الجديد

الديمقراطية "المقنعة" والتنمية "الممكنة"

الديمقراطية “المقنعة” والتنمية “الممكنة”
 
نحن نشتغل بكل شيء إِلَّا بما ينفع النّاس
ادواردو خوسيه – سياسي برازيلي
خالد شوكات
ثار النّاس قبل ثماني سنوات، وسالت دماء الشباب في الولايات الداخلية، في الرقاب ومنزل بوزيان وتالة والقصرين، احتجاجا – بالدرجة الأولى- على منوال تنموي مختلّ عمَّق الشرخ الاقتصادي والاجتماعي بين تونس الساحلية وتونس العميقة، وقوَّى مشاعر الغبن لدى فئات من التونسيين، ودفع المحتجين في مظاهرات الثورة الى رفع شعارات تندد بفساد العائلة الحاكمة واستبدادها، وتطالب بتنمية عادلة تساوي بين المواطنين وتوفر العمل للعاطلين وترفع الظلم عن المظلومين.
كان عدد العاطلين عن العمل حينها، اي قبل ثماني سنوات، يبلغ حينها بين 300 و400 ألف، لكنّهُ اليوم تضاعف تقريبا، وكانت ولايات مثل سيدي بوزيد والقصرين والقيروان الأعلى في نسبة الفقر، وما يزال حال هذه المناطق في أفق عشر سنوات من الثورة لم يتبدل، حيث تظهر خارطة الفقر في بلادنا في اخر نسخة لها ان الفقراء يشكلون الشريحة الأعلى في الجهات التي أطلقت شرارة الثورة، بين 50 و60 في المائة، تماما كما تظهر خارطة الأمل أن نسبة التفاؤل عند أكثرية التونسيين قد بلغت حدّها الأقصى.
لم تكن الثورة التونسية ثورة كلاسيكية، اي انها لم تفضي الى تغيير سياسي مرتبط بنيويا بتغيير اقتصادي واجتماعي، وفيما عدا بعض الملاحقات القضائية لعدد محدود ممن صنفوا في خانة “الطرابلسية” او المرتبطين بهم، فإن الثوار لم يطرحوا على أنفسهم تصفية الحساب مع الطبقة البورجوازية او الغنية التي تشكلت خلال العقود الستة التي سبقت الثورة، وهو ما أبقى مفاتيح التأثير والفعل السياسي عند هذه الطبقة، التي بمجرد تجاوز اللحظة الثورية ستعمل ما وسعها على توجيه الفعل السياسي بما يخدم مصالحها، وعلى هذا النحو تراجع تدريجيا مطلب “المنوال التنموي الجديد” لصالح إبقاء الحال التنموي على ما هو عليه، ودفعت الحياة السياسية الى مستنقعات “التفاهة” و”الشخصنة” و”الزبونية” و”خدمة الاجندات الضيقة: المناطقية والطبقية” وابتعدت تدريجيا عن الخوض في كل ما ينفع الناس وينمّي البلاد ويحقق أهداف الثورة الحقيقية.
لقد تشكّلت الطبقة البورجوازية والرأسمالية التونسية في سياقات تاريخية مختلفة عن تلك التي تشكلت خلالها نظيراتها في الغرب، حيث تتسم هذه السياقات غالبا ب”الشبهة”، في ارتباط وثيق بارادة السلطة السياسية وتوجهاتها ومصالحها، وعلى نحو لم يراعي دائما المساواة والعدالة، وهو ما أفضى عمليا الى بورجوازية او رأسمالية من نوع خاص، تهيمن عليها عقلية “احتكارية” أو “إقطاعية” للسوق ورغبة جامحة في الحفاظ على الخارطة التنموية السائدة، خلافا للعقلية التي سادت لدى البورجوازية والرأسمالية الغربية خلال قرون الثورة والإصلاح، والتي جعلت منها راعية للحراك الديمقراطي بكل ما يعنيه من برامج في ارساء منظومات شفافية الادارة الاقتصادية وعدالة المرفق القضائي ونزاهة الادارة ومؤسسات الحكم وتعددية المشهد السياسي.
ان تحريف مسار العدالة الانتقالية واختراق المشروع الديمقراطي، على نحو أفضى الى التخلي عن هدف الثورة الحقيقي وهو “المنوال التنموي الجديد” الذي من شأنه انصاف الجهات المحرومة وتنفيذ “التمييز الإيجابي” باعتباره قاعدة دستورية جديدة وفتح آفاق واعدة للاقتصاد الوطني من خلال فسح المجال لتجديد طبقة رجال الاعمال وخلق مواطن للثروة في الولايات الداخلية الواعدة، هو المسؤول الاساسي عن هذا الوضع الاجتماعي الذي تهيمن عليه مشاعر اليأس والاحباط، ومن هنا فإن أي عملية تصحيح إنما تقتضي الاعتراف بهذا التشخيص والعودة الى أولويات الثورة في التنمية والتشغيل والكرامة، وذاك هو السبيل الوحيد للانتقال الى “ديمقراطية مقنعة”.
لقد ضلّت المنظومة الحزبية جراء الاختراق الفاسد طريقها الى التنافس في ما ينفع الناس ويحقق انتظاراتهم ومصالحهم، فالأحزاب اليوم – في هذه السنة الانتخابية- ليس منشغلة ببرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي في مجملها مفتقدة للجان التفكير المتخصصة في هذا الشأن، وخطابها المقدم عبر وسائل الاعلام لا يتضمن القضايا الحقيقية ولا المقترحات الضرورية التي يمكنها مساعدة المواطنين على الاختيار بينها او الاطمئنان لسيرتها، وما هو بيّن وظاهر في مسلكها ليس سوى مزيد من الانغماس في التنافس الانتخابي بمعانيه السطحية التي تراهن على تفعيل اليات الفساد بأنواعه، مال مشبوه لشراء الذمم واستنجاد بالقبيلة والأيديولوجيا، وسعي محموم لاقتسام الغنيمة.
تتوفر تونس على جميع الموارد الفكرية والسياسية والبشرية والطبيعية الضرورية لجعل ديمقراطيتها الناشئة مقنعة لمواطنيها، من خلال وعي الطبقة السياسية بضرورة العودة الى الجادة، والتوقيع على ميثاق شرف جماعي يحرّم “الشخصنة” ويلتزم بالكفٌ عن المزايدة في ” الثوابت الجماعية” من قبيل الدين واللغة والوطنية، وليت وسائل الاعلام تنخرط وتشجع على هذا الانتقال فتنضبط الى مواثيق المهنة وتكف عن اللهث وراء الإثارة غير الاخلاقية وتجر السياسيين الى الحديث فقط فيما ينفع الناس ويرتبط بمصالحهم العامة.
ان ما يجب ان يسمعه الناس من المتنافسين في الانتخابات القادمة عبر وسائل الاعلام بأنواعها، هي افكارهم للخروج من الأزمة الاقتصادية وتحقيق النقلة التنموية النوعية وتنفيذ شعارات الثورة في التشغيل والنزاهة، فهذا هو ما يتقدم بِنَا ويجعل ديمقراطيتنا خيارا مستداما غير قابل للانتكاس، اما اذا ما أصررنا على مواصلة السير في طريق تصفية الحسابات الأيديولوجية العائدة الى حقبة الحرب الباردة، واستسهال طرق الفوز الانتخابي من خلال تفعيل وسائط الفساد المتعددة، فإننا سنكون حتماً على موعد ضائع إضافي نهدر فيه فرصة تاريخية للعيش بحرية وكرامة، وما اكثر الفرص التاريخية التي أهدرتها شعوبنا وأوطاننا وامتنا جراء الاشتغال بغير الاولويات الحقيقية، فالايدي اذا لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعاصي كما قال الخليفة عمر بن الخطاب “رض” والعدل اساس العمران اما الظلم فموذن بخراب البيوت كما قال علّامتنا عبد الرحمن بن خلدون.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP