الجديد

البعد المغاربي في الدساتير التونسية .. بين طموح النخبة والتزام الدولة

د.خالد شوكات*
مدخل ذاتي:
لا أملك الحديث عن المسألة المغاربية دون الولوج إلى الموضوع ببعض الخواطر الذاتية، فأنا بكل تواضع “كائن مغاربي” بامتياز، تجري في عروقي دماء مغاربية، وقد نشأت في عائلة تؤمن بوحدة المغرب العربي، وتكفر حقا بهذه الحدود التي صنعها الاستعمار، والتي هي حدود ضد التاريخ وضد الجغرافيا وضد المصالح العليا لشعوبنا ودولنا، وهي حدود مادامت قائمة ولا تزال، بل مغلقة في بعض منها ويا للأسف، تذكرنا بخذلاننا لدماء شهداء حركاتنا الوطنية التحررية وخضوع أنظمتنا السياسية المتعاقبة ما بعد استقلال أوطاننا، إما لإرادة المستعمر الغاشم السابق المستفيد الأكبر من التجزئة والانقسام، أو لإرادة أهل المصالح الضيقة والرؤية الأنانية المحدودة.
إن جدي هو الولي الصالح سيدي علي البهلول الشوكي (والشوكي هي مفرد شوكات)، كان شيخ الطريقة القادرية في ضاحية “شنني” بمدينة قابس بالجنوب التونسي ومقامه ومدفنه هناك ما يزال قائما، وهو سليل الأسرة الإدريسية الشريفة، نسبه يعود في سلسلة لا تنقطع من 34 اسما، إلى مولاي إدريس الأصغر دفين فاس، فمولاي إدريس الأكبر دفين ادريس زرهون، نسبه شريف يمتد إلى عبد الله الكامل المحض فالحسن المثنى فالحسن السبط ابن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (ع)، والأشراف الأدارسة منتشرون في جميع الأقطار المغاربية، دولتهم الروحية والعرفانية مستمرة متحدية الحدود المصطنعة، ومريدوهم مغاربيون بامتياز، عندما يزورن أجدادهم ومشائخهم في الأقطار الخمسة ينسون جنسياتهم وألوانهم وأصولهم، ويجتمعون حول العقيدة المغاربية، وعقد الأشعري وفقه مالك وطريق الجنيد السالك.
وأختم هذا المدخل الذاتي، بقولي إنني كنت وأنا طالب في المدرسة الثانوية، أستقل القطار من قريتنا في المزونة من ولاية سيدي بوزيد، ليأخذني في رحلة أخاذة عبر البلاد المغاربية الشاسعة البديعة في تضاريسها وألوانها وطبيعتها المتنوعة، عبر مدن صفاقس وتونس وغار الدماء وعنابة وقسنطينة والجزائر ووهران فتلمسان لأصل إلى وجدة ثم فاس ومكناس والرباط والدار البيضاء وأنتهي إلى مراكش الحمراء، فالسكك الحديدية كانت وما تزال احدى رموز الوحدة المغاربية، وعندما استقر بي المقام طالبا جامعيا في جامعة محمد الأول بوجدة بداية التسعينيات من القرن الماضي، أعانني القدر على توطيد الصلة وتوثيقها برباط الزواج المقدس، فابني اليوم هو مزدوج الدم والجنسية، مغاربي الهوية بامتياز، وأحلم بأن يعيد تجربتي في السفر بالقطار، وأن لا يجد في أقرب الآجال ما يعيقه في أن يكون المواطن “المغاربي” العربي الأمازيغي بجواز سفر وهوية موحدة مثلما خطط الاتحاد المغاربي لذلك قبل ثلاثين عاما لكنه عجز لعقبات هنا – في هذه المناسبة- مجال لتشخيصها وبيانها والبحث في حلول لمعضلاتها.
أما في موضوع المداخلة، أي البعد المغاربي في الدساتير التونسية: بين طموح النخبة والتزام الدولة، فاسمحوا لي بإجمال الأمر في خمس نقاط أساسية كما يلي:
أولا: الظاهرة الدستورية في تونس:
لقد اخترت معالجة المسألة المغاربية من مدخل دستوري لعدة اعتبارات لعل أهمها ما يلي:
 
– تحتل الدساتير مكانة مرموقة ومفصلية في تاريخ الأمم والشعوب والدول، فهي غالبا ترجمان اللحظات التاريخية الحاسمة التي تنقل البلدان من حال إلى حال، وهي إلى ذلك تعبير مهم عن هوية المجتمعات ومؤشر أساسي للتوجهات المستقبلية للأنظمة والحكومات.
– توثق الدساتير العقود الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية التي تتوصل إليها الشعوب والأمم بعد فترات من الخلافات والصراعات، وهي عادة ما تكون دليل تسوية بين الأطراف والقوى الفاعلة في المشهد العام أو برهان غلى غلبة طرف على البقية.
– تمثل الدساتير القانون الأعلى المجمل للقيم الأساسية والقواعد الكبرى المتوافق عليه، وهي الناظمة في إطار مبدأ تراتبية القوانين لبقية التشريعات والأوامر الإدارية، كما هي المحدد العلوي للسياسات العامة، والضابط الرئيسي لسلوك مؤسسات الحكم والسلطات بمختلف أنواعها وصلاحياتها واختصاصاتها.
وبناء على هذه الاعتبارات فإن إشارة الدساتير للوحدة المغاربية أو الالتزام المغاربي هي إشارة من النوع القوي الملزم والأساسي للأنظمة السياسية القائمة، وهي إشارة أيضا لمكانة المقاربة المغاربية في الفكر السياسي الوطني وضمن رؤية النخب الفكرية والسياسية لها.
تعد تونس قياسا إلى بقية الأقطار المغاربية – بل إلى بقية الدول العربية والإسلامية-، صاحبة التجربة الدستورية الأعرق، فقد ظهر أول دستور للبلاد التونسية سنة 1861، أي حتى قبل المصادقة على دستور الخلافة العثمانية التي كانت تونس إحدى إيالاتها، والذي لن يبدأ العمل به سنة 1876.
لكن دستور تونس لسنة 1861، الذي كان تطويرا لوثيقة دستورية سابقة هي “عهد الأمان” التي شرعت سنة 1857، لم يتضمن أي إشارة للمسألة المغاربية، حيث كان انتماء تونس والجزائر وليبيا في ذلك الحين للفضاء العثماني، واستقلال المغرب وموريتانيا عن هذا الفضاء، حال برأيي دون بروز فكرة الوحدة المغاربية، حيث كانت وحدة الأمة الإسلامية ومجابهة الأطماع الغربية المتربصة بأرض المسلمين الفكرة الأكثر حضورا والهم الأكثر غلبة على عقول المفكرين والحكام في المنطقة.
ولأن الهم كان منصبا على إصلاح النظام السياسي وفرض “المشروطية” على الحاكم الذي كان مطلق الصلاحيات في علاقته بالرعية، فإن قضايا الوحدة والهوية لم تكن واردة، ولم يكن هذا توجه النخبة الإصلاحية في تونس، بل كا غالبا هم النخب في جميع الأقطار المغاربية، سواء تلك التي كانت جزءا من الخلافة العثمانية أو تلك التي كانت مستقلة في ممالك وإمارات خاصة.
إن الفكرة المغاربية بالمعنى المعاصر للكلمة كانت وليدة حركات الكفاح الوطني ضد المستعمر خلال النصف الاول من القرن العشرين، وقد بلغت كمال نضجها مع تأسيس مكتب المغرب العربي سنة 1947 برئاسة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وعضوية زعماء الحركة الوطنية التونسية والجزائرية والمغربية، وقد أصبح النضال المغاربي المشترك ضد المستعمر واقعا وطنيا وإقليميا وعربيا، كما أصبحت الوحدة المغاربية موجها أساسيا للفكر التحرري في الأقطار الثلاث، وهو ما أفضى عمليا إلى التنصيص على الالتزام الوحدوي المغاربي في دساتير الدول الثلاث إبان استقلالها عن الاستعمار.
لقد شكل الموقف من “وحدة مصير بلاد المغرب العربي” محورا لأخطر صراع سياسي بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، إذ رفض الأخير توجّه الشق البورقيبي في الحزب الدستوري إلى قبول استقلال منفرد عن بقية الأقطار عرض عليها سنة 1955، وهو ما رآه الشق اليوسفي خيانة للقضية المغاربية، وخصوصا للثورة الجزائرية، بينما كانت رؤية الزعيم الحبيب بورقيبة تقوم على فلسفة المراحل، إذ قال إن استقلال تونس سيوفر للثورة الجزائرية قاعدة صلبة تساعدها على تحقيق أهدافها وتحرير بلادها، وهو ما جرى عمليا، حيث احتضنت تونس المستقلة خلال السنوات من 1956 إلى 1962 جزءا مهما من نضالات الحركة التحررية الجزائرية، هذا بالإضافة إلى تضمين دستور الدولة المستقلة الانتماء المغاربي لتونس والتزام حكومتها بالعمل على وحدة المغرب الكبير مثلما سيتم بيانه في النقطتين المواليتين.
ثانيا: البعد المغاربي في دستور 1 جوان/يونيو 1959:
لقد نالت تونس استقلالها عن المستعمر الفرنسي في 20 مارس 1956، وبادرت إلى تنظيم انتخابات المجلس القومي التأسيسي في أفريل 1956، وذلك لسن دستور جديد للدولة المستقلة، غير أن المجلس سرعان ما حاد عن وظيفته الأصلية، مشاركا في انقلاب سياسي على النظام الملكي، حيث أعلنت الجمهورية في 25 يوليو/تموز 1957، ليكون الدستور الجديد الذي سيصادق عليه المجلس بمعية الرئيس المعين للدولة الزعيم الحبيب بورقيبة يوم 1 جوان/يونيو 1959، دستور الجمهورية بدل دستور الملكية الدستورية كما كان مزمعا من قبل، ولا شك أن الطابع الجمهوري للدستور الجديد جعله أكثر التصاقا وتجسيما لمبادئ الحركة الوطنية التحررية التونسية وتوجهاتها، ومن بينها المسألة المغاربية.
ففي الفقرة الثانية من ديباجة دستور 1959، أورد المشرع الدستوري التونسي ما يلي: وعلى تعلقه (أي الشعب التونسي) بتعاليم الإسلام وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربية وبالتعاون مع الشعوب الإفريقية في بناء مصير أفضل وبالتضامن مع جميع الشعوب المناضلة من أجل الحرية والعدالة…”.
و ففي الفصل 2 من الدستور نفسه، ( الذي نقح بالقانون الدستوري عدد 37 لسنة 1976 المؤرخ في 8 أفريل 1976 (، نص المشرع على الآتي: “الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي الكبير تعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة. إن المعاهدات المبرمة في هذا الغرض والتي قد يترتب عنها تحوير ما لهذا الدستور يعرضها رئيس الجمهورية على الاستفتاء الشعبي بعد أن يوافق حسب الصيغ والشروط * عليها “مجلس النواب” المنصوص عليها بالدستور.
وسيتميز المشرع الدستوري التونسي منذ ذلك التاريخ بكونه الوحيد من بين المشرعين الدستوريين المغاربيين، من سيتجاوز الديباجة/التوطئة/التصدير في التنصيص على البعد المغاربي، حيث سيخصه بفصل من الفصول في بابه الأول، وهو ما أضفى على هذا البعد قيمة قانونية أكبر، فضلا عن منحه صيغة إلزامية وعملية على السياسات الحكومية العمل على احترامها. وهو ما سيتأكد كذلك عند رسم دستور الجمهورية الثانية بعد ذلك بنصف قرن، الأمر الذي سنواصل تبيينه في النقطة الموالية.
ثالثا: البعد المغاربي في دستور 26 جانفي/يناير 2014:
لقد كان دستور الجمهورية التونسية الثانية، أي دستور 26 جانفي/يناير 2014، نتاج المخاض الثوري لثورة الحرية والكرامة، ثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011، وكذلك محطة هامة من محطات مسار الانتقال الديمقراطي الذي ما تزال تونس تواصله منذ أكثر من ثماني سنوات، وعلى الرغم من بعد المسافة الزمنية عن لحظة الاستقلال عن المستعمر وخفوت شعارات الحركة الوطنية والإصلاحية جراء التجربة السلطوية، فإن البعد المغاربي مثلما ستثبت الوثيقة الدستورية الجديدة، كان حاضرا بقوة في العقل السياسي للمشرع الدستوري، وحافظ على مكانته سواء من حيث وروده في الديباجة، أو تخصيص فصل له، دون إغفال التراجع النسبي لموقع الحضور من حيث رقم الفقرة في التوطئة (الرابعة قياسا بالثانية) أو رقم المادة (الخامسة بدل الرابعة)، غير إن هذا التراجع قد لا يعكس نية المشرع أو قصديته، بقدر ما يعكس طبيعة المرحلة التي دفعت هذا المشرع إلى كتابة نص دستوري أطول (149 عوض 78)، وإلى الالتزامات الدستورية الجديدة التي فرضتها المرحلة الثورية.
لقد ورد في الفقرة الرابعة من توطئة دستور الجمهورية التونسية الثانية ما يلي: وبناء على منزلة الإنسان كائنا مكرما، وتوثيقا لانتمائنا الثقافي والحضاري للأمة العربية والإسلامية، وانطلاقا من الوحدة الوطنية القائمة على المواطنة والأخوة والتكافل والعدالة الاجتماعية، ودعما للوحدة المغاربية باعتبارها خطوة نحو تحقيق الوحدة العربية، والتكامل مع الشعوب الإسلامية والشعوب الإفريقية، والتعاون مع شعوب العالم، وانتصارا للمظلومين في كل مكان، ولحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولحركات التحرر العادلة وفي مقدمتها حركة التحرر الفلسطينية، ومناهضة لكل أشكال الاحتلال والعنصرية..”.
كما ورد في الفصل 5 : من الدستور التونسي الجديد “الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي، تعمل على تحقيق وحدته وتتخذ كافة التدابير لتجسيمها”.
ومن الأهمية هنا الإشارة إلى أن المشرع التونسي الجديد لسنة 2014 قد أحدث في نظرته للمسألة المغاربية بعض التغيير الذي لا يمكن إغفال منطلقاته الفكرية، فهو من جهة قد اعتبر الوحدة المغاربية في حال تحققها جزءا من مسار أكبر ألا وهو الوحدة العربية، وهو من جهة ثانية قام بفك الارتباط الإجرائي بين ضرورة العمل الحكومي من أجل تحقيقها والمصالح المشتركة مثلما فعل نظيره عام 1959.
رابعا: الدساتير المغاربية و الوحدة المغاربية:
إن المطلع على دساتير البلدان المغاربية الخمس -أو مسوداتها- سيخلص إلى أن جميع الدساتير المغاربية باستثناء الدستور الليبي الجديد الذي ما يزال مسودة (في نسخ متعددة)، قد نصت جميعها على البعد المغاربي، وقد تميز الدستور التونسي بينها مثلما أشير سلفا بتخصيصه مادة منفردة من مواده للعناية بالمسألة المغاربية، بينما اكتفت دساتير الدول الثلاث الأخرى بالإشارة إلى الأمر في الديباجة، وهو ما يبرر نسبيا ما ورد في إحدى وثائق المؤتمر الثامن للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم زمن الزعيم بورقيبة، المنعقد سنة 1971، وهي وثيقة صادرة عن اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية، تقول “إن تونس أكثر حماسا للمغرب العربي من شقيقاتها في الشمال الأفريقي، فهي ما انفكت تثبت لشقيقاتها أن وحدة الماضي ووحدة الجغرافيا ووحدة التاريخ واللغة والدين تحتم وحدة المصير..”.
لقد جاء في ديباجة الدستور الجزائري الحالي:” إنّ الجـــزائـــر أرض الإسلام وجـــزء لا يــــتـــجـــزّأ من اـلمــغـــرب الـــعـــربيّ الـــكـــبـــيـــر وأرض عــــربـــيّـــة وبلاد متـوسّطيّة وإفريقيّة تعتزّ بإشعاع ثورتها ثورة أوّل نوفمبر ويشرّفها الاحترام الّذي أحرزته وعرفت كيف تحافظ عليه بالتزامها إزاء كلّ القضايا العادلة في العالم”، أما في تصدير الدستور المغربي الذي جاء موجزا في تنصيصه على البعد المغاربي فقد دعا المشرع الدستوري المغربي إلى:” العمل على بناء الاتحاد المغاربي، كخيار استراتيجي”، بينما أتت صياغة المسألة المغاربية في ديباجة الدستور الموريتاني على النحو الآتي: “و وعيا منه (أي الشعب الموريتاني) بضرورة توثيق الروابط مع الشعوب الشقيقة فان الشعب الموريتاني شعب مسلم عربي إفريقي يعلن تصميمه على السعي من اجل تحقيق وحدة المغرب العربي الكبير والأمة العربية وإفريقيا ومن اجل السلم في العالم”.
ولئن خذلت الأنظمة والحكومات المغاربية في أغلب الأحيان دساتيرها التي تنص في مجملها كما أشير إلى ضرورة تحقيق الوحدة المغاربية، فإن “هاجس إقامة مغرب عربي موحد ظل أحد ثوابت الأحزاب والتنظيمات السياسية والاجتماعية في تونس إلى غاية اليوم، وهو ما أثبتته الكثير من الفعاليات والوثائق والشخصيات التي ما انفكت تذكر بوجوب إقامة البناء المغاربي.
خامسا: الوحدة المغاربية بين طموح النخبة والتزامات الدولة:
لقد عبرت النخبة الفكرية والسياسية التونسية منذ بداية القرن الماضي على الأقل، عن أشواقها المغاربية، فقد طالب الشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري التونسي (حزب الحركة الوطنية التحررية) “إلى ضرورة تأسيس حزب مغاربي يهدف إلى تجميع سكان إفريقيا الشمالية في إطار سياسي قوي لتحقيق مطالبهم في الوحدة والحرية”.
وقد انعكست رؤية رائد الحركة الوطنية التونسية على أدبيات حركة التحرر التونسي، في تأكيدها على وحدة المصير المغاربي وأهمية أن يتوج دحر الاستعمار بالاستقلال والوحدة المغاربية، وهو ما أجمعت عليه مجددا الأحزاب الوطنية الكبرى في الأقطار المغاربية الثلاث خلال مؤتمر طنجة 1958، الذي شارك فيه حزب الاستقلال المغربي والحزب الحر الدستوري التونسي إلى جانب حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري، وقد تجسد هذا الطموح النخبوي المغاربي مثلما فصل سابقا في الدساتير المغاربية التي ستصاغ بعد ذلك.
كما استمرت النخبة التونسية التي ستتحول في جزء منها إلى رجال دولة، في التعبير عن هذا الطموح حتى مع تجدد خيبات الواقع المغاربي تباعا، ومن أبرز الشخصيات الفكرية والسياسية التونسية التي واصلت تشبثها بالحلم المغاربي نجد رئيس الحكومة السابق المرحوم محمد مزالي، الذي يقول الدكتور عبد الطيف الحناشي عنه “إنه يرى – أي مزالي- أن أسباب التقارب والاتحاد بين المغاربة أوفر من أي وقت مضى و أدعى إلى الشروع في المرحلة العملية في بناء صرح المغرب الكبير..وأن الشعوب المغاربية مؤمنة حقا بحتمية المصير المغاربي المشترك” .
ولم تتخلى النخبة السياسية التونسية، بما في ذلك الحاكمة، عن التوجه المغاربي بعد انقضاء زمن بورقيبة، فقد كان الرئيس زين العابدين بن علي أحد المساهمين في تأسيس الاتحاد المغاربي في مراكش سنة 1989، إلى جانب الملك المغربي الحسن الثاني والزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس الجزائري الشادلي بن جديد رحمهم الله، والرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيدي احمد الطايع، وكان الطريق يبدو آنذاك معبدا لتحقيق آمال شعوب المنطقة، غير أن تقدير الدول المغاربية لالتزاماتها الضيقة سرعان ما أفسد الخطوات الجريئة التي قطعت في الاتجاه الصحيح وأعاد عقارب ساعة المغرب الكبير مجددا للوراء، ومع ذلك فطموح الشعوب المغاربية وإرادتها في الحياة لا بد وأن تنتصر يوما ما، وليس أدل على ذلك من الثورة التونسية وما انجر عنها من تأثيرات بالغة الأهمية على المنطقة، ومن شأنها ربما أن تفضي إلى آفاق واعدة في المستقبل المنظور لصالح الحلم المغاربي.
* رئيس المعهد العربي للديمقراطية
*المقال هو في الأصل ورقة قدمها الكاتب في الندوة التي نظمتها منظمة العمل المغاربي تخليدا للذكرى 30 لتأسيس الاتحاد المغاربي بمدينة مراكش يومي 16 و17 فيفري 2019.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP