الجديد

في ذكرى رحيله: هيكل .. “الجورنالجي” الاستثنائي

كتب: منذر بالضيافي
بعد أكثر من 70 سنة في حضرة “صاحبة الجلالة”، شهد خلالها على فترة هامة من تاريخ مصر –أكبر وأهم دولة مركزية عربية-، استطاع خلالها أن يحوز موقع مكانة أهم صحفي وكاتب لا عربيا فقط بل أيضا دوليا. غادرنا  الاربعاء 17 نوفمبر 2016، الكاتب والصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، تمر اليوم ثلاثة سنوات على رحيله.
يعد الإعلامي الكبير، محمد حسنين هيكل، أحد أهرامات مصر والوطن العربي، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، والعشريتين الأولى و الثانية من القرن الحالي. تابع خلالها بشغف الصحفي، وبتروي المؤرخ وبعقلانية المفكر أهم الأحداث التي عصفت بمصر وبمنطقة الشرق الأوسط.
سبعون سنة بالتمام والكمال، قضاها “الأستاذ” في رحاب عالم الصحافة. في مواقع عديدة ومتنوعة، سواء من خلال المشاركة في صنع القرار، خلال الفترة الناصرية. أو شاهدا ومتابعا للأحداث أو ل”الشأن الجاري” والعبارة لهيكل.
كما أنه عاد من جديد لتصدر المشهد المصري، وخاصة بعد سقوط حكم الإخوان، وعودة المؤسسة العسكرية لحكم مصر من جديد. بل هناك من يعتبر هيكل بمثابة “مرشد” سياسي واستراتيجي، للفريق الأول عبد الفتاح السياسي، قائد الجيش وحاكم مصر بعد 30 جوان 2013. وآيا كان موقف هيكل من “الشأن الجاري” في مصر، فان الرجل كان مؤثرا في ما حصل في بلاد الكنانة.
 
هذه الأيام، وأنا أركز على متابعة التطورات الجيو-ستراتيجية التي تعصف بالشرق الأوسط وتداعياتها على مستقبل المنطقة التي تعرف حالة من التفكك التي تنذر بسايس بيكو جديدة. في هذا الوضع العربي والشرق الأوسطي المتحرك اخترت العودة الى كتابات “الأستاذ”، عودة إلى مراجعة البعض مما كتب، من أجل محاولة فهم ما يجري من حولنا عربيا وكذلك ما يجري في عاصمة المعز /القاهرة/ “الآن وهنا” على حد تعبير صاحب رائعة “شرق المتوسط” الروائي الألمعي عبد الرحمان منيف.
هذه العودة، مثلت مناسبة للاستمتاع بالعيش مع هيكل. من خلال قراءة بعض مما كتب في عدد من القضايا وخاصة المتصلة بموقع وتاريخ مصر والعرب. وقد كانت المتعة استثنائية  مع كتاب “خريف الغضب ” الذي يتطرق إلي ” قصة بداية و نهاية عصر أنور السادات” . هذا الكتاب الذي أثار ضجة كبرى ما تزال آثارها مستمرة إلي الآن، لا في مصر فقط بل في العالم العربي و خارجه.
لقد أقام هيكل وكتبه خاصة “خريف الغضب” الدنيا ولم يقعدها كما يقال. و شغل المهتمين بالشأن السياسي و الجيو-بوليتيكي. كما أنه مثل اختبارا حاول من خلاله هيكل – ونجح في ذلك – التعالي عن كل خلافاته الشخصية مع السادات، فهو الذي رماه شر رمية في السجن، وهو ما جعل من “خريف الغضب” بعيدا كل البعد عن “الغضب الشخصي”، وقريبا كل القرب من تصوير حالة “رئيس غاضب .. و حالة مجتمع غاضب .. وحالة مسجد غاضب .. و حالة كنيسة غاضبة ..”، انها حالة غضب شاملة ومركبة. انتهت بنهاية “البطل ” كما في الأعمال الدرامية. وهي حالة “غضب مركبة” تمر بها مصر اليوم.
حين طلب من حسنين هيكل أن يقدم نفسه، اختار أن يبدأ بالتأكيد علي كونه صحفي في المقام الأول، ثم كاتبا و مفكرا…. فداخل محراب صاحبة الجلالة تعلم فن الكتابة، وربط شبكة واسعة من العلاقات مع كبار رموز و قادة العالم في السياسة والفن والمعرفة… فقد كانت الصحافة بمثابة “الفيزا” التي نفذ منها صاحب “خريف الغضب” إلي العالمية و إلي النجومية التي تدعمت أكثر بفضل  حضوره التلفزي من خلال اطلالة أسبوعية علي قناة الجزيرة، كشفت عن تعدد مواهب الرجل و قدرته الفائقة علي الحضور و الأداء، حضور دعم و أكد  تحول هيكل  إلي “سلطة” و”مرجع” لمعرفة خبايا “ما وراء الخبر”، و ما وراء الأحداث و الوقائع.
وهو موقع و مكانة مستحقة لا يمكن أن يختلف حولها اثنان، كسبها بفضل تراكم الممارسة الصحفية، بما تعنيه من اطلاع و مواكبة للأحداث و شغف بالبحث و إنصات للفاعلين في الحقل الاجتماعي والسياسي القومي و الدولي.
تربط هيكل بالصحافة قصة هيام و عشق يصل إلي حد جنون الحب الصوفي، الذي تتماهى فيه ذات الحبيب مع ذات المحب ليصبحا اثنين في واحد. لقد أحب هيكل السلطة الرابعة، وأخلص في حبه لها، فلم تبخل هي بدورها عليه فأعطته وأغدقت عليه من خيراتها و من ثمراتها الشيء الكثير. فهو، و كما يحلو له أن يقول اشتغل “جورنالجي”، بما يعني ذلك من متابعة ميدانية ومحاولة مستمرة –وبلا هدنة- للإمساك بكل تلابيب و جزئيات الوقائع والأحداث حتي يكون لتحليله و لمقاربته جدوى و مصداقية و ليس “كلام علي الكلام” كما قال التوحيدي . وتتدعم صدقية هيكل كونها تتنزل في إطار محصلة ل” تجربة حياة”، فهي مقاربة تاريخية و سوسيولوجية، تحاول فك رموز الأحداث من خلال تطبيق منهجية صارمة مستمدة من سنن و أحكام التاريخ القريب و البعيد،و من مناهج العلوم الاجتماعية و الانسانية، كل ذلك في إطار نظرة مستقبلية/استشرافية.
فالإنتاج الصحفي عند هيكل ليس متابعة آنية بقدر ما هو عمل بحثي أكاديمي، يحرص على تقديمه وفق  لغة وأسلوب ومنهجية مستساغة  ومقبولة و في متناول المتقبل سواء كان قارئا أو مشاهدا . ولعل كل من تابع ظهور هيكل علي قناة “الجزيرة”  أو قناة “سي بي سي” المصرية،  يقف علي صواب ما نقول، انها فرصة متجددة اكتشفنا من خلالها مواهب و طاقات أخري لهيكل.
فمثلما شغل القراء طيلة عقود طويلة، و بذكاء استطاع أيضا أن يشغل جمهور الفضائيات، ليتحول إلي نجم تلفزيوني يتسمر المشاهدون أمام الشاشة الصغيرة لمتابعة تحليلات ورأي “الأستاذ”. الذي هو في الواقع محصلة و شهادة على مسار تطور الحراك الاجتماعي و السياسي لاحدى أهم الدول و كذلك التجارب العربية، نعني مصر “أم الدنيا”، في علاقة جدلية تتجاوز ذلك الى موقع العرب في العالم.
بعيدا عن “الافتتان” بشخصية هيكل  كما قد يتصور البعض و خاصة من “أعداء” الرجل، الذين هم في الواقع أعداء النجاح وهواة الجذب إلي الوراء و التشكيك في كل شيء ، نقول ان هيكل ليس في حاجة إلي شهادة من أي كان، لكن الحكمة تقتضي من كل عاقل تقديم هذه العبقرية إلي الأجيال الجديدة، فمسار و تجربة هيكل يجب أن تدرس في كليات الصحافة وفي جامعات العلوم الإنسانية في كل الدول العربية من الماء إلي الماء، فهيكل ثروة قومية لكل أبناء الأمة، و في سيرته خير مثال لكل من يريد الاشتغال في الصحافة، هذه المهنة التي ترتقي ممارستها إلي دور “الرسالة المقدسة”, فالصحفي الحق شاهد علي عصره، ومنخرط ومنحاز بايجابية لقضايا أمته، فهو المثقف الغرامشي : انه “المثقف العضوي”، المثقف “القطب” و ليس المثقف “الخبير” المرتبط ب “البزنس والنجاعة”، كما أصبح يروج له اليوم.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP