة في الاجابة ما اذا كان ذلك الصعود انقاذا لبلاد راحت تفكك أو اخمدا لثورة راحت تتمدد ؟

في البداية، وحين وضع على كرسي القصبة، لم يعرف التونسيون كيف جاء ومن أتى به؟ وكيف تم اقتراحه؟ كان أغلب التونسيين لا يعرفونه ثم ما لبث الجميع أن قبلوا به.. بدا كما لو أنه المنقذ من الفوضى، والسياسي المجرب والمناور، والأب القادم من بعيد.
أدرك منذ اللحظة الأولى أن هذه الثورة يتيمة وتكاد تكون عمياء بلا بوصلة وبلا قادة..وضع يده في يد الأحزاب ثم عزم على الذهاب الى الانتخابات. كان ذلك هو الهدف الأكبر لجميع مكونات المشهد السياسي في تونس. لم يكن مراوغا كعادته إلا بقدر ما كان حريصا على النجاح. كان يمشي بالقرب من النجاح ثم وجد كل الدعم الداخلي والخارجي على أن يكون ديمقراطيا. لا بل أصبح حريصا على نجاح تلك المعادلة بين الإسلام والديمقراطية.
بدت لي تلك المعادلة كتحدي ثان الى جانب التحدي الذاتي وهو: الفرصة الكبرى للتطهير الذاتي من كل التهم التي علقت به وبجيله وبدولة الحداثة التي ساهم في بنائها وشحنها بمكونات التسلط…
في الحقيقة، كان الباجي قائد السبسي من الأوائل الذين انتفضوا ضد “تسلط هذه الدولة”وحزبها العتيد (الحزب الدستوري) في بداية الثمانينات. خاض معارك ناعمة مع رفاق ناعمين له، ضد أجنحة الدولة الأكثر توغلا وتطرفا ثم انطفأت شعلته مع صعود جماعة السابع من نوفمبر التي استمرت في التسلط والديماغوجيا .. بعد مغازلات في الردهات الأخيرة، عاد الى بيته وكتب مذكراته ولم يكن يعرف أبدا أن هناك أمامه واجب آخر ينتظره أو فرصة أخرى قد صنعت له العودة من بعيد ومن خلف الصمت الكثيف والعزلة.
أن تتصدى لثورة “شبابية” وأنت في “أرذل العمر”. هذه مهمة صعبة لا يقوم بها الا المجانين أو الحكماء.. ولكن الباجي قائد السبسي لم يكن لا حكيما ولا مجنونا، وانما كان سياسيا براغماتيا.. لاعبا محترفا، صياد فرص على قارعة الطرق.. رجل يتمطط مع كما لو أنه قادر على مجاراته. قبل بعرض اللعبة ثم راح يعرض مهاراته على الجميع.. في آخر الشوط تمكن من إفراغ الشحنات العاطفية للثورة ثم قادها عبر منعرجات ومنحنيات خطيرة إلى منصة الانتخابات.. وكان في كل خطوة يحسب جيدا ما إذا كان قادرا على تلك المهمة وإعادة الوديعة إلى أصحابها.. أو سيجد نفسه عاجزا ومضطرا إلى الانسحاب.. ثم عقدت الصفقة: الوعد بانتخابات نزيهة مقابل الوعد بالرئاسة المؤقتة.
أوفى الباجي بوعده لكن المنتصرين اخلوا بوعدهم. وهنا بدا للباجي انه تعرض للخيانة وكذلك للتبخيس والتحقير. كان يمكن له أن يرفع منديل الوداع ويغادر أروقة السياسة بجدارة، ولكن الأسود لا تنام أبدا إذا كانت جريحة.. وطبيعي فان الذئاب والثعالب وحدها هي التي تشتم عن بعد رائحة الأسد الجريح.. تظل تترصده. فان وهن، فسوف تهجم عليه كوليمة.. أما إذا عادت له صحته فإنها ستجعل منه “قائدا” لرحلة صيد كبيرة..
في البداية لا بد أن نكون منصفين حتى لو كنا متألمين. فالذين صعدوا الى السلطة لم يكونوا أكثر نباهة من خصومهم ولا أقل طمعا. لقد هزتهم رياح الانتصار عاليا وتلاعبت بأفئدتهم وأشرعتهم وبوصلتهم.. وكأغلب السياسيين العرب، وقع حكم الترويكا تحت فكرة جهنمية مفادها أنهم بعثوا لإصلاح البشرية أو هم جنود الله في الأرض أو أنبياء جدد للإنقاذ والتضحية.. وتلك النزعة المثالية والطهورية سرعان ما بدت زائفة، فقادتهم نحو الاتجاه المعاكس.. تلاطمت الأمواج الاقليمية والدولية العالية من حولهم فبعثرت كل جهودهم وجعلت منهم “منتوجا شبه غريب” لم يتمكن من الصمود رغم الصرامة والسطوة والمال والدعم الخارجي.. ولاشك أن الباجي لم يكن هو “الرجل المثالي” الذي يمكن أن يتصدى لذلك الانحراف الكبير، وإنما كان هو الرجل الأكثر استعدادا والأكثر براعة لقيادة كل الغاضبين والمنتقدين والمتضررين والانتهازيين والطامحين وعقد الصفقات مع الخائفين والمرتعشة أياديهم والفاشلين.
وهاهو موكبه يظهر من بعيد جاءت الإشارات من باريس والجزائر فرض شروط المعركة دون أن يغير قواعد اللعبة. الحزب (نداء تونس) الذي شكله سرعان ما أصبح المعادل الكبير لحزب (النهضة) الذي يخاصمه. بعد ذلك اخترق صفوف الترويكا فتشابكت أياديه مع أيادي الغنوشي. باركت الجزائر المسار وراحت تراقب الوضع بعيون حمراء. وفي النهاية أحبط كل مشاريع التصفية والتطهير والإقصاء ثم تقدم للاستحقاق الكبير. جرت الانتخابات تحت يافطات كثيرة.. وكانت يافطة الباجي: استعادة البلاد من خاطفيها واستعادة شرفه الشخصي رغم انف الذين شمتوا فيه وحاولوا دفنه وإهانته.
من ناحية ما، بدا للبعض أن معركة الباجي، ذلك الرجل المركب من عناصر كثيرة اغلبها قديم ومتآكل، كانت معركة شخصية لاسترداد كرامته. بدا كما لو انه لم يكن لديه هدف إلا هدف الوصول منتصرا إلى قرطاج.. وهو ما يجعل هذا البعض يرى اليوم أن ليس للباجي من هدف، سوى الخروج سالما من قرطاج.
إن رجال السلطة إذا ما تأخروا عن الانسحاب أو الغياب في الوقت المناسب، فهم لا يصنعون إلا نهايات قاسية ومؤلمة لهم ولشعوبهم. يمكن أن تكون الديمقراطية منفذا كبيرا لزعيم راح نجمه يتوارى، ولكن مواعيد الديمقراطية قد لا تسعف دائما من ينتظرها.

إن أسوأ ما يمكن أن يبلغه أي حاكم هو أن يظل فوق كرسي الحكم يعاند الزمن حتى أرذل العمر. فالشيخوخة والسلطة هما أقسى وأقصى درجات العزلة.. فان يفطر الحاكم على جيل و يتغدى مع جيل ثان ويتعشى بجيل ثالث، لابد أن يصاب بعسر الهضم إن لم يصبح من أكلي لحوم البشر…

إن أعداء الديمقراطية متعددين وأخطر هؤلاء الأعداء لهم الأعداء الحميميون الذين يتحدث عنهم تودوروف. أي أولئك الذين يحتضنونها ويخافون عليها ولا يتصورون وجودها بدونهم. وهم الأنانيون والمنفصلون عن خيال شعوبهم والساكنون في الماضي. وهؤلاء ليس بإمكاني إلا أن أسميهم بالقاهرين الجدد..
وقد تبدو لنا الأرض هادئة والقلوب صافية بفضل عبقرية الزعيم كما تقول الدعايات غير إن ذلك الهدوء إذا لم يكن دليلا على الركود المستمر، فانه يخفي بداخله جمر احمر. إن التغيير ليس ضد الاستقرار، لكن الاستقرار هو ما يؤدي غالبا إلى التكرار والبلادة والغباء.

ومع إني اعتقد أن طلاق السلطة هو أصعب طلاق، فانه يخيل إلي في أحيان كثيرة أنني سأنهض ذات صباح على استقالة الباجي.. بذلك يكون قد دخل إلى القصر منتصرا وخرج منه بطلا. إما ما اعتقده برسوخ ورجاحة، انه لن يفعل ذلك الا متى اطمان على مصير تلك السلطة من بعده..اعتقد كذلك إن الرئيس السبسي حريص على ذلك. وهو يمتلك الفكرة والحيلة والأسلوب والأدوات.. ولم يبق أمامه إلا الزمن. باختصار انه لا ينتظر الموت أو موعد الاستحقاق.. بل هو ينتظر الفرصة..ولعلها الصفقة

.
ان الفضيلة لم تكن ولن تكون من أصحاب السلطة ولا من أبواتها. فالحاكم الأكثر تقربا من التضحية والفضيلة غالبا ما يصبح مستغرقا في الرذيلة.. رغم انفه.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP