الجديد

نهاية "توافق" الشيخين .. سقوط "توافق" ضد الطبيعة

توفيق المديني *
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي تمر بها تونس، والتي تعبر عنها مؤشرات عدة منها ارتفاع المديونية، وتراجع مدخرات العملة الصعبة، وصعوبة الخروج على الاسواق المالية، فان تونس تعيش أزمة سياسية، تغذت من اشتداد الخلاف بل الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية، وزاد اعلان الرئيس الباجي قايد السبسي، انهاء التوافق بينه وبين “شيخ النهضة”، راشد الغنوشي، في تعميقها وتعقيدها لترمي بظلالها على مشهد تغلب عليه مظاهر التوتر السياسي والقلق المجتمعي.
تعود جذور “التوافق” بين الشيخين، إلى “لقاء باريس” (صائفة 2013)، الذي جمع زعيم “حركة النهضة” راشد الغنوشي، بزعيم حركة “نداء تونس” الباجي قايد السبسي، يرجح أن يكون قد تم “بضوء أخضر” اقليمي ودولي.
لقاء أكد على أن تونس لا يمكن لها أن تحكم خارج سياق المعادلات الإقليمية و الدولية، بل إنها تحكم بقرار دولي، وهو ما يمكن تسميته ب “الحكم المعولم”، بين أهم مكونين سياسيين في تونس :التيار الديني ،متمثلاً بالإسلام السياسي والتيار العلماني المتمثل بحزب “نداء تونس”، وزعيمه التاريخي الباجي قائد السبسي .
حصل لقاء باريس، في أوج أزمة سياسية عاشتها تونس، بعد حصول اغتياليين سياسيين، ورد فعل قوي من قبل المعارضة، التي أصرت على إسقاط حكومة “النهضة”ن عبر الاعتصام أمام البرلمان وتعطيله، فضلا عن تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية. وكان الوضع حينها يوشك على التحول إلى صدام دموي، وفجأة جاء «لقاء باريس» السحري وانبثق عنه «الحوار الوطني» (الذي رعته كبرى منظمات المجتمع المدني التونسي).
وهنا لابد من الاشارة، الى أن «لقاء باريس»، لم يكن مجرد إعلان هدنة، بل تسوية كاملة و «تاريخية»، يقبل بموجبها النظام التونسي (الذي لم يسقط يوماً منذ تأسيسه) بالإسلاميين كشركاء في الحكم، سالمين غانمين وفق شروط معينة أهمها :
1/ عدم المس بالنظام الاقتصادي والعلاقات الخارجية «التاريخية» لتونس
2/ التخلي عن محاولة تغيير «النمط المجتمعي
3/ عدم المطالبة بأي محاسبة على الجرائم الحقوقية والاقتصادية التي ارتكبت طوال عقود الديكتاتورية.
لم يكن أمام حركة النهضة، التي جربت بؤس السجون والمنافي ولذّة الحكم والسلطة، إلا أن تقبل خصوصا أنها أصبحت تخشى سيناريو مماثلا للذي حصل للإخوان المسلمين في مصر. وهكذا تبادل الطرفان عهود الأمان وصكوك الغفران، وأصبح الإخوان (حركة النهضة) جزءا من النظام التونسي “المعدّل”.

لقد رسم لقاء باريس المشهد السياسي التونسي الراهن ، وهو أيضا الذي أسّس وشكّل المرجعية الحقيقية للشراكة في الحكم بين” النداء و النهضة”،في مرحلة ما بعد الانتخابات التي شهدتها البلاد في خريف و نهاية العام 2014.فكل ما حدث بعد لقاء باريس من اتفاقات وانتخابات وتشكيل حكومات كان بمباركة “الشيخين” (الغنوشي والسبسي) ورعاتهما الإقليميين والدوليين.

تشكيل حكومة الائتلاف اليميني (نداء تونس، نهضة آفاق تونس، الاتحاد الوطني الحر) بعد نتائج انتخابات أواخر 2014 لم يصدم إلّا الذين كانوا يتوهمون بأن النظام التونسي “العلماني” ما زال في صراع مع الإسلاميين، أو أن الإسلاميين جزء من “المسار الثوري”.

كما أن التركيبة اليمينية العلمانية – اليمينية الدينية لحكومة الحبيب الصيد الأولى ، ولحكومة يوسف الشاهد المستمرة،وهذا التحالف “غير المنطقي” بين “الحداثيين” و “الإسلاميين” جعلا العديد من الأحزاب اليسارية ومنظمات المجتمع المدني ذات التوجه العلماني تعادي الإئتلاف الحاكم.

يبدو أن الأزمة السياسية التي تعيشها تونس منذ أشهر، بدأت تقلق الشركاء / الرعاة (الاتحاد الأوروبي، أميركا، صندوق النقد والبنك الدوليان، رجال أعمال محليون، الخ..)، واعتبروها مظاهر عجز للنظام السياسي التونسي،بسبب صيرورة تطور المشهد السياسي التونسي،وما أفرزه من صراع المصالح واللوبيات في داخل الطبقة السياسية الحاكمة،وتفكك وتشظي حزب نداء تونس إلى عدة أحزاب سياسية منذ سنة 2015 ولغاية الآن،الأمر الذي أنهك الحزب الحاكم وأضعفه وأفقده وزنه كقوة سياسية فاعلة وككتلة أولى في البرلمان، وفسح المجال إلى انبثاق واقع سياسي قائم على موازين قوى جديدة (النهضة، كتلة الائتلاف الوطني كحركة سياسية داعمة للشاهد)،مما شكل ضغطًا شديدًا على”الشيخين” وجعلهما يعلنان الطلاق
جاءت الأزمة السياسية الممتدة منذ أشهر، لتزيد في تعميق الأزمة التي يعيشها النظام السياسي الحالي ، بوصفة نظامًا برلمانيًا معدلاً خلق مشاكل عديدة على مستوى تسيير البلاد لاسيما في ما يتعلق بالسلطة التنفيذية الموزعة بين رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب وليست له صلاحيات ووقع إضعافه وتهميش دوره، ورئيس حكومة معين وله صلاحيات كبرى.
مشهد سياسي مختل تسبب على حد قول أساتذة القانون الدستوري في تونس في تغييب فظيع لإرادة الناخبين و ضرب التمثيلية الشعبية الحقيقية و إضعاف الدولة. ما يفترض التعجيل بتعديل الدستور من أجل بناء نظام سياسي ديمقراطي واقعي يتلاءم مع الواقع التونسي فالدستور “ليس مقدّسا” وأنه يمكن تعديله في أي وقت مثلما يحصل ذلك في الدول الديمقراطية العريقة التي تعدل دساتيرها باستمرار تماشيا مع التطورات العامة في بلدانها.
**كاتب ومحلل سياسي

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP