الجديد

في اصلاح المنظومة التربوية … أفكار وملاحظات للنقاش

المازري طبقة*
عادة  يقال ان تشخيص مواقع الوهن أفضل طريقة للمعالجة السليمة و هنا أقول ان الكل يعلم جيدا مواقع الضعف في النظام التربوي في تونس و هذا منذ اولى الاصلاحات التربوية التي عرفها نظامنا التربوي بداية من اصلاح 1958 وصولا الى الاصلاح التربوي لسنة  2002 و النظام التوجيهي الجديد مرورا بالإصلاح التربوي لسنة  1991 و في شكل برقي اشير الى ان  محاربة الانقطاع المبكّر عن الدراسة و تحسين جودة الحياة المدرسية و تحسين علاقة التلميذ بالمدرسة اهم المحاور التي يستهدفها الاصلاح بمختلف محطاته و هي نقاط الى اليوم لا تزال دون حلول حقيقية و هو ما جعل مثلا القطاع الخاص ينتعش بصفة كبيرة في السنوات الفارطة , ما أردت قوله في البداية أن مواضع الضعف في النظام التربوي التونسي معروفة و تم تشخيصها منذ سنوات و لم تؤثر فيها التغيرات التي طرأت على المجتمع التونسي و يبقى الحديث عن محتوى البرامج التعليمية و مدى مطابقتها للتطور العلمي و ايضا تطور علوم التربية و اساليب التعليم في العالم امر مهم و لكنه يُعتبر أمرا بديهيا اذا ما أخذنا بعين الاعتبار ضرورة التكوين المستمر للمربين و هو امر تتكفل به وزارة الاشراف كما هو امر ذاتي يجب ان يهتم به المربي ليكون فعلا محترف في مهنته.
يجب أولا ان نفهم ما معنى مصطلح النظام حتى نعرف طريقة عمله و بالتالي طريقة تقويم مساره , النظام هو عبارة على مجموعة من الانظمة الفرعية التي تشتغل داخله كلُّ حسب اختصاصه و لكلّ وظيفته الفرعية التي تعمل على اساس أداء مهمة محددة تؤدّي في النهاية الى مُخرجات النظام الأصلي و تتصل النظم الفرعية في ما بينها بعلاقة تبادلية لتوفير المعلومة و النتيجة الفرعية الضرورية لعمل النظام  , كما ان للنظام بيئة خارجية تؤثر على أدائه و على مُخرجاته و منها النظام السياسي و النمط المجتمعي و مكونات المجتمع المدني . على أساس التعريف الذي ذكرت يأتي دور العائلة و التي يعتبرها البعض من بين المؤثرات الخارجة عن البيئة الداخلية للنظام و هناك من يعتبرها أحد الانظمة الفرعية للنظام الأصلي , كما هو الشأن بالنسبة للمحيط الخارجي للمدرسة. على اعتبار طريقة عمل النظام الكليّة فان أي خلل في احد النظم الفرعية يؤدي حتميا الى خلل في النظام الاصلي و من ناحية أخرى فان تقييم النظام يجب ان يمر بتقييم للأنظمة الفرعية.
في تونس تُعتبر العائلة النواة الأولى و الأصلية للمجتمع , مجتمع تونسي له من المميزات التي تجعله مجتمع صلب و متماسكا و له تأثير مباشر على كل ما يهم الدولة سواء كان ذلك في النظام السياسي أو في الخيارات الاستراتيجية للدولة و بالتالي على النظام التربوي في تونس و الذي و منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة كان له موقع سياسي استراتيجي , و من هنا فان العائلة بما تمثلّه من كيان قوي و متماسك تمثل أحد الأنظمة الفرعية للنظام التربوي في تونس لما توفّره من إعداد معنوي و نفسي للطفل قبل و اثناء مرحلة التعليم و بالتالي فان القول بوجود ضعف في النظام التربوي في تونس اضافة الى تقلّص القيمة المعنوية للعائلة في المجتمع التونسي يجعلنا نفكّر جديّا في تقييم دور العائلة في النظام التربوي و هل تؤدّي ما عليها من أدوار تساهم في نجاحه , و بالتالي فان العمل على اصلاح المنظومة التربوية يُحتّم تشريك المعنيين بالأسرة التونسية من منظمات و وزارات اشراف و باحثين و الأخذ بعين الاعتبار الدراسات التي تمت على الأسرة التونسية و هو ما لم يؤخذ على محمل الجد خلال ما تم تسميته اصلاح المنظومة التربوية خلال فترة اشراف الوزير السابق على وزارة التربية , الأسرة التونسية عرفت تغييرات عديدة لن نتحدث عليها هنا فهو مجال بحث المختصين و لكن ما نحن متأكدين منه ان هذه التغييرات أثّرت بدرجة كبيرة على اهتمامات الأطفال و بالتالي في تصوّره للمدرسة و اهدافها و ايضا لدور المربّي  و مكانته الاعتبارية المهمة و هو ما كان له تأثير كبير على علاقة الطفل بالمدرسة و تشكيل الرابط المعنوي بينه و بين مدرسته.
علاقة التلميذ بالمدرسة شكّل كما ذكرت سابقا محور مهم في عمليات الاصلاح التربوي التي مرت على الناظم التربوي التونسي منذ الاستقلال و كان ” تحسين جودة الحياة المدرسية ” أحد اهم الأهداف المرسومة من قبل المشرّع و القائمين على التربية و التعليم في تونس , و لكن مع الضغوطات الاقتصادية أصبح تحقيق هذا الهدف من المسائل الصعبة في تونس . تحسين جودة الحياة المدرسية يتطلّب اهتمام خاص نظرا الى أن المتدخّلين في “حياة التلميذ” داخل الفضاء المدرسي كُثر بداية من المربّي وصولا الى القيّم مرورا بالإطار الاداري , فالتلميذ يحتاج الى تأطير دائما و متابعة دقيقة داخل المدرسة و الأهم يحتاج الى ان يكوّن علاقات احترام و تبادل مع من يحيطون به , المتابع للحياة المدرسية عن قرب يلاحظ غياب التكوين العلمي و الضروري عن أغلب من يحيطون بالتلميذ و يمضون معه أكثر مما يمضيه معه افراد عائلته و لعلّ من اهم الاسباب لهذه الحالة ان المدرسة  اصبحت و كقطاع تشغيل في مرمى  من طالت بهم سنوات البطالة و اصبحت تمثل قارب النجاة للحكومات المتعاقبة لتشغيل أكبر عدد ممكن من حاملي الشهائد العليا المُحالين على البطالة و هو ما أثر سلبا على طبيعة العلاقات بين التلميذ و من يحيطون به خلال تواجده داخل الفضاء المدرسي و بالتالي أثر على طبيعة الانشطة التي يجب ان ترافق العملية التعليمية و التي اصبحت الغائب الابرز في العقد الاخير , و من هنا فان التكوين قبل الانتداب و خلال ممارسة العمل داخل المؤسسة التربوية يعتبر امرا غاية في الاهمية لما تتميز به العلاقة بين الاطار التربوي و التلميذ من تأثير مباشر و عميق على تكوين الطفل على اعتبار ان من بين مخرجات النظام التربوي في تونس هو تكوين فرد متّزن صالح للمجتمع قادر على التأقلم فيه و تقديم الاضافة المنتظرة منه .
جودة الحياة المدرسية تتطلّب توفير أُطر تربوية على درجة عالية من الحرفيّة و الدراية و لكن ايضا يتطلّب توفير بُنية تحتية تليق بالفضاء المدرسي و فضاءات تستقطب التلميذ خارج اوقات التعلّم و منها قاعات المراجعة و التي اقترحت سابقا تغيير تسميتها لتصبح “فضاء التلميذ” تغيير في التسمية يتبعه بالأكيد تغيير في شكل و مضمون الفضاء ليتحول من فضاء للمراجعة او لاحتواء التلاميذ خلال الساعات الجوفاء او غياب الأساتذة الى فضاء يجلب التلميذ و يقصده خارج اوقات الدراسة و عليه فان تشريك التلميذ في تأثيث “فضاء التلميذ” سيكون له دور في خلق علاقة قوية بينهما , كما يمكن التفكير جديّا في عقد اتفاقيات بين وزارة التربية و وزارة الثقافة تخول على اثرها لأساتذة التنشيط الثقافي امكانية الاشراف على ادارة “فضاء التلميذ” بالاشتراك مع التلميذ لتدريبه على ادارة شؤونه و العمل ضمن مجموعة و التأقلم في فضاء خارج اطار القسم و قوانينه , و تبقى التفاصيل التي تهم هذا المقترح متوفّرة لكل من يشاء الاطلاع عليها , لكن يبقى من المهم الاشارة الى أن تحسين جودة الحياة المدرسية و توفير فضاء يجلب التلميذ داخل المدرسة و خارج اوقات التعلّم و توفير التكوين العلمي اللازم و المستمر لكل من يحيطون بالتلميذ خلال حياته المدرسية من شانه ان يعيد العلاقة بين التلميذ و مدرسته الى مستويات مرتفعة تجعل الترابط بينهما قوي و تجعل المدرسة ملجئ للتلميذ مهما كان تفوقه و مهما كانت ميولاته و خاصة مهما كانت البيئة التي ينتمي اليها.
الإصلاح التربوي لسنة 2022 و اصدار القانون التوجيهي كانت من بين اهدافه التقليص في محتوى البرامج التعليمية للتخفيف من الضغط المُسلّط على التلميذ كما ان من بين مميزاته ان انتقل بالتعليم في تونس من عملية تلقينية و التي انطلقت منذ الاصلاح التربوي لسنة 1991 الى تعليم يكون التلميذ فيه مركز للعملية التعليمية و هو تماهي ذكي مع تطور علوم التربية على مستوى العالم و التغيّر الذي شهدته اساليب التعليم  و كذلك التقييم و لكن بقي الامر مجرّد قوانين و توصيات لم تتمكن من تجاوز مستوى الوثائق و بقي الامر مرتبطا أساسا بمجهودات المربّي في متابعة التطورات الحاصلة عالميا في اساليب التعليم و نقل المعلومة في غياب غريب للتكوين العلمي للمربّي و الذي انحصر و لعقود في لقاءات تكوينية اجبارية يشرف عليها متفقّد المادة و الذي بدوره لا يمتلك المؤهلات الأساسية التي تجعله متابعا و متمكنا من كل ما يطرأ على اساليب التعليم في العالم , فالمربّي في تونس لا يشترط في ان يكون مُطّلعا على العلوم الانسانية التي تخوّل له ممارسة عمله بكل احترافية مثل “ابستيمولوجية العلوم ” و تقنيات “التعلّمات الجديدة” ( La Didactique) و لا دراية له بـ ” طرق التعلّم” (Les Approches d’apprentissage)   و لا بتعدد طرق نقل المعلومة للتلميذ و ربما لا دراية للعديد منهم بان دور المربي الذي كان يعتبر قديما ( على اعتبار ان هناك الجديد) مركز للمعلومة و المتمكن الوحيد منها ليصبح المشرف و المتابع للعملية التعليمية خلال ساعات الدرس على اعتبار ان المعلومة أصبحت متوفّرة للتلميذ من عدة مصادر و هي طريقة تمكّن التلميذ من ممارسة “مهنة التلميذ” و ان يشارك في بناء المعرفة بطريقة تفاعلية و تشاركية مع بقية زملائه و هو الشيء الذي يمكّن من بناء تلميذ متّزن قادر على مقارعة الحجّة بالحجّة و قبول الاختلاف و تحصيل معرفة مجتمعية و اثبات الذات و حسن استغلال ما تحصّل عليه من معرفة و هنا يكون الانتقال بدور التعليم من مجرّد تمكين التلميذ من العلم فقط (Le Savoir  ( الى علم اثبات الذات (Le Savoir être ; Savoir faire … )  , و بالتالي فان اي حديث عن تطوير البرامج التعليمية , و خاصة في المرحلة الابتدائية و مرحلة ما قبل الدراسة ( الحضانة) و التي تعدّ مرحلة مهمة للغاية بالنسبة للتلميذ , في غياب اخصائيي التربية و التعلمات الجديدة (Didacticiens)  يعتبر غير مقبول و غير مجدي و في هذا الاطار فان التفكير في بعث وحدات بحث تربوية صلب وزارة التربية يُعتبر أمرا مهما للغاية توكل له مهام العمل المستمر و الدوري في متابعة تطور علوم التربية و اساليبها في العالم دون أن ننسى ان لتونس كفاءات علمية كبيرة و كثيرة في علوم التربية سواء داخل البلاد أو خارجها كما يمكن التفكير في الاعتماد و تشريك مركز الدراسات التابع لرئاسة الجمهورية بما يمثله من مركز للبحوث العلمية و تبادل الخبرات مع مخابر بحث عالمية.
اصلاح المنظومة التربوية ليس بالأساس و الضرورة ان يكون تحت اشراف حصري لوزارة التربية و نقابات التعليم بل هو في الأصل ورشة عمل تظم كل المتدخلين و الذي يجب ان تتوسع الدائرة لتشمل الجميع ليس من باب التشريف بل من باب التكليف لان قطاع التربية و ان كان قطاع غير منتج فان كلفته تمتد على مدى اجيال و اجيال و لهذا يجب ان يخرج من ساحة التجاذبات و المزايدات السياسية و “العركات” النقابية لأنه و من باب التكرار للأهمية هدف المنظومة التربوية ليس حشو الأدمغة بالعلوم و التي أصبحت متوفرة للجميع و بطرق مختلفة و ذات مصداقية عالية في بعض الاحيان بل الهدف هو تكوين مواطن قادر على التفاعل مع المجتمع لإفادة الوطن و خلق انشطة فردية او جماعية ذات مردودية عالية للمجموعة اي للمجتمع و الانخراط فعليا في تنمية مستدامة و نظرة شمولية                                         ( Approche Systémique )  تجعله قادر على الخلق و الابداع و استعمال الحجّة للإقناع بعيد عن الدغمائية التي تتسبب في تحجّر العقول و تصلّبها و في اخراج التلميذ في شكل قوالب غير قادرة على التأقلم و التطوّر و خاصة الافادة.
تونس من الدول الفقيرة من وجهة نظر المستثمرين في الثروات الطبيعية  و لكنّها غنية من وجهة نظر المستثمرين في “المادة الشخمة ” التي اعتنت بها دولة الاستقلال و احسنت الاستثمار فيها و هو الشيء الذي علينا المواصلة في دربه لكي نحسن بناء الجمهورية الثانية و نضمن لها مخزونا كافية من الاطارات و خاصة المواطنين الفاعلين في مجتمعهم و القادرين على القيادة.
* استاذ أول فوق الرتبة و باحث اكاديمي في التعلّمات الجديدة
 
 
 
 
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP